موجز لسيرةِ المعلم الشهيد كمال جنبلاط
تاريخ النشر: 17/03/19 | 8:53وُلد كمال جنبلاط في 6 كانون الاول سنة 1917 في قرية المختارة في جبل لبنان، وقد اغتيلَ والدهُ فؤاد جنبلاط الذي كان يعملُ قائم مقام وهو لا يزال طفلا، فتولت والدته السيدة نظيرة جنبلاط، شؤونَ تربيتِهِ وتعليمِه. وأدخلته مدرسة : “عين طورة ” وقد بدت عليهِ ملامحُ الذكاء منذ الصغر وأبدى تفوقا كبيرا وملحوظا في دراسته . ومما يروى عنه من زملائهِ وأترابه في الدراسةِ انه كان بعد انطفاءِ النور في غرف النوم يضيءُ شمعة ويكمل المطالعة والتحصيل الدراسي . ومن حيث كونه ينتمي لأسرة اقطاعية غنية جدا أخذ على عاتقهِ وحسابه الخاص تعليم عدد من زملائه في المدرسة من الذين ظروفهم وأوضاعهم المادية صعبة . وكانت أمه الست ” نظيرة ” تظن في البداية انه يأخذ الاموالَ منها ليصرفها على نفسه وطعامه ورفاهيته، ولكنها عرفت فيما بعد أنه لا يهتم بالمظاهر وبحياة اللهو والترف، وما كان يأخذه من أموال هو من نصيب زملائهِ الفقراء المعدمين- وقد فرحت أمه لهذا الشيىء، وكما أن ميلَ كمال جنبلاط الشديد الى الدراسة والتأمل وصغر سنه لم يمنعه من التفاعل والانخراط باعتدال مع القضايا المهمة المحوريَّة آنذاك . وقد ذهب في ذكرى استقلال مصر عام 1934 الى رئيس الرهبان في ” عينطوره ” وصاحب القرار في المدرسة وطلبَ منه إعلان ذلك اليوم يوم عطلة احتفاء واحتفالا باستقلال أول دولة عربية فاستجاب رئيسُ الرهبان الى طلبه مستحسنا ذلك بكلِ حبٍّ وسرور .
بعد أن انهى كمال جنبلاط دراسته الثانوية كان طموحهُ يتجهُ الى التخصص في موضوع الهندسة.. ولكن أمهُ اقنعتهُ بدراسةِ المحاماة والقانون لأنها كانت تتمنى أن يصبحَ ابنها سياسيا بارزا يكمل مشوار والده ومشوار العائلة الجنبلاطية العريقة التي تمتد جذور زعامتها في أعماق أعماق التاريخ ، حيث لعب رجالاتها دورًا رئيسيا فعالا في زعامةِ الطائفة الاسلامية العربية التوحيدية الدرزية على جميع الأطر والصعد ، وخاصة على الصعيد اللبناني . لم يخالف كمال جنبلاط رغبة والدتهِ، وسافرَ الى باريس عام 1938 والتحق بجامعةِ السوربون هناك، وباشر بدراسةِ الحقوق إلا أن ميله الى الهندسةِ والعلوم ظلَّ يلح عليه، لكنه انضمَّ في نفس الوقت الى معاهد الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع . وفي أثناء فترةِ الحرب العالميةِ الثانية رجعَ الى لبنان ليكملَ دراسة الحقوق في الجامعةِ اليسوعية ببيروت . لقد تركت الحربُ العالمية الثانية آثارهَا السلبية على الوضع الاقتصادي المعيشي لدى اللبنانيين… حيث انقطعت المواد الغذائية وبعض البضائع وارتفعت اسعارُ المواد الاستهلاكية اليومية فاستنفرَ ذلك كمال جنبلاط فتحركَ مع بعض اصدقائهِ وأسَّسَ “جمعية تعاونية استهلاكية” عملت على شراءِ الحنطة من منطقة حوران في سوريا وتمَّ توزيعها على أهالي القرى اللبنانية بسعر التكلفة، وفي عام 1942 نال شهادة الحقوق وبدأ يمارسُ مهنة المحاماة وبعدها عينتهُ الدولة محاميا لها، لكنه لم يستغرق وقتا طويلا في ممارسةِ مهنة المحاماة، اذ بعد مرور سنة توفي ابن عمِّهِ “حكمت جنبلاط” نائب جبل لبنان وبويع كمال بالزعامةِ بعد انتهاء مراسيم الدفن مباشرة
وكان عمره 25 سنة وفاز في الانتخابات النيابية عام 1943 وتكرَّسَ وتوغلَ بذلك انخراطه في السياسة . وفي أول خطاب له في مجلس النواب أكد تأييد ه لتحقيق الاستقلال التام للبنان وألحَّ على تشديدِ المطالبة بذلك “حكومة وشعبا ” وبجميع الوسائل الممكنة من أجل تحقيق تلك الغاية . وأشادَ بموقف الحكومة الذي يربط بين استقلال لبنان وإعلان عروبته .
بدأ كمال جنبلاط يتابع أعمال الحكومات المتعاقبة في لبنان، بعد معركة الاستقلال، خاصة في نواحي التنمية والاصلاح ، وبسبب القصور وعدم الاهتمام في تلبية مطالب الشعب انتقل كمال جنبلاط من صفوف الموالاة الى صفوف المعارضة. وفي عام 1946 وقع مع بعض الشخصيات اللبنانية المرموقة ذات النفوذ السياسي والاجتماعي عريضة تطالب رئيس الجمهورية بتشكيل حكومةٍ من الاشخاص المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والمحافظة على الاستقلال التام والذي غدا معرضا للضياع . وفي أواخر سنة 1946 تشكلت حكومة جديدة عُهدَ فيها الى كمال جنبلاط بوزارة الاقتصاد الوطني والزراعة والشؤون الاجتماعية. وكانت هذه المرة الاولى التي يدخلُ فيها جنبلاط الوزارة. وقد أثبتَ للجميع في اثناء ممارسةِ مهامهِ على كفاءةٍ مثلى ونزاهة كبيرة . وكان عدوا شرسا للفسادِ والإاهمال وشنَّ حربًا شعواء على الرشوة في الوظيفة ولاحقَ بنفسه الراشي والمرتشي . وكان في بعض الأحيان يتنكرُ ويذهبُ خفية لمراقبةِ موظفي الجمارك وموظفي ومديري مكاتب وزارته، ولكن الفساد كان منتشرا ومن الصعب معالجته بهذا الاسلوب.. واتضحَ له عمقُ المعضلة وتوغلُ الفساد والفوضى والرشى في الاجهزة الاداريةِ والحكومية في الدولة فأعلنَ استقالته من الحكم فانفجر الوضعُ وتوتر الوضع بينه وبين رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري وبقي الخلاف قائما بينهما على أشدِّهِ حتى الاطاحة برئيس الجمهورية على اثر مهرجان دير القمر التاريخي الذي تمخض عنه اتخاذ قرار بذلك ، وكان كمال جنبلاط المحرك الرئيسي والفعال لتحقيق ذلك الأمر .
عمل كمال جنبلاط مع عدد من رجالاتِ الفكر والسياسة في لبنان بين عامي 1947-1949 على بلورةِ الخطوط الكبرى لمشروع حزب تقدمي اشتراكي فوضع بنفسه الأسسَ والمبادئ الفكرية وبرنامج الحزب وصاغها في ميثاق بعد درس ونقاش، وتمَّ الاعلانُ عن تأسيس هذا الحزب ” الحزب التقدمي الاشتراكي” سنة 1949. وفي الاول من ايار سنة 1949 اقيم حفل بمناسبة الاعلان عن ولادةِ هذا الحزب ألقى كمال جنبلاط خطابا قال فيه: “في يوم العمال ، وبينهم الفلاحون والصناع وأرباب الحرف القابضون بايديهم والمسيطرون على القوى الهائلة الكامنة بالشعب وبالجماهير العاملة والمنتجة، في هذا اليوم الذي أصبح يوم ذكرى وتذكير بالتعاسةِ والبؤس والارهاق نتيجة انعدام العدل الاجتماعي، وظلم الانسان لأخيه الانسان في هذه الساعة التاريخية من حياتنا التي انعقد فيها شرف قيادة حركة التحرير والسعي في سبيل العدالة والاخوة والمساواة الجوهرية بين البشر في هذا المكان من العالم.. نرحب بكم باسم الحزب التقدمي الاشتراكي الذي أولانا فضل تمثيله، اعلانا للحركةِ واذكاء للصراع العقائدي المرتقب، وايذانا ببدء انتظام جماهير رجال الفكر والعمال والفلاحين في سيرورته… في حلبة النضال العقائدي قد يكون لنا أعداء ولكنهم في الوقت نفسه سيكونون أعداء التطور والتقدم والحياة الانسانية الشريفة ” الخ .
مع ولادةِ الحزب التقدمي الاشتراكي بدأ كمال جنبلاط حياة ً مليئة بالعمل والنشاط كما لاحظ منذ البداية ضخامة المشكلة النابعة من التنوع الشعبي والطائفي في لبنان وافتقاد الوشائج والروابط الوطنية والقومية الحقيقية منه وبذل كل جهد لتجاوز هذه المعضلة، من خلال موقعه كقائد وطني تقدمي لبناني ، وكقائد للحزب التقدمي الاشتراكي ، وبوعيه وبحنكتهِ السياسيةِ استطاع َ إبعادَ الصراع الداخلي ( الحزبي والطائفي في لبنان ) وأن يقودَ (الجبهة الاشتراكية عام 1951 وجميع القوى والجهات التقدمية والوطنية القومية واليسار في لبنان وظلَّ على ذلك حتى اليوم الاخير من حياته . وعندما كرَّسَ رئيسُ الجمهورية كميل شمعون نشاطاته وامكانياته ومنصبه ودوره السياسي ضدَّ القومية العربية والقضايا الوطنية المحلية والقومية المصيرية وكررَ أخطاء عهد بشارة الخوري في الادارةِ والحكم . كما دعا الى ربط لبنان بالغرب عبر إقامةِ الأحلاف الرجعيةِ الأمبريالية بالتنسيق مع أعداءِ العروبةِ والوحدة العربية ( امريكا والدول الغربية واسرائيل) وكانت غاية هذه الاحلاف تطويق الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وشل حركة النهوض الوطني التقدمي بسوريا، ودفع هذا كمال جنبلاط للتحول الى معارضةِ سياسة كميل شمعون الرجعية العميلة الى حد القطيعة الكاملة معه ، وبعد الانتخابات النيابية عام 1958 . هذا وانتهت الأمور في لبنان بقيام حرب أهلية سنة 1958 بين المعارضين لكميل شمعون وبين مؤيِّديه . ولعبَ كمال جنبلاط دورا جنبلاط بارزا مهما لصالح المعارضين والجهات القومية التقدمية التي تريدُ لبنانَ حرًّا مستقلا عربيا غير مهجن ومقيد بالدول الغربية والاستعما ر . وفي نفس الوقت قام كمال جنبلاط بتهدئة الأوضاع الداخلية التي تفاقمت فأفشلَ سياسة َ كميل شمعون، وتمَّ انتخاب فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية خلفا له .
بعد الانتهاء من أحداث عام 1958، وضعَ كمال جنبلاط كتابين بالغي الاهمية حول مجرى الاحداث وأبعادها وارتباطها بالوضع الداخلي اللبناني، وهما : “حقيقة الثورة اللبنانية” و “في مجرى السياسة اللبنانية” ومما جاء فيهما يقول: “يتضح للقارئ ان الطائفية السياسية في لبنان هي وليد الجهل، وجهل الزعماء التقليديين أصحاب النفوذ بالدرجةِ الاولى وان الكفاءة اذا وُجدت في حكام لبنان مع النزاهة والأمانة الوطنية وقيام نظام للخدمةِ المدنية مستقل عن الاهواء، كفيل بحل مشكلة الطائفية في القطر العربي اللبناني ” .
هذا وأشارَ المعلم كمال جنبلاط الى الطريق الوحيد لخلاص لبنان بقوله : “على إخواننا الإنعزاليين في لبنان والجامدين من الفريقين ان يدركوا بأن خلاصَ لبنان هو في مجاراةِ تيَّار التطور نحو مدنيةِ الأنظمة ومدنية الدولة لا في التعثر فيما خلفه نظام 1864 من رواسب طائفية. وأضافَ : إنَّ الوقوف في وجه عجلة التطور سيسحقنا ويقضي على لبنان الحر، الدمقراطي، الموحد. وأصدَر بعد ذلك بيانا دعا فيه لتأليف: حكومة ونظام حكم على اساس وطني عربي حر صريح ، لا على اساس طائفي في جوهره وهدفه، ودعا الى اتخاذ بعض التدابير في النهج العام وفي التشريع، لصهر اللبنانيين وتوحيدهم والقضاء على سياسة التمييز، والتحيز ، والفوارق الاجتماعية العميقة السائدة بين المواطنين .
وفي عهد الرئيس فؤاد شهاب تولى كمال جنبلاط وزارة التربية الوطنية فخاض معركة قاسية بهدف اقرار انشاء عشرات المدارس الثانوية الرسمية ، أعطى غالبيتها للمناطق المتخلفة في البقاع والجنوب والشمال. وتولى كمال جنبلاط بعد ذلك في عهد رئيس الجمهورية ” شارل الحلو” منصب وزير الداخلية وتمكن من تعزيز الثقة والتقارب بين السلطة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية وحرص على تأمين الحماية للمقاومة الفلسطينية ومنع التعرض لها بسوء أو لأيِّ انسان فلسطيني مهما كان، ومن الجدير بالذكر ان كمال جنبلاط قد وزَّع الكثيرَ من الاقطاعات والضياع والاراضي وقرى بأكملها كان يمتلكها على اللائجين الفلسطينيين الذين شُرِّدُوا بعد نكبةِ عام 1948 ولجؤوا الى لبنان، كما ان منطقة أو معسكر “تل الزعتر” الموقع العسكري والاستراتيجي المهم الذي تجمعت فيه النخبة ُ المختارة من قوى المقاومة الفلسطينية. كان تل الزعتر هذا ضمن أملاك كمال جنبلاط التي وزعها مجانا على الفلسطينيين المشردين اللاجئين. وقد حدَّدَ كمال جنبلاط أهدافه في وزارة الداخلية بما يلي: “فصل قوى الأمن الداخلي عن الجيش، حرية التظاهر المنظم، حرية تشكيل الاحزاب، تنظيم العلاقة مع المقاومة الفلسطينية، حرية السفر الى خارج لبنان، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعدم ملاحقة المطلوبين” . وعندما تولى ” سليمان فرنجية ” رئاسة الجمهورية عام 1970 وقفَ كمال جنبلاط مؤيدا لسياسةِ العهد الجديد لازالةِ اشكال التدخل الاعتباطي في حياة المواطنين ومنع الرقابة على الهاتف والضغط على الحريات، كما أيَّدَ بعضَ الإصلاحات الاجتماعية التي تبنتها الحكومة والبدء بتطبيق الضمان الصحي.. لكنه وقف بالمقابل معارضا لأيةِ محاولةٍ للارتداد عن المؤسساتِ والانجازاتِ التي حصلت للبلاد خلال العهدين السابقين ، وخاصة مشروع الانعاش الاجتماعي ، والمشروع الاخضر، والتفتيش المركزي ، ومجلس الخدمة المدنية ، كما عارضَ المحسوبية ودعا الى المشاركةِ الحقيقيةِ في الحكم وإقامة التوازن داخله ورفع الهيمنة وحيدة الجانب في مختلف جوانب القرار في الدولة . ومن جراء ذلك ساءت علاقته مع الرئيس فرنجية ، ووصل التراجعُ ذروته مع أحداث 1973 بين المقاومة الفلسطينية والجيش، ثم على اثر أحداث عين الرمانة في 13 نيسان 1975، التي كانت بداية صراع مسلح مدمر أصاب الشعب اللبناني بخسائر فادحة . وكان دور كمال جنبلاط وحزبه ” التقدمي الاشتراكي” مواجهة الكارثة بأقصى ما أمكن من الوعي ورباطة الجأش والخط العربي القومي الحر التقدمي السليم . وكرس نفسه ايضا للدعوة لوقف القتال وازالة الاسباب العميقة التي فجرت الاحداث ، وخاصة الصراع بين الحرية ومناوئيه والنظام الطائفي الرجعي المهترئ في لبنان . وفي عهد الرئيس فؤاد شهاب تولى كمال جنبلاط وزارة التربية الوطنية فخاض معركة قاسية بهدف اقرار انشاء عشرات المدارس الثانوية الرسمية، أعطى غالبيتها للمناطق المتخلفة في البقاع والجنوب والشمال وتولى كمال جنبلاط بعد ذلك في عهد رئيس الجمهورية ” شارل الحلو” منصبَ وزير الداخلية وتمكنَ من تعزيز الثقة والتقارب بين السلطة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية وحرص على تأمين الحماية للمقاومة الفلسطينية ومنع التعرض لها بسوء او لأي انسان فلسطيني مهما كان، ومن الجدير بالذكر ان كمال جنبلاط قد وزع الكثير من الاقطاعات والضياع والاراضي وقرى بأكملها كان يمتلكها على اللائجين الفلسطينيين الذين شرّدوا بعد نكبة عام 1948 ولجؤوا الى لبنان، كما ان منطقة او معسكر “تل الزعتر” الموقع العسكري والاستراتيجي، المهم الذي تجمعت فيه النخبة المختارة من قوى المقاومة الفلسطينية. كان تل الزعتر هذا. ضمن املاك كمال جنبلاط التي وزعها مجانا على الفلسطينيين المشردين اللاجئين. وقد حدد كمال جنبلاط أهدافه في وزارة الداخلية بما يلي: “فصل قوى الامن الداخلي عن الجيش، حرية التظاهر المنظم، حرية تشكيل الاحزاب، تنظيم العلاقة مع المقاومة الفلسطينية، حرية السفر الى خارج لبنان، اطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعدم ملاحقة المطلوبين” . وعندما تولى ” سليمان فرنجية” رئاسة الجمهورية عام 1970 وقف كمال جنبلاط مؤيدا لسياسة العهد الجديد لازالة اشكال التدخل الاعتباطي في حياة المواطنين ومنع الرقابة على الهاتف والضغط على الحريات، كما ايد بعض الاصلاحات الاجتماعية التي تبنتها الحكومة والبدء بتطبيق الضمان الصحي.. لكنه وقف بالمقابل معارضا لاية محاولة للارتداد عن المؤسسات والانجازات التي حصلت للبلاد خلال العهدين السابقين وخاصة مشروع الانعاش الاجتماعي، والمشروع الاخضر، والتفتيش المركزي ، ومجلس الخدمة المدنية ، كما عارض المحسوبية ودعا الى المشاركة الحقيقية في الحكم واقامة التوازن داخله ورفع الهيمنة وحيدة الجانب في مختلف جوانب القرار في الدولة . ومن جراء ذلك ساءت علاقته مع الرئيس فرنجية، ووصل التراجع ذروته مع أحداث 1973 بين المقاومة الفلسطينية والجيش ، ثم على اثر أحداث عين الرمانة في 13 نيسان التي كانت بداية صراع مسلح مدمر أصاب الشعب اللبناني بخسائر فادحة . وكان دور كمال جنبلاط وحزبه ” التقدمي الاشتراكي ” مواجهة الكارثة بأقصى ما امكن من الوعي ورباطة الجأش والخط العربي القومي الحر التقدمي السليم . وكرس نفسه ايضا للدعوةِ لوقف القتال وازالة الاسباب العميقة التي فجرت الاحداث، وخاصة الصراع بين الحرية ومناوئيها والنظام الطائفي الرجعي المهترئ في لبنان .
هذا وقدم مشروعا وطنيا للخروج من الصراع والقتال وتبنتهُ أحزابُ الحركةِ الوطنية التي اسسها كمال جنبلاط وكان رئيسها وسمى ذلك المشروع “البرنامج المرحلي للاصلاح السياسي في لبنان” . وبقي كمال جنبلاط مستمرا في رسالته الانسانية التقدمية الحضارية المثلى دون رهبة او خوف متصديا لجميع الاخطار والاهوال المحدقة به من جميع الجهات وخاصة الرجعية العميلة . وبينما كان جنبلاط في ذروة عطائه وأوج امكانياته كزعيم وطني حقيقي موهوب، مدركا بعمق ابعاد الوضع اللبناني، ولا يوجد من يضاهيه في مقدرته على معالجة أزمات لبنان ودك الاخطار عنه سقط شهيدا برصاص الغدر والعمالة والخيانة في 16 آذار عام 1977، وهو مسافر بسيارته ما بين بعقلين، وكفرحيم في مكان اسمه “دير دوريث” في جبل لبنان وباستشهادِهِ تأكد خصومُهُ مثل أصدقائه كم كان حجمه النضالي كبيرا على كافة الصعد: لبنانيا وعربيا، وعالميا ، وأسفَ عليه الأحرار والشرفا ء في الوطن العربي وفي جميع دول بقاع العالم. لم يكن القائد التقدمي الكبير الشهيد كمال جنبلاط زعيما محليا فذا فقط ، بل كان أيضا مفكرا وفيلسوفا وشاعرا وخطيبا مصقعا وسياسيا ومعلما وانسانا رائدا يشابهُ الملائكة َ والانبيا ء والقديسين في أعماله وتضحياته وعطائه حتى يوم استشهاده. وإنَّ مفهومَهُ للاشتراكيةِ كمشروع انساني كفيل باسقاط ظلم الانسان لأخيه الانسان ، وقيام مجتمع العدالة والحق والكرامة والجمال، مجتمع خال من الفوارق الطبقية ، عماده ولحمته الدمقراطية الشعبية والانعتاق الشامل السياسي والثقافي والمعنوي والمعيشي، يعتمدُ بالدرجةِ لأولى وقبل أيِّ شيء آخر على “الوعي” وفي احتمالات تفتح ظاهرة ” الوعي “للدرجة القصوى” يكمن أمل البشرية بالوصول للحضارة الانسانية الخالية من الزيف والخداع، والكفيلة باسعاد البشرية وسيادة السلام الاجتماعي والسلام والأمن بين الامم والشعوب والسلام العالمي على كوكبنا الارضي . ان المعلم الشهيد كمال جنبلاط كان منذ صغره حتى آخر يوم في حياته ذا نزوع انساني اصيل وبعيد عن التعصب وعن الاستعلاء الوطني والقومي ، يصبو ويعمل لأجل تحقيق انسانية جديدة متحضرة متضامنة، متعاونة، اساسها وفحواها ولحمتها المساواة الكاملة في جميع الحقوق والواجبات واعطاء المفاهيم الاخلاقية: الشرف، الكرامة، الصدق، الحظ الاكبر في الانتشار والازدهار بين جميع الناس على مختلف انتماءاتم وطبقاتهم الاجتماعية . كان الشهيد المعلم كمال جنبلاط رجلا متواضعا ومتقشفا يكرهُ حياة الترف والرفاهية والملذات رغم العز والرخاء الاقتصادي الذي يتمتع به فتركَ قصره الضخم الكبير في قريته المختارة وسكن في غرفة صغيرة نائية عن القصر شبه مظلمة متأملا فيها ومتعبدا ومتزهدا يفكر في الروحانيات ويتأمل في اسرار هذا الوجود والعالم الواسع مسلما ومندهشا وساجدا لعظمةِ الخالق الباري الذي أبدع هذا الكون المجهول .
وكان كمال جنبلاط صادقا مع نفسه ومع الآخرين وملما بجميع التيارات الفكرية والسياسية والفلسفية في مختلف انحاء العالم حتى قيل عنه انه انسكلوبيدية معارف ” . ” : وكان يعرف اكثرَ من 13 لغة يتقنها بشكل جيد ومنها ( اللغة السينسيكريتية الصينية القديمة ) التي يعرف رموزها وأسرارَها، بضعة اشخاص فقط في العالم ، كما أن كمال جنبلاط كان يمارسُ رياضة ” اليوجا ” يوميا لانه حسب ما ذكرَ عنه لهُ المام بجميع الديانات والثقافات والفلسفات وابداعات شعوب العالم . وكانت له علاقاتٌ وصداقة وطيدة مع معظم زعماتِ وقادة الشعوب التقدميين الاحرار أعداء الدكتاتورية والاستعمار مثل الرئيس الصيني ” ماوتسي تونغ ” والرئيس المصري جمال عبد الناصر… وجيفارا وغيرهم. . .
مؤلفاته : لقد قيل حسب ما رواهُ المقربون إنه كتبَ بخط يده زهاء ثلاثة آلاف افتتاحية بالعربيةِ والفرنسية، واكثر من عشرين الف تصريح صحفي ومئات الدراسات والبيانات التي وضعها على امتداد ثلاثين عاما ونيف. وله نحو سبعين خطابا وحديثا مسجلا بصوته، وله افلام سينمائية وتلفزيونية ولوحات فنية، وعدة أطروحات جامعية ، أما الكتب التي ألّفها وأصدرها فمنها : لبنان وحرب التسوية ، نحو اشتراكية اكثر انسانية السلام، العمال والفنانون، حقيقة الثورة اللبنانية ، الدمقراطية الجديدة، فيما يتعدى الحرف، في السياسة اللبنانية، ثورة في عالم الانسان، في الممارسة السياسية ، أدب الحياة ، هذه وصيتي، حقيقة الفكرة القومية السورية ، نكون أو لا نكون ، ربع قرن من النضال ، البوذية ، العلاج بعشب القمح ، وغيرها من الكتب . .
كما أن له ديوان شعر مطبوع يحتوي على مجموعة قصائد فلسفية تأملية ذات طابع رومانسي صوفي قدسي وهي متحررة من قيود الوزن التقليدي
خاتمة :
وأخيرا- مهما كتبنا عن هذا الانسان العبقري الفذ الخالد والسياسي المحنك نبقى مقصرين كثيرا ولا نستطيع إعطاءَهُ حقه، لانه ليس انسانا عاديا وقد جاء في وقت وفي زمن كانت قوى الشَّرِّ والكفر والضلال في لبنان تريدُ السيطرة والهيمنة على كلِّ شيىء وطمسَ كلِّ فكر نيِّر وَوَأدَ كلِّ صوتٍ وضمير ينادي بالحريَّةِ والكرامةِ والحق … ورآهُ الكثيرون من الأحرار الشرفاء والوطنيين والمؤمنين الأطهار الملاذ والأملَ والعنوان، والكثيرون منهم وضعوه في مصاف القديسين والأولياء، وفي أخلاقه وسلوكه وأعماله وتجاربه واختباراته الحياتيَّة التي مرَّ بها يُشابهُ الرُّسلَ والأنبياء حيث احتذى واقتدى بهم إيمانا وعملا وتضحية وتفانيا لأجل إرضاء الرَّب جلت قدرته قبل كل شيىء ولأجل خدمةِ البشريَّة والأجيال وبما يرضي الله والرسلَ والانبياء . إنهُ شهيدُ الحق والحرُّيَّة والعدالة والايمان.. شهيد النضال والكفاح ضد الظلم والاستعمار، ضد الخيانة والعمالة والتبعية للمستعمرين الأجانب . وقلما تنجبُ هذه الارض رجالا وقادة مثل كمال جنبلاط.. ربما كل بضعة عقود أو قرون من الزمان وتتمخض الحياة ويبعث الخالق انسانا فذا مثاليا وقائدا رمزا ملهما ومعلما رائدا هاديا ومرشدا مثل كمال جنبلاط ، فبعد موتِ الرئيس الخالد جمال عبد الناصر أو استشهاده وبعد استشهاد المعلم كمال جنبلاط بقي العالمُ العربي متخبطا لا توجد له بوصلة أو قيادة قوميَّة حرة ترشده للطريق الصحيح على مختلف الصعد الوطنية المحلية والقومية الشاملة. .
( بقلم : حاتم جوعيه – المغار – الجليل – )