الزعيم وظليله “الشهيد الحي”
تاريخ النشر: 20/03/19 | 7:07في تاريخ مصر حوادث لا تنسي فلقد كان بعضها الشرارة لاحداث تغييرات جذرية في الشأن السياسي المصري ومن هذه الحوادث البارزة حادثة مقتل سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام السير لي ستاك عام ١٩٢٤ حيث وصفها الزعيم سعد زغلول ورئيس الوزراء وقتها بأنها: اكبر الحوادث أثرا وأسوؤها شؤما فهجمت هذه النازلة علي البلاد فأزعجتها وهزت أرجاءها هزا عنيفا وكنت أول المهزومين بهجومها وأول المتطيرين من شرها !!!!!… حيث قام مجموعة من الجماعات السياسية المسلحة والتي كانت يعج بها المجتمع المصري انذاك حيث كانت الرغبة ملحة في التخلص من احتلال انجليزي بغيظ جاثم علي الجسد المصري و هذه الجمعيات الوطنية المسلحة وبعضها كان تابعا لاحزاب وجماعات كانت شديدة الكثرة و التعقيد في تركيبتها واتصالاتها مما جعل مسألة تتبعها والوصول اليها مسألة صعبة في كثير من الاحيان وترتب علي هذا التنوع وغياب الزعامة الروحية الرشيدة أنماط متعددة من الزعامة فقد كان كل فرد من هذه الجماعات يعتبر نفسه زعيما حتي وان لم يتحلي بالقدر المناسب من الحنكة والقدرة والممارسة السياسية ..كانت المجموعة التي اغتالت السيرلي ستاك مؤلفة من عدة شبان في مقتبل العمر أولهم عبد الفتاح عنايت الطالب بمدرسة الحقوق وكانت مهمته في العملية أعطاء اشارة البدء عند خروج السردار من مبني وزارة الحربية والثاني كان عبد الحميد عنايت الطالب بمدرسة المعلمين مرابطا عند شارع القصر العيني وكان موكلا اليه القاء قنبله لتخويف المارة وتأمين الهروب اما محمود راشد فكان في السيارة المعدة للهرب بينما كان المنفذين ثلاثه هم ابراهيم موسي وعلي ابراهيم وراغب حسن ..
كانت نتائج هذا الاغتيال وخيمة حيث اعتبر الجنرال اللنبي حادث السردار ثأرا ينبغي القصاص له بأقصي درجات الشدة والحزم فقاد مظاهرة عسكرية من خمسمائة جنديا من حملة الرماح حاصرت مجلس الوزراء و مقدما لسعد باشا زغلول انذارا شديد اللهجه بسرعة القبض علي المنفذين واقامة جنازة رسمية له يسير فيها الوزراء ورئيس الوزراء بالملابس الرسمية ودفع دية السردار وقدرها نصف مليون جنيه وانسحاب القوات المصرية من السودان وكانت هذه المظاهرة هي بروفة اولي لحادث ٤ فبراير ١٩٤٢الشهير والذي حوصر فيه الملك ذاته واعتداءا صارخا علي السيادة المصرية حيث كانت مصر قد حصلت وقتها علي استقلالها بموجب تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ وصدر دستور ١٩٢٣ .
كان سعد في موقف لا يحسد عليه وهو الذي اتي الي الوزارة بعد اول انتخابات ديموقراطية في تاريخ مصر واخرها !!!! فقال قولته الشهيرة : إن الرصاصات التي قتلت السردار هي رصاصات وجهت الي صدري أنا ..قبل سعد دفع دية السردار كما وجه بيانا للأمة ناشد فيه المصريين بأن كل من يعرف شيئا عليه ان يقدمه الي ادارة الامن العام وليعلم كل فرد أن هذه تعد عملا وطنيا وخدمة جليلة البلاد ويعلمون ان الالتجاء الي العنف والاجرام أكبر خيانة للوطن ولقضيته المقدسة !!!! ولاحظ سيدي القاريء بدقة كلمات زعيم الامة والتي تنفي بوضوح معرفة سعد زغلول بهذا الحادث قبل وقوعه وهو السياسي المخضرم الذي يعي أن مثل هذا الحادث قد يطيح بمستقبله السياسي الي غير رجعه خاصة واذا علمنا أن المستهدف في الاساس كان الجنرال اللنبي ذاته ولكن الحراسة المشددة من حوله حالت دون تنفيذ المخطط واتجهت الانظار الي السيرلي ستاك كهدف اسهل في اصطياده مما يجعل استحالة معرفة سعد بهذا الحادث قبل وقوعه أمرا منطقيا تماما !!!
في هذه الخطوب لابد وأن نبحث عن الشرفاء من الوطن وهو الوصف الذي عادة ما تطلقه الانظمة علي حلفائها من الانتهازين الحالمين بالمناصب والمحافظين عليها ايضا فيتباروا في صب اللعنات علي الجناة الذين اودوا بحياة ستاك وعبثوا بأستقرار الدولة المصرية ومنهم حشود من النواب ورجال الدين وحتي نقابة الممرضين المصرية ولك ان تتخيل ان نقابة التمريض انشئت في مصر عام ١٩٧٦ لتعرف كم الكيانات الوهمية وغير الوهمية التي كانت تتسابق لخطب ود الانجليز في مصابهم الفادح !!!! …
رفض سعد باقي المطالب الانجليزية فأحتل الانجليز جمرك الاسكندرية ووضعوا ايديهم علي ايراداته فتقدم سعد زغلول باستقالته والذي اعتبر حادث السردار حادثا مدبرا ضد وزارته لانه الخاسر الوحيد منها وتولي احمد زيور تشكيل الحكومه والتي اصبح وزير الداخلية فيها اسماعيل صدقي …
كانت ملابسات الحادث تدفع بأتجاه القيد ضد مجهول حيث ان الحادث لم يترك خلفه دلائل كافيه لتحديد الجناة سوي سائق السياره الاجرة التي استقلها الجناة حيث وجدوا ان ايراده زائد جنيها واحدا عن ايراده المفترض بحسب عداد السيارة وكان اكرامية من الجناة ..كما شهدت هذه الفترة حملة اعتقالات موسعة شملت عدد من نواب حزب الوفد ابرزهم محمود فهمي النقراشي وعبد الرحمن فهمي وقد تمخض عن هذه الاعتقالات اعتراف احد المعتقلين وهو محمود اسماعيل الموظف بوزارة الاوقاف والذي طلب مقابلة وزير الداخلية شخصيا!!!
لكن المفارقة التي قلبت الحادث رأسا علي عقب كانت خروج محمد نجيب الهيلباوي المدرس بالجمعية الخيرية الاسلامية والذي قبض عليه في حادثة محاولة اغتيال السلطان حسين كامل والذي قبل الحكم تحت الوصاية البريطانية فحكم عليه في البداية بالاعدام ثم خفف الحكم الي الاشغال الشاقة المؤبدة والطريف هو الطريقه التي تمكن بها البوليس من القبض علي الهلباوي حيث أشعل القنبله التي القيت علي السلطان بفتيل سيجارته ونظرا لان السجائر كانت تصنع بالطلب فقد كان يكتب علي كل سيجاره الحروف الأولي من اسم صاحبها مما جعل مسألة الوصول اليه غاية في السهولة وذلك بأستجواب صاحب مصنع السجائر!!! ومع تولي وزارة سعد زغلول خرج بعفو الا انه خرج بغير الوجه الذي دخل به حيث بدلته سنوات السجن من وطني الي شخص اخر كاره للوطنيين والذين نسوه في سجنه كما وجد اغلب زملائه قد سبقوه في الترقيه…
وتتضارب الروايات حول أما تجنيد الهلباوي وهو في السجن بواسطة مستر انجرام الانجليزي وسليم ذكي باشا الظابط وقتها وحكمدار العاصمة فيما بعد او أنه من بادر الي الذهاب الي المخابرات البريطانية وفي كل الاحوال فقد أختار الهلباوي ان يوجه سهام غضبه الي الحركة الوطنية وان يقبض المكافأة التي رصدتها الحكومة وقدرها عشرة الاف جنيه خاصة بعد مقابلته لمحمود فهمي النقراشي زميله السابق في الكفاح والذي أصبح يشغل وظيفة وكيل وزارة الخارجية في حكومة سعد وصب جام غضبه علي سعد ومتهما أياه أنه يكرهه لان أسمه علي أسم غريمه العتيد -قاصدا ابراهيم الهلباوي- !!!!!
وبحدس الهلباوي شعر ان الحادث لابد وان له صلة بشفيق منصور المحامي والوفدي البارز والذي نجح تحت مظلة الوفد مرتين وأصبح نائبا عن باب الشعرية وهو أحد الضالعين في حادث محاولة اغتيال السلطان والتي دخل في أعقابها الهلباوي السجن وبالفعل صدقه حدسه ففي مكتب شفيق التقي بصيد ثمين كان المفتاح لهذه القضية الغامضة…
فقد صادف في مكتب شفيق الاخوين عنايت وقد كان شقيقهما الاكبر محمود سجينا معه في نفس القضية ولكنه نفي الي مالطة ثم عاد الي القاهرة بأفراج صحي بعدما تدهورت صحته ثم لم ليبث ان توفي بعد فترة وجيزة ..بالطبع كان تواجد الشقيقان مثيرا لريبة الهلباوي ولكن لصغر سنهما ودهاء الهلباوي استطاع الايقاع بهما ومعرفة كل شيء بل و أقناعهما بالهروب الي طرابلس ومعهما الاسلحة التي أستخدمت في قتل السيرلي ستاك وفي طريقهما عبر القطار المتوجه من الاسكندرية الي مرسي مطروح استطاع البوليس القبض عليهما بمعاونة الهلباوي وقدم الجميع الي المحاكمة …قبض الهلباوي الثمن وهو عشرة الاف جنيه ليكمل بهم تعليمه في اوروبا !!!!
كانت المحاكمة مثيره فقد أعترف الاخوان عنايت بشجاعة علي دورهما في قتل ستاك بينما أنبري محاميهما في التأكيد ان الاخوين مرضي بجنون الوطنيه لطلاق أبيهما من أمهما وزواجه بأخري !!!!؟؟؟
أما محمود راشد فقد أنكر تماما صلته بالحادث وأنه لا يعرف حتي ذبح فرخه !!! وكذلك ابراهيم موسي والذي رفض الاعتراف ورفض أي مساعدة من زملائه لبناته الاربع…
اما شفيق منصور المحامي فقد ارتعدت فرائسه وصار لا يكف عن البكاء كما أدلي بأعتراف كامل علي شعبتي القاهرة والاسكندرية المشاركتين في أحداث العنف والاغتيالات في هذه الفترة وحينما أدخل الي غرفة الاعدام راح يتوسل في مشهد انساني محزن: يا باشا عايز أشوف أهلي .يا باشا عايز اشوف أختي أنا في عرضك !!!
ومن تفاصيل الحادث الي الزعامة وسنتوقف عند الهلباوي الذي أصبح رمزا للخيانة في مصر والسؤال هل حينما لايجد الزعيم المساندة والاعتراف بالجميل فيتحول للنقيض هل يتحمل الزعيم تبعة ذلك وحده ؟!! ان الزعامة تتولد بقدرات ذاتية نابعة من ايمان الشخص بفكرة وبقضية تستحق التضحية والفداء هذه حقيقة لا يمكن انكارها فلربما قادته الزعامة الي فقدان حياته ثمنا لفكرته ولقد عبر سيد قطب عن هذا المسار بقوله ( كلماتنا ستبقى ميتةً لا حراك فيها هامدةً أعراساً من الشموع ، فإذا متنا من أجلها انتفضت و عاشت بين الأحياء ) ولكن هناك أيضا عوامل خارجيه تسير جنبا الي جنب هذه العوامل الداخلية الذاتية تدعم فكرة الزعامة وتبقيها حية وتبعث الامل مجددا كلما كانت الظروف عصبية من حول الزعيم …فالاعتراف بالجميل وتخليد الذكري واحياءها دوما هي دروس لم نستوعبها في عالمنا العربي فيما وعاها الفكر الغربي حولنا وحافظ عليها فالزعيم الفعلي ونعني بالزعامة الفعلية الزعامة التي تصنع الاحداث و تنخرط في المشهد علي الارض وتتجشم المخاطر في التطبيق وليست الزعامة الخطابية التي تمارس دورها عن بعد والفرق شاسع فالزعامة الفعلية تبذل الحياة لتهب من حولها الحرية وهي خطوة ليست ابدا بالسهلة ومع ذلك لا يلتفت لها أحد ولا يتذكرها أحد ولا يعترف بجميلها أحد فيما يعتلي الانتهازيون المقدمة حاصدين للمناصب وصنوف التكريم…والهلباوي وغيره ممن يمتلأ بهم أوطاننا كانوا ضحية غياب المردود المجتمعي لخدماتهم الجليله فبعضهم أخنار الانزواء و العزلة وبعضهم انقلب علي كل المعاني الوطنيه المخلصة داخله وصار يلعن كل القيم الوطنية ولقد كان الشاعر أحمد مطر رائعا حينما نقل لنا أبعاد هذه الصورة عبر أبيات بديعة فيقول :
أبي الوطن
أمي الوطن
رائدنا حب الوطن
نموت كي يحيا الوطن
يا سيدي انفلقت حتى لم يعد
للفلق في رأسي وطن
ولم يعد لدى الوطن
من وطن يؤويه في هذا الوطن
أي وطن؟
الوطن المنفي..
أم الوطن؟!
أم الرهين الممتهن؟
أم سجننا المسجون خارج الزمن ؟!
نعود الي المصير فقد حكم بالاعدام علي جميع المتهمين في القضية فيما خفف الحكم علي عبد الفتاح عنايت الي الاشغال الشاقة المؤبدة بأمر ملكي نظرا لحداثة سنه ولانه لم يشترك في اطلاق النار .كانت سنوات قاسية عليه حصل خلالها علي شهادة عليا في القانون بتشجيع من الدكتور محجوب ثابت طبيب اول جامعة فؤاد الاول والذي سعي في تسهيل كافة اجراءاته ولكنه خرج من السجن عام 1944 بعدما امضي تسعة عشر عاما ودون تدخل أو مطالبات شعبيه او حزبية بأطلاقه ..خرج يحمل بضع أوراق يحكي فيها قصته وقصص العديد من الوطنيين الذين ضحوا بحياتهم في صمت دون مقابل ..
د.محمد فتحي عبد العال