كفرقاسم .. من الذاكرة .!
تاريخ النشر: 29/10/19 | 14:04 يوسف جمّال – عرعرة
لما أخبرتني زوجته , انه أصبح يقضي بعض لياليه, على المقبرة بين أهل القبور .. قلت :
جُنَّ الرجل !
وانتشر خبر جنونه, في كلِّ حارات كفر قاسم ..
انه صديق طفولتي وشبابي , وابن حارتي ..
سعيد الجابر ..
حتى زوجته لم تعد تطيق رواياته التي لا تنتهي ..!
حتى وصل به الحال ,أنه لم يعد يجد أحداً يسمعه غيري ..
حتى أنا أصابني الملل .. وبت أسمعه , غير ناسطاً لحديثه ,
ولا أدري ان ذلك شفقة عليه ,
أم رحمة بتاريخ طويل قضيناه معاً !
ولكنه لا يملُّ أو يكلُّ ..
إنه يحكي عن وقائع , حدثت قبل ميلاده بسنين.. سمعها من الذين كانوا في الموقعة , أو عاصروها ..
والأكثر غرابة في الأمر, أنه يتحدث جازماً, أنه كان شاهداً على الحادثة , وأنه شخصية من شخصياتها .!
ويقول سعيد :
” كنت راكباً وراء صالح , ومروحين من الزيتون .
صرخوا فينا :
وَقْفوا .!
وقفنا ..
انزلوا .!
انزلنا ..
طخونا .!
أنا.. الرصاصة ما “أجتش بيّ ” .. رميْت حالي على الأرض ..واعملت حالي ميِّت .!
ولما سكتْ كل شيئ حولنا .. قمتُ وناديت ..
صالح .! ًصالح .! ما ردِّش عليَّ ..
مديت يدي على رأسه..
“طِلعْ” عليها دم .!
فهربتُ من هناك .. خفت من دم صالح .!
حتى اليوم بجيني بالليل .. وبموت خوف منه !” .
*********
بدّي أحكيلكم عن خالتي خضرة .. خضرة الفارس ..
بدأ يحكي قصتها للمرة الألف ..
نظرت الى عينيه , كانتا مفتوحتين على مصراعيهما ..كأنهما يشهدان مشاهداً تحدث الآن ..في هذه اللحظة ..!
كانت راجعة من الزيتون ..
وين كنت .!؟ صرخ بها أحدهم .
في الزيتون يا خواجا .!
بتعرفيش إنه في منع تجوّل .!؟
سكتت ..!!
طُخها .! صاح به عسكري آخر .
دفعتني بكلِّ قوتها لتبعدني عنها .كي تبعدني عنها ..
فأنقذتني من الموت المحتَّم ..
قالت لي يومها , وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة :
” الله يخليك لأمك .. سلِّم عليها , وقل لها تكمِّل زيتوناتنا خراطة!” .
وسلَّمت روحها .!
كانت كلماته تنساب من بين شفتين , كأنها تأتي من مكان بعيد , تشير إليه عينان تنشلان من حنين سحيق ..!
*********
أتعرف ستنا أم عارف .!؟
بدأ يحكي حكايتها كعادته , دون أن ينتظر مني إجابة :
” قتلوا زوجها ابو عارف في المذبحة ..ومات ابنها الوحيد , بعد قتل أبيه بعشر سنوات ..
منذ ان قتلوا أبيه لم “يرُّد له لون ” حتى مات في حسرته .
” كانت بجانب زوجها , عندما طخه اليهود ..” .
سألوه :
وين كنت !؟ ما بتعرف إنه في منع تجوُّل !؟
لا .! اشتغلت في “الكُبَّنية” خارج البلد ..
وضعوه معنا في السرب ..
طخهم .! صرخ الجنود ..
ليش ..!؟ شو عملنا .!؟
كانت هذه آخر الكلمات التي نطقها أبو العارف .. قبل أن يردوه قتيلاً , يتمرًغ في التراب ..
أما أنا فقد أصابتني الرصاصة في رجلي .. فتمددت على الأرض “ميتاً “, حتى تأكدت أنهم غادروا ..
وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة نادى :
يا سعيد ..!
دير بالك على ام عارف ..!”.
إم عارف أُصيبت بالعمى , بعد ان قضت أيامها ولياليها تبكيه..!
****
وصل خبر لزوجته , انه يقضي لياليه , الذي يغيب عنها فيها , في مقبرة القرية , فاتصلت بي:
” طنيبة عليك! ” صاحت مستنجدة باكية ..
فقرَّرت أن أستكشف الأمر ..
انتظرت حتى جنّ الليل ..سرقت طريقاً الى المقبرة, من ستائر الليل المتراكمة السواد , ولما دخلتها متلمساً طريقي بين القبور , رأيت ضوء ضعيفاً من بعيد .
مشيت في اتجاهه .. وبعد عناء شديد , اقتربت من مصدر الضوء ..
كانت ” فتلتة ” تتراقص على إيقاعات الهواء الخفيف , وبجانبها شبح يجلس على صخرة , كأنه تمثال صُنع من صخر بركاني..
وكان يتكلَّم .. عرفته من صوته ..
كان سعيد .. !
وعندما اقتربت منه أكثر , التفت إليَّ, وبإشارة من عينيه , أفهمني أنه عرفني , وأنه بإمكاني الجلوس , ولما جلستُ على طرف أحد القبور , صوَّبت ناظري نحو القبور القريبة مني ..
كانت كلها قبور, لشهداء المذبحة ..!
وكان يحكي لهم ,عن أحداث يوم الأرض, الذي كان قبل يومين..
كان يحكي لهم ,عن أم عارف العميّة ,التي أبت إلا أن تنزل وتشترك بالمظاهرات , وترفع صور شهداء المذبحة ..
ورشت على المتظاهرين وابلاً من حبِّ الزيتون ..
سألوها : لماذا الزيتون .!؟
قالت وهي تشير , الى قوات الشرطة والجيش , التي كانت واقفة على أهبة الاستعداد, لمهاجمة المسيرة :
من الحسد ..!
عن سليم العلي ابن المئة , الذي رفض مساعدة أحد , ومشى في المظاهرة بقواه..وأصر ان يلبس العقال , الذي كان قد تركه منذ سنين !
وعن سالم الأعرج , الذي كان يجرُّ رجله العرجاء ,التي تحمل في داخلها رصاصة من المذبحة ..
كان يجرُّ مع رجله قناني الماء , ليسقِّي المتظاهرين ..!
حكى لهم عن حامد ..وعن جميله وعن لؤي ..
الذين يجرُّون في شرايينهم دماء , تحمل ذاكرة لوعات المذبحة ..
حتى خِلتُ أن كل كفرقاسم حكاية .. ولكل واحد منهم حكايته..
أردت أن أنطِّق ..
فوضع اصبعه عل فمه ..
ومرَّر راحته فوق القبر القريب منه .. ففهمت منه ..
أنهم ناموا ..ولا يريد ان يقلق منامهم ..
وعندما ابتعدنا عن المقبرة , همس في أذني معتذراً :
“إنهم متعبون ..كانوا في المظاهرة ..مظاهرة يوم الأرض !” .