التّغيير في الإنسان واللغة
تاريخ النشر: 04/02/20 | 7:07 هل التغيير شيءٌ إيجابيٌّ أم هو شيءٌ يجب ألا يحدث؟
نحن نتربّى كأطفالٍ على قِيم معيّنة هي في الواقع قيم آبائنا وأمّهاتنا، ثم نكبر ونصبح أكثر وعيًا وإدراكا ونبدأ نفكّر بشكل مختلف في بعض الأمور التي لا نوافق معها أو لا نقبلها أو لا نتفق عليها.
والحقيقة أن التغيير ليس شيئا سهلا. إنه لا يحدث بين ليلة وضحاها.
إن طبيعة الإنسان توّاقة دومًا إلى التقدّم والتطوّر، ويحدث التغيير عندما نفتح عيوننا وآذاننا، نرى ما لم نكن نراه، نُصغي إلى ما لم نكن نسمعه، نتأمّل ما حولنا ونتفكّر بما لم نكن نعلمه من قبل.
ولكن التغيير يتطلّب منا شيئًا آخر أكثر من ذلك. إنه يتطلّب الاستعداد لتقبّل ما لم نكن نألفه من قبل، وهذا ليس سهلا أبدًا.
في الماضي، كنتُ أخاف من التغيير وأريد أن أثبت لنفسي ولكل العالم أن لا شيء يغيّرني عن كل ما تربّيت عليه، حتى لو كنتُ بعيدة عن ذلك العالم الذي جئتُ منه وكبرتُ عليه، لكنّني اليوم أدرك أن التغيير يجب ألا يخيفني، فهو دليل النضج والفهم والإدراك.
هناك لحظاتٌ في الحياة تغيّرنا، هي لحظات تنوير ربما.
هناك أشياءٌ تغيّرنا.
الإهمال.
نعطي فنشعر بالسّعادة والرّضا. نعطي ونمنح ولا نفكّر في تقدير أو أخذ شيءٍ بالمقابل، لكن الإهمال يحطّم النفس ويشعرنا بأننا… لا شيء.
إنه شعورٌ قاتلٌ بعدم التقدير واللا مبالاة.
الحب.
الحب يغيّر كل الموازين. نحبّ فننسى كل شيء تعلّمناه أو عرفناه من قبل. فالحب هو العطاء والسعادة والفرح والشوق واللهفة، هو الوفاء والإخلاص، هو ذلك الشعور أننا سنبقى معًا إلى الأبد، وهو العجز بالحياة إن افترقنا. لكن الفراق لا بد منه أحيانا، فهو جزءٌ من الحياة لا يتجرّأ، يؤلمنا ويبكينا، لكن، لا بد أن نجد السبيل لتناسي الألم ونكمل مشوار الحياة بحلاوته ومرارته، محمّلين بتجارب وذكريات تترك نقوشها على صفحة الروح.
المرض.
نفكّر دائما أن من يملك الكثير هو الأكثر سعادة في الحياة. نسعى كي نكون الأفضل والأجمل ونملك الأكثر، نشتري البيت الأكثر جمالا والسيارة الأكثر فخامة، وفقط عندما تباغتنا ضربةٌ من السّماء تؤذي صحة أحد أفراد أسرتنا، حينها فقط ندرك أن السّعادة لا تحصى بالمال والأشياء المادية، فقد حينها نقول: لا نريد شيئا. الصحة فقط.
***
مساء الخميس الماضي كنتُ في أمسية أدبية خاصة بالمجموعة القصصية “بين الذات والوطن” وكاتبه د. مصلح كناعنة، الباحث في اللغة العربية والمحاضر في العلوم الاجتماعية والسلوكية، واقتنيتُ إلى جانب مجموعته القصصية هذه كتابه عن اللغة “موسوعة المفردات غير العربية في العامية الفلسطينية” الذي صدر منذ عدة شهور.
تصفّحتُ الكتاب قليلا وأنا جالسة هناك بين الحضور بانتظار بدء الأمسية، فقرأت بعض الكلمات:
زيّ: نمط من الثياب يكون دارجا في مكان معين في زمان معين. من الفارسية وتعني الهيئة أو الشكل (ونمط الحياة بشكل عام).
كابوس: الحلم الليلي المرعب الذي يمنع الإنسان عن الحركة، من السريانية “كُبوشو” المشتقة من الفعل “كَبش” بمعنى كبس وضغط.
أيوه: نعم، الإجابة بالإيجاب على سؤال. وهي من التركية العثمانية وهي تحريف تركي للعبارة العربية “أي والله”.
ثم فكّرتُ بحال لغتنا الشركسية: كم من الكلمات دخلت إليها من اللغات الأخرى، منها التركية والعربية والعبرية، وكلمات أخرى كثيرة لا أعرف مصدرها حقا، لكننا نكتشف كل يوم أنها موجودة ومعروفة أيضا في اللغات الأخرى.
قبل سنوات كنتُ أقرأ رواية “عدّاء الطائرة الورقية” للروائي الأفغاني الأصل خالد حسيني والتي أورد فيها بعض المصطلحات الأفغانية المتداولة في المجتمع الأفغاني الذي تتحدّث عنه الرواية، فاصطدمتُ بكلمة “نماز” التي استخدمها ككلمة أفغانية تعني الصلاة. صُدمتُ حقا، حيث أنها هي نفس الكلمة التي نستخدمها نحن الشركس للدّلالة على نفس الشيء. لطالما ظننتُ أنها كلمة تخصّنا.
وقبل عدة سنوات، تذكّرت ذلك خلال رحلة سياحية في البوسنة، حين رأيتُ بعض الفتيات المحجّبات في مراحيض مسجد، يتحدّثن بلغة بدت لي التركية ويدور بينهن نقاشٌ ما، ولا أدري كيف خمّنتُ أنهن يبحثن عن مكان للتوضّؤ للصلاة.
فقلتُ لهن: “أمدز؟”وهي الكلمة التي نستخدمها بلغتنا الشركسية للدلالة على الوضوء.
فنظرت إليّ إحداهن ولا أذكر كيف قالتها ولكنها ردّت بالإيجاب، فأشرتُ لهن إلى المكان المخصّص للوضوء.
لا شك أن العديد من الكلمات من اللغة التركية دخلت إلى لغتنا الشركسية، إذ عاش المهاجرون الشركس الأوائل في تركيا 14 عاما قبل الهجرة إلى فلسطين. كما دخلت العديد من الكلمات من العامية الفلسطينية إذ عاشوا بين الفلسطينيين العرب الذين سكنوا في عدة قرى حول القرية حتى قيام دولة إسرائيل. ويقول بعض أهالي قريتي الذين سافروا إلى تركيا إن الأتراك يفهمون لغتنا الشركسية أكثر من اللغة الإنكليزية. ومن الكلمات التركية التي دخلت إلى لغتنا الشركسية: “بَيرام” وهي الكلمة التي نعرفها ونستخدمها للدّلالة على العيد، ونقول “بَيْرام بارِسِم” لتهنئة بعضنا البعض بمناسبة العيد، حتى أننا كدنا ننسى الكلمة الشركسية التي تعني العيد.
ومن اللغة العربية دخلت إلى لغتنا كلمات مثل: مدرسة، طاولة وكرسي (التي هي من الآرامية مأخوذة من الآشورية، كما ورد في موسوعة د. مصلح كناعنة).
ومن العامية الفلسطينية دخلت كلمات كثيرة إلى لغتنا، منها مثلا: “عمو” و “عمتي” و”خالو” و “خالتي” ولا أدري حقا عن وجود كلمات مقابلة لها بلغتنا الشركسية، وربما دخولها كان بسبب عدم وجودها أو وجود مصطلحات طويلة أكثر وصعبة.
اللغة هي وسيلة اتّصال بين الشعوب المختلفة، وعند اختلاط الشعوب ببعضها البعض أو الاحتكاك بينها في أماكن العمل، الدراسة والمعاملات اليومية تزيد إمكانية حدوث التداخل اللغوي، حيث تدخل مفردات وألفاظ إلى اللغة من معاجم اللغات الأخرى، وتسمى هذه الظاهرة الاقتراض اللغوي، وتكاد لا تخلو لغة من الاقتراض بفعل التأثّر والتأثير بين اللغات والناطقين بها وكان لهذه الظاهرة تأثير بالغ عبر التاريخ في تطوير لغات فقيرة. لذا، نجد مفردات لغوية متداولة بين عدة لغات، وهذا هو أمر طبيعيٌّ، معروف منذ القدم، اقتضته الضرورة الموضوعية لسدّ الفراغ اللغويّ في التعبير.
من هنا نرى أن اللغة، مثل الإنسان، تتغيّر.
إنها في حركة دائمة، لا تحبّ الاستكانة، فهي تؤثّر وتتأثّر باللغات الأخرى حولها.
فهل هذا التغيير في اللغة هو شيء إيجابيٌّ أم أنه يجب ألا يحدث؟
وهل يجب أن يخوّفنا هذا التغيير أم أنه دليل على التطوّر والإدراك؟
حوا بطواش
(كفر كما 1/2/2020)
أحيّي الكاتبة الأديبة حوا بطواش من كفر كما على طرحها
موضوع “التغيير” في العادات والقيم واللغات، وطبعًا ليس كلّ
تغيير إيجابيًّا محمودًا، ولكن التلاقح والاقتراض بين اللغات أعتبره
ظاهرة إيجابيّة، ويسهم في التقارب بين الشعوب.