الجريمة والعقاب

تاريخ النشر: 13/03/20 | 7:04

الدكتور عدوان نمر عدوان-جامعة النجاح الوطنية-فلسطين
لأول مرة يعاني المجتمع الدولي ما يعانيه الفلسطينيون يوميا، فالحجر على السفر بين الدول يعانيه الفلسطينيون يوميا، وسفرهم مقيد جدا في الضفة، وحتى يحصل الفلسطيني على فيزا يفحص أمنيا لأسبوعين أو أكثر، فيفتش في تاريخه وتاريخ عائلته، ويسأل عن تحركاته، بل إن الحجر عليه يكاد يكون أبديا، أما المنتجات الصادرة والواردة فتفحص بأحدث الآلات، وبمساعدة الكلاب، وطواقم مدربة تدريبا أمنيا وعسكريا .
الحواجز التي شاهدناها في الصين، وأقيمت بين المدن لفحص المواطنين، وفرز المصابين بالقوة تقام للفلسطيني يوميا لفحصه من قبل عسكريين مدججين بالسلاح، وإذا كان كل مصاب يؤخذ إلى الحجر الصحي لأسبوعين، فإن كل فلسطيني مشكوك فيه أمنيا يؤخذ إلى مراكز الاعتقال لعشرين يوما لفحصه إن كان يحمل ميكروبا مضادا للاحتلال.
منع التجمعات الذي حصل في كثير من مناطق العالم، والحرص على عدم اختلاط المصابين بغيرهم يمارس على الفلسطيني منذ زمن بعيد، فتجمع أكثر من ثلاثة مشتبهين يمكن أن يزجهم في السجن، بل أحيانا يعتقل المشتبه فيه إداريا إذا اجتمع في الناس أو خطب فيهم أو حاضر محاضرة ضد نظام الحجر الأمني؛ لأنه ببساطة يمكن أن يسبب لهم العدوى التحريضية والإرهابية.
تقليص مناطق الحجر الصحي، ومنع دخول المصابين إلى مناطق الأصحاء هي ما يمارس على الفلسطيني، فتقضم مناطقه لصالح الأصحاء الإسرائيليين، وتقلص مناطقه يوما بعد يوم.
أما المساعدات التي أقرتها الدول الغنية للدول المصابة لتساعدهم على النهوض، والخروج من الحالة المرضية ذات العدوى فهي المنح المشروطة نفسها التي تقدم للفلسطيني على سبيل علاجه من وضعه المتأزم الذي يمكن أن يسبب العدوى لغيره، أو يؤذي طواقم الحجر الإسرائيلية التي هي جنود الرب في عرف العالم، والنسل المقدس من أجداد شعب الله المختار .
التعاطف الدولي مع الحاجرين، ودعمهم بكل ما أوتي من
قوة هو التعاطف الدولي نفسه مع الإسرائيليين المكلفين بالاعتقال، فلا يسمح للفلسطينيين بإقامة مناطقهم المستقلة، ولا يسمح لهم حتى بالتعبير عن أنفسهم بالاختلاف بل هم غير قادرين في عرف الحاجرين على إدارة أنفسهم، وحل مشاكلهم، ولا يسمح لهم بالخروج من مناطقهم إلا من كان غير معد منهم أمنيا، كما أن إقامة مطار خاص أو ميناء غير وارد في عرف الحاجرين، ولا في ذهن الأمم المتحدة، فالحاجر هو أعرف الناس بالمحجور وتقلباته، وطرق العدوى، وإذا صادف أن وجد شخص من المحجورين الفلسطينيين المتعافين في الخارج، وقد بدت عليه علامات المرض، أو وسوس له قرينه بالخروج عن السكة، فإن فرقة من الحاجرين الموساد تخرج له، وتغتاله في أي مكان يكون.
لا يسمح للمعتقلين بالحجر الصحي بإدارة شؤونهم بل يسمح لهم بالشكوى من التقصير دون تنفيذ أجنداته، إنما يُنصح الحاجر بتحسين أوضاع المحجورين وظروفهم، وينصح الحاجر بتغيير أسلوبه بين الأخذ باللين أو الأخذ بالعنف والشدة، ولا يسمح لهم كذلك بالتعبير عن أنفسهم أو تشكيل ذواتهم ووجودهم؛ لأنهم عاجزون ومرضى؛ لذا يعمد الحاجر للتعبير عن المحجورين، وتشكيلهم بالنمط الحضاري والصحي الذي يرتئيه، فكل أجهزة العالم وتقنياته مسخرة له لإكمال عمله الإكمال المطلوب، والعمل كما يشاء ويرى، ودون أن يتأذى أو يخدش.
الفلسطيني الإنسان مشكوك فيه ومتهم في كل مكان، وقابل للمرض في كل أرض، وقد يحجر على الفلسطينيين أحيانا في أماكن تواجدهم في البلدان المجاورة على أساس أنهم أناس مرضى مشتبهون مصابون بالوباء أو حاملون له أو داعمون للمصابين به، وتتعاون كل أجهزة الأصحاء بقوة على متابعته وقتله، وقتل من يتعاطف معه من الأصحاء الخائنين، فكل أجهزة الأصحاء مرتبطة بجهاز دولي أيديولوجي مبرمج للقتل والسجن مشفوع بعنف رمزي في الخطاب والسرد.
أولاد الفلسطيني المتعافي أو أحفاده الذين يولدون في دول العالم يبقى أثر المرض فيهم، فعند كل حادثة يشار إليهم بملامح شرق أوسطية، وبكل العبارات النابية السيّئة السمعة والصيت .
يطلق العالم على أماكن الوباء كلمة المناطق، وهي الكلمة نفسها التي يطلقها الإسرائيليون والعالم على موطن الفلسطينيين، فالمناطق الفلسطينية هي كلمة أيديولوجية مشبوهة أكثر منها سياسية ليُعرّف بها سكان المنطقة المصابة بفيروسات أمنية كتبها الحاجرون الإسرائيليون على بوّابات المدن الفلسطينية تحت عبارة تحذير ” هنا تدخل المناطق الفلسطينية وكل من يدخل يتحمل المسؤولية الشخصية” أو “هنا مناطق فلسطينية يمنع على الإسرائيليين الدخول إلى مناطق السلطة الفلسطينية، وكل من يخالف يتحمل المسؤولية”
الوكالات الدولية مثل أطباء بلا حدود تدور في البلدان لمساعدة المصابين بالأوبئة، والحد من انتشار الوباء وهي نفسها تزور المناطق الفلسطينية لتقديم المساعدات، والحد من تفاعل غضبهم المتفاعل على الإسرائيليين واحتلالهم.
يمنع على المصابين التحرك بحرية، والدخول إلى منطقة الأصحاء كذلك يمنع على المصابين الفلسطينيين الموسومين بالحظر الأمني الدخول إلى إسرائيل- موطنهم السابق وموطن آبائهم- أما حاملو المرض ممن يسكن مناطق المصابين، فيسمح لهم بالدخول بتصاريح خاصة بعد براءتهم الأمنية للعمل في أدنى الأعمال التي يقوم بها الخدم والعبيد، وممنوع عليهم المبيت في مناطق الإسرائيليين، وكل من يخالف يقع تحت طائلة المسؤولية.
يمنع على الحاجرين الإسرائيليين أن يتعاطفوا مع الفلسطينيين؛ لأن كل فلسطيني مشبوه ومذنب ونجس مريض، بل وصفهم كاهن إسرائيل الأكبر بالصراصير والحشرات وهو الأمر عينه الذي يقوم به الحاجرون الصحّيون ، فممنوع ملامسة المريض؛ لأنه وباء، ويتعامل معه من بعيد برشه بالمبيدات، وحجره في غرف خاصة معقمة.
المناطق المصابة مناطق حظر دولي مشكوك فيها قررها الأصحاء، وهندسوا لها شكلها وتصوراتها، ودعموا القائم على حراستها بسخاء لا مثيل له، وأي مساعدة للمناطق الموبوءة ينبغي أن تمر عبر الحاجر وبإذنه، فهو العارف العليم الموكل بمنع انتشار المرض، والحريص على البشرية، والإسرائيلي هو العارف العليم الموكل بالفلسطيني، والمانع لتمدد أفكاره والمطالبة بحقوقه، وهو صاحب الحق المطلق برصد التحركات، وانتشار الأفكار، ومحاربة التعاطف مع المصاب الفلسطيني .
الفلسطيني كائن نجس وأدنى من الحشرات ومغضوب عليه من الرب، أما المحجورون صحيا فهم مشتبهون في العالم، وكائنات مريضة نجسة ينبغي أن يغسل الناس أيديهم عند ملامستهم، أو الاتصال بهم، وإذا طال الوباء فسيصبحون معاقبين من الرب كفرة يأكلون الحشرات والأفاعي والفئران، وكل ما دب على الأرض.
ماذا لو كان للطبيعة كلمتها أو للعقاب الإلهي قراره بمعاقبة العالم بالفيروس الفتاك المنتقم من أعمال الإنسان البشعة في الطبيعة من حرق الغابات، وتلويث الهواء، وقتل الحيوانات، ونهب الأرض، وحجر الفلسطينيين، وحرمانهم من حقوقهم – فماذا لو كان هذا الوباء نوعا من أنواع الانتقام؟ ألا تنتقم الطبيعة، وتعمل على تعديل نفسها للمحافظة على وجودها عندما يستفحل الضرر؟
لماذا لا يكون الفيروس ناقوسا تحرريا ثوريا يدق في جمجمة الرأسمالية الجشعة التي نهبت البشر والطبيعة، وتسلطت على الفقراء والمعوزين، وعلى الفلسطينيين، أليست الرأسمالية أمريكا وأوروبا الغربية وإسرائيل، وكل الدول التي تتعاطى معهم؟ أليست مناطق الفلسطينيين شكلا من أشكال البروليتاريا، وتشكل مع كل المحتجين في العالم الثورة المضادة، وحان للطبيعة أن تقول كلمتها؟ وان تفجر الطبقة الرأسمالية الأيديولوجية، وتضربها في مقتل.
ألا يكون الفيروس فرصة للتخلص من بارانويا الخوف من الآخرين، ورمي عبارة سارتر “الآخرون هم الجحيم” خارج المنطق العادل؟ والنظر إلى المختلف، والنظر إلى الفلسطينيين كجزء من هذا العالم له الحق في العيش والوجود، وكآخر مختلف يعطي انسجاما وتناغما للحياة والطبيعة، وليس نشازا في سيمفونية أيديولوجية رتيبة مقيتة؟
العالم أصبح قرية صغيرة متصلة، والأفكار لها أجنحة تحلق بها، فلا يمكن للعالم أن يبقى عازلا الفلسطينيين في جيتو، ومقيما عليهم الحجر الأمني، فكلما اتسع العالم في الجغرافيا ضاقت رقعة الاتصال والتواصل، فصار الناس وكأنهم أهل حارة مزدحمة يطلون على بعضهم من الشبابيك، فكم تستطيع أن تعزل الفلسطينيين، وتعتبرهم مصابين بفيروس قاتل مدمر؟ ففلسطين ليست ديستوبيا أو الأرض النجسة، وليست وباء إلا في عرف مرضى المركزية والتسلط والفاشية والصهيونية والجشع الإنساني؟
الفلسطيني ليس إرهابيا، والهندي الأحمر ليس نجسا، كما أن الإفريقي لا رائحة له، والأسيوي المصاب بالكورونا ليس شيطانا، إن أي نقص في الطبيعة سيؤثر على باقي العناصر فيها، وأي نقص في البشرية لاعتبارات أيديولوجية سيؤثر على باقي البشرية بالسلب، وسيكتب تاريخها بلطخة سوداء، وبوسم عار في لوح تاريخها المحفوظ.
إن العالم ينبغي أن يشعر بالعار نتيجة السياسات الإسرائيلية التي يدعمها في فرض الحصار المرير على الفلسطينيين لسنوات لا تنتهي، وإذا شعر الآسيوي بغضب مرير نتيجة إطلاق كلمة كورونا عليه في شوارع العالم في العام ((2020 فما هو شعور الفلسطيني الذي تطلق عليه كلمات نابية في العالم يوميا، ومن سبعين عاما؟ فمدينة وهان ينبغي أن تذكر العالم بفلسطين، والفيروس ينبغي أن يذكر العالم بالجريمة والعقاب، فلولا أن البشرية فعلت من الجرائم ما فعلته، وتجبرت بظلمها ما تجبرته لما أنزل عليها العقاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة