حكاية الإصرار الفلسطيني على العودة والبقاء
تاريخ النشر: 23/03/20 | 18:36بقلم الأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش
طالعت رواية (عودة ستي مدللة) للروائي الفلسطيني مصطفى عبد الفتاح ابن الجليل الفلسطيني (وصلتني عن طريق صديقي العزيز المحامي الحيفاوي حسن عبادي ضمن مبادرته الراقية للتواصل بين أدب السجون والأدب الفلسطيني ومبادرته المباركة “لكلّ أسير كتاب”) وتأثرت كثيراً في الرواية ولأنها أولاً على الصعيد الشخصي أعادتني إلى أجواء رواية (مريم مريام) التي صدرت قبل بضعة أشهر والتي تتحدث أيضاً عن صفوريا وأهلها ومقاومتهم ونكبتهم ولأنها ثانياً تروي حكاية العودة الفلسطينية بطريقة مألوفة ولا تنطوي على المبالغة ولأنها ثالثاً جمعت في طياتها عدداً من الصور والمشاهد التي تعكس حال البلدة الفلسطينية لأنها ليست كخيار فحسب وإنما كضرورة للدفاع عن الحق في الوجود
وتعيدنا لأجواء البلدة الفلسطينية حيث البساطة والتسامح والتعاون والانسجام التام مع الطبيعة…الحقول والبيادر ونبع الماء والدجاج والأغنام وإلى آخره وحب الأهالي لوطنهم واستعدادهم للتضحية بالحياة في سبيله.
وعموماً تعيدنا الرواية إلى أزمنة وأمكنة مختلفة تلخص رحلة الشقاء الفلسطيني وهو يقاوم الغزوة الصليبية منذ البداية وتستحضر ثورة عام ٣٦ ومشاركة جزء من أهالي صفوريا في هذه الثورة واستشهاد زوج المدللة الذي كان رفيقاً للقسام حيث استشهد معه في أحراش يعبد وتمثل المدللة دور المرأة الفلسطينية المتماسكة والوفية حيث بقيت وفيّة لزوجها الشهيد واحتفظت بأمانته…(البندقية الألمانية) إلى أن كبر ابنها أمين لتسلمها له عشية الهجوم على البلدة ليشارك في المقاومة للدفاع عن البلدة وأهاليها
والأمين الذي تسلم البندقية من أمه المدللة لم يصرفه حبه لفاطمة ابنة بلدته عن دوره وواجبه الوطني وإنما وجد في هذا الحب محفزاً له لينخرط في التصدي للقوات الصهيونية المهاجمة جنباً إلى جنب مع العشرات من أبناء البلدة ثم يهتف قائلاً:
(إننا سنخسر قريتنا إن لم تحمل سلاحاً وندافع عنها لن ننتظر من الغير الدفاع عنها ) ويلخص الأمين بهذا الموقف المبدئي موقف أهل البلدة برجالها ونسائها وإصرارهم على المقاومة مما دفع العدو لاستخدام الطائرات لقصف البلدة وهي المرات القليلة التي استخدم فيها الطيران ومع أن البلدة سقطت في النهاية رغم بسالة أهلها ومقاومتهم إلا أنهم في هذه الحالة يكفيهم شرف القتال وأنهم لم يستسلموا ودافعوا عن بلدتهم دفاع الفرسان بعد أن خانتهم قوات جيش الإنقاذ والانسحاب من المعركة تحت جنح الظلام تاركين الأهالي يلقون مصيرهم المحتوم.
وترصد الرواية عملية لجوء أهالي البلدة التي قذفت بهم رحلة الهجرة القسرية إلى لبنان وهناك في مخيم ترصد المدللة حياة اللجوء وتصر على العودة وقبل عودتها تعمل على تزويج أمين من فاطمة وفي طريق العودة يصطدمون بوحدة من الدرك اللبناني على الحدود فيقول لهم الدركي بعد أن عرف عزمهم بالعودة إلى فلسطين (لا يوجد فلسطين بل توجد إسرائيل) فترد المدللة:(لا يهمّ يوجد وطن ونحن عائدون إلى الوطن ،الوطن سيبقى مكانه ولن يأخذه أحد) وبهذه المجادلة البليغة الواردة على لسان المدللة تخرس الألسنة وفي الطريق يصطدمون بقوة من حرس الحدود الصهيوني الذين حاولوا منعهم إلا أن إصرار المدللة على العودة تكثفه بالعبارة المتحدية التالية: (سنعود رغم أنوفكم ) وبهذا يرضخ العدو ويسمحون لها ولفاطمة بالعودة فيما يمنعوا أمين ويطردوه ثانية إلى لبنان.
لكن المدللة لا تستسلم وتصر على العودة إلى صفوريا حيث تجدها مدمرة ولا تثنيها هذه الحقيقة عن الاستقرار ولو مؤقتاً في قرية كفر مندا المجاورة وترفض البيت الذي منحها إياه الحاج عبد الكريم صديق زوجها فأنفتها وكبرياؤها واعتزازها بنفسها تجعلها تصر على شراء البيت وتسكن فيه مع فاطمة في انتظار عودة أمين الذي يحاول العودة في أكثر من مرة إلى أن ينجح أخيراً ويلتحق بأمه وزوجته ولم يلبث أن وشى به أحد الجواسيس ليجري اعتقاله باعتباره (يعبر عن حلمه متسللاً) بعد أن تغدو العودة إلى الوطن تهمة أو جريمة يحاكم عليها القانون الصهيوني الجديد لكن المدللة والدة أمين تصر على استكمال متابعة وضع أمين وتعين له محامياً إلى أن يرضخ العدو ويعود أمين إلى أحضان عائلته وبما أنه أصبح لاجئاً صار يتعين عليه البحث عن عمل حتى ولو في الورش والمصانع المعادية وبهذا يتحول صاحب البلد الأصلي إلى مجرد عامل يعمل لدى المستوطن الذي سيطر على بلده وحوّله إلى لاجئ وغريب فوق أرضه غير أن أمين يسكت ويدرك أن العائلة التي زرعها في الوطن هي البداية في استرداد البلاد ونجده يعبر ….بصفوريا حين يقول لفاطمة:(لو تعرفين يا فاطمة كم أشتاق لخضرة سهولها ولهوائها النقي المعطر برائحة البساتين )
غير أن صفوريا القريبة من كفر مندا والتي على أنقاضها أخذ الصهاينة ببناء مستوطنة (تسيبوري) تتحول مع الوقت إلى حالة مرضية فتصيب المدللة ولم تشف من زمن صفوريا الماضي الذي حوله الغرباء إلى أنقاض فاستردت صفوريا بلحظة حلم راودتها وبعد استيقاظها من النوم أصرت على العودة وحملت حاجياتها غير أن أمين وأهالي البلدة يعيدونها إلى بيتها حيث يتكرر هذا المشهد كل يوم مدة شهرين وهو ما يعكس إصرار المدللة على العودة والتأكيد على تجسيد حلم العودة إلى أن ماتت وهي تحلم بالعودة واضطر أمين إلى التسلل إلى صفوريا ليعبئ كيساً من ترابها ويملأ زجاجة من ماء نبع القسطل أثناء مواراة والدته الثرى يصب الماء ويهيل التراب على جثمانها في مشهد درامي مؤثر ويهتف من وسط حزنه وفجيعته: (لم أستطع أن أعيدك إلى صفوريا فأعدت صفوريا إليك ) غير أن هذه العبارة لا تكفي أمين وأن ما جلبه لها من تراب وماء ما هو إلا خطوة رمزية هدفها الإصرار على التشبث بالأرض وإذا لم يكن بوسعنا أن ندفن في تراب صفوريا سيكون بوسعنا على الأقل أن نحضر القليل من ترابها ومائها في خطوة تنم عن التمسك بالحقوق لأبعد مدى .من قضية العودة سيأتي على لسان الطفلة فتحية ابنة أمين التي تسلمت الأمانة من المدللة قبل رحيلها بساعات فتسأل والدها أمين أثناء دفن جدتها:(هل ستأتي معي يا أبي لنفتح باب بيت جدتي الكبير قالت لي أنها ستلحقنا إلى هناك ) فيجيبها والدها وهو لا يزال يمتلئ أملاً وحلماً وحزناً وغضباً وإصراراً: ( طبعاً يا بنيتي جميعنا سنذهب إلى هناك) وبهذه الإجابة التي تأتي وكأنها قسم وعهد من فوق جثمان المدللة يضل حلم العودة متوهجاً من الأبناء إلى الأحفاد.
إن رواية (عودة ست مدللة) هي حكاية الإصرار الفلسطيني وتشبثه بحقوقه العادلة وتعرضه للقتل وإبادة وتنكيل وطمس وحصار وتهميش وحلم العودة برمزيّته والمثابرة على التمسك به كحق يزلزل دولة الصهاينة ويثير الرعب في نفوسهم لأن تجسيد هذا الحق يعني النهاية لدولة المستوطنين الغرباء وإصرار ملايين اللاجئين الفلسطينيين على إنجاز حق العودة يبقى كابوساً يقض مضاجع الصهاينة رغم محاولاتهم الدؤوبة طوال أكثر من سبعة عقود لطمس هذه القضية وليس آخرها محاولة فرض صفقة القرن المذلة على الفلسطينيين.
وفي الختام لا نملك إلا أن نوجّه تحياتنا للروائي الفلسطيني مصطفى عبد الفتاح على هذه الرواية ونتمنى له المزيد من التقدم والإبداع.
الأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش
(سجن رامون الصحراوي)