يا قضاة إسرائيل: لقد أُكلتم يوم أطعمتمونا للذئب

تاريخ النشر: 27/03/20 | 9:15

تشكك قطاعات إسرائيلية واسعة في مصداقية البيانات التي خاطب فيها بنيامين نتنياهو ويخاطب مواطني الدولة، حيث دأب ويدأب من خلالها على استعراض تفاصيل أزمة الكورونا وتداعياتها محليًا وعالميًا، واعلانه عن رزمة من التعليمات والنصائح والمحاذير يسديها للناس ويأمرهم بضرورة الالتزام باتّباعها وبتنفيذها.
ورغم التشكيك في مصداقية ما يقوله نتنياهو، والقناعة من ان دوافعه في تخويف الناس مصطنعة ومغرضة، مردّها الى محاولته انقاذ نفسه من مواجهة القضاء بعد تقديم ثلاثة لوائح اتهام خطيرة بحقه؛ الا انه بالرغم من ذلك، يبقى مؤشر أعداد المصابين بالفيروس البغيض عاملًا حقيقيًا ومفهومًا في إذكاء مشاعر الهلع بين المواطنين وانصياعهم الذاعن لمعظم تعليمات انظمة الطواريء التي تعلن عنها حكومته، خاصة بعد إقرانها بأعداد المصابين الجدد بيننا وبزيادة أعداد الضحايا في دول مثل ايطاليا واسبانيا وغيرها.
على جميع الاحوال، لا يمكن، بسبب حسن حظ نتنياهو السماوي او المصنّع، وبسبب حنكته في استغلال الكوارث والمحن، ان نغامر في مواجهتنا لمخاطر الفايروس، أو أن نستخفّ بضرورة التصرف ازاءها بكامل المسؤولية الاجتماعية وبمنتهى الانضباط الاخلاقي، مهما طالت أيام عزلتنا الثقيلة.
لا نعرف متى وكيف ستقضي الدول على هذه الجائحة؛ ولا كم من الأرواح ستحصد أو من الدمار المادي ستخلّف وراءها، لكنها ستبقى، من دون ريب، نُدبة على جبين البشرية جمعاء؛ وستتحول آثارها في اسرائيل، علاوة على ذلك، الى محطة لا نعرف ما سيأتي بعدها والى أين ستأخذنا؟
فحسبما نشهده في هذه الايام، تمر على الدولة أزمة حكم خطيرة ومصيرية، قد تفضي الى قيام نظام حكم ديكتاتوري مستبد، والى اسرائيل أخرى، كتلك التي جاء وصفها في الاسفار ، تعشق دخان المذابح والنفخ في الابواق، ويشكر شعبها، في صلاة كل فجر، رب اسرائيل، ملك المعمورة، لأنه خلقهم يهودًا، لا عبيدًا ولا أغيارا.
سنواجه قريبًا، نحن المواطنين العرب، بعد سقوط ستائر الكورونا، مجتمعًا يهوديًا خائفًا متوحشًا مأزومًا، وسنكون بالنسبة لأكثريته مجرد أحمال زائدة يجب التخلص منها بكل وسيلة وبأي ثمن.
اننا نشاهد فصل الرواية الاخير، فالمعركة الجارية على عتبات المحكمة العليا الاسرائيلية هي آخر ما تبقى من مواقع، يحاول أصحاب نظام الدولة القديمة الدفاع عنها والاحتفاظ بها.
لكنهم سوف يهزمون في نهاية المطاف رغم صمودهم يوم الاثنين الماضي ووقوف خمسة منهم في وجه التنين واصدارهم قرارا يلزم المتمرّدين، على بقايا ديمقراطية عرجاء، بضرورة دعوة الكنيست الى الاجتماع وانتخاب رئيس جديد لها.
لقد صحوا على انفسهم متأخرين؛ فلقد كانوا، مثل من سبقوهم، شركاء في تصنيع الكارثة وباستجلابها الى مهاجعهم، بعد ان خانوا، لعقود طويلة، تعاليم العدالة الحقة، وجنحوا، مثل سائر العنصريين، فكانوا جنودًا للظلمة وسياطًا بيد القامعين والمضطهِدين .
انهم قضاة المحكمة العليا الذين أغفلوا صراخي، وصراخ زملائي، حين كنا نتوجع ونشكوا أمامهم ونحاول تعليمهم حكمة الضحية الحالية وهي تذكر من كانوا ضحية في الماضي وتحذرهم، ان لم يصحوا ويقفوا الى جانب “الثور الابيض” فإنهم حتمًا سيؤكلون !

رسالة مفتوحة، ثالثة، الى قضاة المحكمة العليا السابقين والحاليين
لقد وجهت اليكم رسالتي المفتوحة الاولى قبل عشرة أعوام، وذلك عبر رئيسة المحكمة العليا القاضية دوريت بينش؛ وأتبعتها، بعد ستة اعوام، برسالة مفتوحة ثانية، وجهتها لرئيسة المحكمة في حينه القاضية مريام ناؤور.
اعمل، كما تعلمون، امام محكمتكم منذ اربعة عقود؛ كنت فيها شاهدًا على انحداركم نحو الهاوية. تربعتم على عروشكم الوهمية ونظرتم الينا بتشاوف السيد على عبيده، وحسبتمونا ثلة من مشاغبين. لم تسمعوني وأنا أنبهكم اننا ” الأولون وانتم اللاحقون” ولم تصدقوني حين كتبت لكم مؤكدًا : أنني أخاف عليكم؛ فأنا كإنسان أريدكم، أنتم القضاة، أقوياء وسدنة لصفاء القانون الذي يحمي الضعيف من سلطان الحاكم المستبد والعاسف. وأكدت أنني كمواطن في الدولة أريدكم أقوياء، لأحتمي بقوتكم عندما يسلب حقي جورًا.. وأنني، كابن لأقلية قومية في هذه الدولة، أريدكم ترسًا يصدّ عني مخالب تدميني وأنيابًا تجيد القبض على كل مقتل في جسدي.
لم أتخلّ طيلة تلك العقود عن محاولاتي لإقناعكم بأنكم تسيرون على منزلق خطير؛ وتوقعت أمامكم بأن المنقلب سينقلب عليكم وعلى كل يهودي سيتجرأ على رفع صوته يومًا بما لا ينسجم وهتافات “القطيع” وضجيج تلك الجوقات اليمينية العنصرية الناعقة وفرقها الضاربة، وكنت أردد على مسامعكم، رغم امتعاضكم من وضوحي، على أنهم كالعلقات الطفيلية التي لا تكتفي ولا تشبع.
كم مرة عُنّفت، يا سادتي، بسبب “وقاحتي” لأنني طالبت بمساواة حكم المواطن العربي مع حكم اليهودي، فوُصفت من قبلكم بالوقح وبالمتمادي. وكم مرة رددتم تظلمات شيخ أو امرأة أو فلاح فلسطيني أتوكم شاكين ارهاب جيشكم أو بطش ميليشيات المستوطنين السائبة، فلم يلقوا الا إعراضكم، ولم نسمعكم الا مردّدين فرية الجبناء المداهنين وتعليلهم بأن أولئك ليسوا سوى كمشة من “الأعشاب الضارة” التي تنمو على هوامش الحياة !
قصتنا، نحن العرب في هذه الديار، مع جهازكم القضائي طويلة وجديرة بأن تستقصى من بداياتها التي ولدت قبل ولادتي بسنين قليلة، فلقد سقطتم عندما تبنّيتم مفاهيم نظرية “الأمن”، تمامًا كما هندستها ووضعتها أمامكم جنرالات المؤسسة العسكرية والأمنية، وتجنّدتم من أجل تطبيقها العملي، فطوّعتم كل القيم الانسانية في خدمتها، ورتقتم بمسلات صدئه تضاريس علاقة دولتكم مع مواطنيها العرب الذين كانوا في اعينكم، كما في أعين الجنرالات، لا اكثر من اجسام مشبوهة أو ألغام مزروعة على طريق الدولة وبين سكانها اليهود.
كنا نصرخ أمامكم ، كما صرخ السابقون منا، ونؤكد لكم ان ليس هكذا يقام العدل ولا هكذا يبنى المستقبل؛ لكنكم مضيتم في هدي وطنيتكم العمياء وقدّمتم، كما قدم معلموكم، الذرائع الواهية، وجمّلتم الواقع بمساحيق من بارود، فظلمتم سكان البلاد الاصليين المنكوبين، وساهمتم، بعدها، في ترسيخ موبقات احتلالكم ضد الفلسطينيين المنتكسين.
لم تسعفنا، يا سادتي، النداءات ونبوءات الغضب.. فلا نجاة مضمونة لأحد ما دام صوت المسدسات والبساطير يجلجل في ساحاتكم منذرًا: إما خنوعكم واستسلامكم وإما “أعواد المشانق”، أو كما قلت لكم قبل عشرة اعوام: إن قضاة يحتمون بحراس يرافقونهم حتى أبواب غرف نومهم، لن يقووا على مواجهة قتلة عصاة؛ وجهاز قضائي لا يميّز بين الضحية الحقيقية وبين قاتلها، لن يحمي حتى جلده مهما تراجع اعضاؤه وانحنوا وطأطأوا رؤوسهم…
“لقد أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”، التي قصصتها عليكم في مرافعاتي، ولم تذوتوا مغازيها – ستبقى حكمة الضحية الناجزة المقدَّمة لضحية تنتظر على خط التماس.
لقد أخافني شعور زميلتكم رئيسة المحكمة السابقة مريام ناؤور حين احتجّت قبل اربعة اعوام في بيت رئيس الدولة، على موقف وزيرة القضاء السابقة، شاكيد؛ ووصفت تصرف الوزيرة تجاهكم كمثل واحد يضع مسدسه على طاولة تفاوض بين طرفين غير أعداء؛ لقد كنتم أنتم القضاة هذا الطرف الآخر في ذلك المجاز المخيف.
وأخيرا جاء تمرد رئيس الكنيست ادلشتاين، وهو مدعوم من معسكره، على قرار المحكمة العليا، ورفضه دعوة الكنيست وانتخاب بديل له – فاصدرت المحكمة، يوم الاربعاء الماضي، قرارًا جديدًا يخوّل النائب عمير بيرتس باكمال مهمة رئيس الكنيست، ووصفت تصرفات ادلشتاين بأنها “مساس غير مسبوق بسلطة القانون” .
لقد كان لجوء القاضية مريم ناؤور، في حينه، الى استعارة المسدس من باب تطويع البيان في خطاب حذّر من غضب الايام القادمة. لكنني اشعر اليوم، ككثيرين في الدولة، ان هذه المسدسات باتت حقيقية ومحشوة وجاهزة لتقضي على بقايا نظام ينازع امامنا؛ فهل لدينا، نحن المواطنين العرب ، فكرة كيف ننجو من ذلك الرصاص؟

جواد بولس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة