أمر دبر بليل: محمد سواعد- ابن الحميرة
تاريخ النشر: 20/04/20 | 8:44إن لسان حال البشرية ولو اجتمع معظم الناس أو اكثرهم على الظلم أو الفساد والإفساد، إلا أنك لن تعدم بينهم ناصحا أو منتقدا أو مستاء من هذا الواقع المر الأليم الذي سعى المستكبرون أن يتحكموا بمصائر الشعوب من خلاله.
وهذا ما نلمسه من خلال تدبر سيرة الأقوام والمجتمعات عبر التاريخ، فهذا فرعون يستبد ويدعو إلى قتل موسى عليه السلام ويدعو قومه إلى محاربة الدعوة الجديدة وهو يعلم صدقها وعظمتها وكمالها كما قال الله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) القصص، 14، فلما بلغ من طغيان فرعون وجبروته أن دعا قومه الى قتل موسى عليه السلام (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) غافر،26، وهنا ظهر من بين ثنايا الكفر والجحود من يدافع عن موسى عليه السلام وعن دعوته وهذا الرجل كان قريب فرعون وهو مؤمن آل فرعون الرجل الصالح فقام ينافح عن الدعوة والدعاة بأسلوب حوار من أروع وأرقى أساليب الحوار والاقناع (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) غافر، 28، فهذا الرجل آمن بموسى عليه السلام ولم يلتفت الى تهديد قريبه فرعون بل حمل الدعوة ورفع لواءها وحذر قومه من عواقب الجحود والنكران لهذه الدعوة.
كذلك أجمعت قريش على حصار المؤمنين مع نبيهم في شعب ابي طالب وذلك في محاولة لمنع التعاطف معهم، فمنعت العرب من أي تعامل مع هذه “الفئة الخارجة عن القانون” في عرف أبي جهل وأبي لهب، حتى أن المسلمين في الشعب لاقوا من الأهوال ما لاقوا من الجوع والفقر، وبعد ثلاث سنوات من الحصار وإذا بالجاهلية تنقسم على نفسها وينهض من داخلها من يبدد شملها ويفرق جمعها ويقوم لنصرة المؤمنين فقام: هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وزهير بن أبي أمية المخزومي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي فاجتمع هؤلاء النفر واتفقوا فيما بينهم على نقض الصحيفة، فلما أصبحوا غدا زهير المخزومي إلى البيت الحرام وطاف به، ثم أقبل على الناس وقال: (يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم وبنو المطلب، هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة). فسمعه أبو جهل فقال: كذبت، كلا لا تشق. فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، إنا ما رضينا كتابتها حين كتبت. فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها ولا نقر به. وهنا قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك. وانبرى هشام بن عمرو، وصدّق ما قالوه. حينئذٍ انخذل أبو جهل صاغراً وقال: هذا أمرٌ قُضي بليل، تشاوروا فيه بغير هذا المكان. وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فشقها ومزقها، وعندئذ انزاح الكرب، وانجلت الشدة، وخرج رسول الله ومن معه مما كانوا فيه في ذلك الشعب.
إن هذه الوقائع وغيرها كثر في تاريخ البشرية والمجتمعات الإنسانية ليدل بوضوح أن معادن بعض البشر لا تظهر إلا وقت الأزمات ولا يفوح عبق مسكهم إلا مع اشتعال نار الأحقاد،
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان كل حسود
ولولا اشتعال النار فيما جاورت ما عرف طعم العود للعود
إن البشرية جمعاء اليوم لن تعدم مثل هذه المواقف النبيلة، ونحن نسمع أصواتا تنتقد الاستكبار العالمي والطفرة المادية على حساب الإنسان ومشاعره وقيمه، وإن مجتمعنا اليوم في الداخل الفلسطيني وأمتنا أحوج ما تكون في هذه الساعات الحرجة الى أمور تدبر بليل لصالح مجتمعنا بل لصالح البشرية جمعاء.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى نقض الفكر الهدام الذي تغلغل الى أعماق نفوسنا، فكر العائلية والحمائلية والمناصب وجمع الأموال وغيرها من أعراض الدنيا، وعلينا أن نقدح زناد عقولنا لتصميم مجتمع براق خلال السنوات الخمس القادمة في حياتنا.