الصحافة في محك الأسانيد السوسيو – رقمية.
تاريخ النشر: 21/04/20 | 11:14ترجمة عبده حقي
أثبتت الصحافة عبر تطورها التاريخي وفي كثير من الأحيان أنها نشاط اجتماعي ومهني معقد يصعب تعريفه . في حين أن الاعتراف بأية مهنة يعتمد بالدرجة الأولي على قدرتها على إنشاء فضائها الخاص المحدد مع الحرص على ألا يبقى هذا فضاء مغلقا على ذاته.
في عصرنا الرقمي هذا يأخذ العمل الصحفي حدودا متعددة الأبعاد. هذه التحولات ناتجة عن العوامل البنيوية والظرفية التي هزت معايير الفاعلين المعنيين في الميدان . فالأجناس الصحفية المهنية تواجه كلا من المنطق السياسي والاقتصادي والتكنولوجي الذي يضعها في هيكل منظم حيث لم يعد بالإمكان التغلب على تحديات المهنة في وضع معرفي أحادي .
الطبيعة غير المستقرة للأرضية الرقمية وصعوبة فهم الممارسات داخل المؤسسات الإعلامية المتعددة في مقاربتها للمعلومات والمتفردة في خصوصياتها كلها عناصر تساهم في تعقيد الدراسة حول التحولات الناتجة عن التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتصال.
هذه التحفظات المذكورة سابقا أدت إلى العديد من الأبحاث على مدار العشرين عامًا الماضية وبشكل أساسي في المجال الأكاديمي الأنجلوساكسوني وأيضًا في المجتمع الفرنكفوني في رابطة الدول المستقلة والتي أنجزت أبحاثًا عن الصحافة في العصر الرقمي الذي نال تقدير كثير من الباحثين.
لا يهدف هذا المقال إلى تقديم ملخص شامل لهذه الأبحاث التي نشرها مؤخرًا مرصد الصحافة الشبكية بجامعة “لورين” بل يتعلق الأمر قبل كل شيء بتسليط الضوء على مخرجاتها الرئيسية من خلال بعض الاتجاهات التي تعتبر دالة وهامة وبالتالي ذات مغزى لاستخلاص الدروس منها. إنها أيضًا تتعلق بمسألة الإصرار بشكل إيجابي على الإشكالية الأكثر دقة حول استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية من قبل الصحفيين أو استيعابها وإظهار مدى تعقيدات هذه الاستخدامات.
دراسة هذا السؤال تعني الانخراط في سيرورة استكشافية تمكن من تسليط الضوء على الدوام والانتعاش اللذين يمسان الحقل الصحفي حتى لا يقع في التبسيط الذي لا يفهم الاستخدامات إلا من منظور اختزالي للوسائل والتي بدورها تؤدي إلى سيناريوهات المستقبل.
نقترح هنا تفكيرا على ثلاث مراحل: بعد أن وضعنا حصيلة سريعة لعشرين عامًا من تأثير الإنترنت على الحقل الصحفي سوف نستحضر أهمية الرهانات
السوسيو- اقتصادية للقطاع ومقاومات ملامح هويات المهنة في سياق يتميز دائما بالخطابات الحاسمة والحتمية. ثم سنبرز من خلال أعمالنا الخاصة تنوع ومرونة استخدامات الصحفيين للمعلومات الرقمية التي تكشف عن أهمية النموذج
السوسيو- تقني الذي ستكتسبه الأبحاث في حقول علوم المعلومات والاتصال بشكل إيجابي أكثر.
عشرون عامًا من البحث حول تأثير التكنولوجيا الرقمية على الصحافة : إنها حصيلة ملتبسة تتناقض مع خطاب حتمي وملح .
تؤكد دراسة ما يسمى بالصحافة “الرقمية” على مدى العقدين الماضيين تطورًا في موضوعات البحث خلال فترتين رئيسيتين متعاقبتين.
الفترة الأولى (1995-2004) حيث تركزت الأبحاث على التغييرات عبر الأونلاين حول مقاولات الصحافة والصحافة المهنية . ويتزامن النصف الثاني من التسعينيات أيضًا مع تصاعد وتثبيت مجال علمي خاص بدراسات الصحافة في فرنسا . خلال هذه الفترة تمحورت الأبحاث حول إعادة تعريف مهنة الصحافة في العالم الرقمي وتطوير المعلوماتية في غرف الأخبار وإحداث تحولات في علاقات الصحفيين مع بيئتهم المهنية ( المصادر، الجمهور ، المعلنون ، الإنتاجات التحريرية …)
الفترة الثانية 1995-2004: تركزت خلالها الأبحاث على صحافة الأونلاين والمقاولات الإعلامية .
في عام 1996 تساءلت الكاتبة فاليا كايماكي في كتابها بعنوان “تفاعل الصحافة والإنترنت ” عن استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال من قبل المقاولات الإعلامية بسؤال أساسي والذي لا يزال سؤالا راهنا هو: ” هل ستنجح الصحافة الإلكترونية؟ لا شيء يضمن ذلك … “.
إذن في سياق مبهر للانتشار السريع والمكثف للإنترنت أكدت عديد من الخطابات على الإمكانيات التي يتيحها هذا التلاقي التكنولوجي والبعد التشاركي الذي حققته وسائل الإعلام . تحتفي هذه الخطابات بالمشاركة المتزايدة للقارئ الذي لم يعد قارئا سلبياً وإنما أصبح قادرا على “تخطيط كتاباته الخاصة على الشاشة حيث يظهر إنتاج الآخر” كل ذلك بفضل جهاز تفاعلي يحول مستخدم الإنترنت من وضع إقرائي إلى وضع يمكنه من استثمار وظائف تحريرية جديدة .
إنها أيضًا مرحلة مفصلية حيث أمكن للباحثين في معظم المقاولات الصحفية ملاحظة أشكال المقاومة المختلفة الواعية بشكل أو بآخر بالنموذج التقليدي لإنتاج المعلومات والذي يهدف إلى ترسيخ هيئة الصحافي الذي يرتكز دوره على قراءة العالم . يظل هدف هذا الأخير هو مراقبة حقل يتطلب حتمًا إنتاج خطاب يتراوح بين القبول والرفض. إنه بقيامه بهذا الدور يضفي شرعية ما في بناء وتفسير هوية الصحافة. إن المقاربة السوسيو- خطابية التي اقترحها جان ميشيل أوتارد سنة 2002 تتميز بتحليل العناصر الفاعلة في الميدان من خلال الخطاب . ومن منظور سوسيولوجية الاستخدامات ووفقا لمسار نظرية الفاعل يتكون مجال البحث في نفس الوقت من واقع ملموس في الموقع والخطابات المنتجة لهذا الواقع.
ومع ذلك فإن هذا الخطاب الداخلي حول مهنة الصحفي نفسه إذا كان من الممكن أن يكشف عن خطوط القوة في التعريف أو تحديد المهنة فلن تكون أقل من نتيجة تكوين “منطقة ذات معنى” شخصي قبل أن يكون جماعي . حتى لو كان تمثيل الصحافة يمكن أن يتزاوج أيضًا مع حدود “البناء التنظيمي” المستمد من داخل المهنة. تساعد هذه الإشكالية على التمثيل السياقي للتكنولوجيات والتي نجدها في النظريات “البنيوية ” لسوانسون وراميلر 1997 ” التي تساعد على فهم أفضل لصيرورة التحول في الديناميات التنظيمية . ومن خلال مفاهيم “الرؤية المنظمة ” أو “لروح التكنولوجيات” فإنها تسلط الضوء على المكانة المركزية للتمثيلات الاجتماعية في التحولات وهي مسار للتفكير الملح والمصر للباحث الذي يهتم بعملية بناء معنى في بيئة ما حيث يكون فيها المتخيل الاجتماعي للمهنة قويًا ومستثمرًا جدًا في المشروع اليوتوبي.
تزامنت الفترة ما بين 2005-2014 مع ظهور المدونات وبشكل عام الوسائط الاجتماعية في النظام البيئي للمعلومات على الإنترنت . كانت هذه هي الفترة التي شهدت فيها الدراسات المتعلقة بالصحافة الإلكترونية تطوراً سريعًا لا سيما مع هيكلة برامج بحثية جديدة وإنشاء مجموعات موضوعاتية في مختبرات علم المعلومات والاتصال .
أثار الاهتمام المتجدد بمنشورات الهواة في المحيط الصحافي العديد من الأبحاث الفرنكفونية . فيما اهتم باحثون آخرون بدمج الوسائل الجماعية في وسائل الإعلام من أجل تسليط الضوء بشكل أفضل على دور الشركات الصحفية في استخدام منصات الصحافة التشاركية.
تشير الأبحاث التي أجريت حول موضوعة مشاركة مستخدمي الإنترنت في الفضاءات الإعلامية إلى أنه على الرغم من أن مساهمة هواة النشر هي نتيجة إرادة شخصية واضحة وبرهانا على خدمات الماركوتينغ إلا أنها تخضع لمنطق تأطير يهدف إلى الحفاظ بشكل أفضل على مراقبة المهنيين . فضلا عن ذلك إن القراءة النقدية لتاريخ وسائل الإعلام تروم تبيان أنه في كل مرة يتم فيها إعطاء الكلمة للجمهور سواء على مستوى البرامج الإذاعية في المحطات الخاصة أو رسائل القراء أو الحوارات المتلفزة غالبًا ما يتم التعبير عن هذا الكلام في إطار معياري ومضبوط وهو نتاج انطلاق أكثر من كونه محركًا لإضفاء الطابع الديمقراطي على الكلام العلماني . غالبًا ما يتم استخدام هذه الفضاءات بشكل غير رسمي للترويج للصناعات الثقافية والإعلامية وفق منطق استخدام مؤسسات مجتمع الويب 2.0 لأغراض التسويق التجاري.
شكل البحث في إدماج تكنولوجيا المعلومات قصد إنتاج وتوزيع المعلومات على الأونلاين أيضًا اتجاهًا رئيسيًا في السنوات الأخيرة حيث تركزت الدراسات على العلاقة بين الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي لا سيما فيسبوك و تويتر وهي المنصات الأكثر استخدامًا من قبل الصحفيين .
صحافة سيبرانية مستمرة في البحث عن ذاتها .
تحيلنا الأعمال المنجزة في هذا المجال إلى الواقع الفج لأنترنت متأثر أكثر بمنطق الصناعات الثقافية وبعيداً عن التنبؤ بتحول نموذجي أو تجديد شامل لمهن المعلومات وبشكل خاص الصحافة.
وبحثًا عن الصحافة السيبرانية في النصف الأول من سنة 2000 كنا قد أظهرنا أن المقاولات الإعلامية كانت قد قللت من الإمكانيات التي توفرها الشبكة العنكبوتية وأن وصول هذه الأخيرة لم يحدث أي تغيير حقيقي في القاعدة أو تغيير في النموذج . وبعد أكثر من عشر سنوات لم تتغير نتائج باحثين فرنكفونيين آخرين، انظر بشكل خاص ريبيلارد وتوبول في 2010 ومرسييه وبينارد شينيل في 2012 ورويلان ولي كام في 2014 على الرغم من بعض التطورات المتسارعة خاصة في مجال الصحافة المهنية : إن إمكانيات التقنيات الرقمية لم تسمح بتجديد حقيقي في الصحافة سواء في بعدها التكنولوجي أو في بعدها التحريري حتى لو ظهرت بعض محاولات الابتكار الخجولة التي حاولت القيام بزرع بذور تغيير عميق .
أما بخصوص علاقاتها مع المصادر الرقمية فإن التنويع الذي طال انتظاره من طرف بعض المهنيين لم يحدث بالفعل : على الرغم من الفرص التي وفرتها بعض المصادر (المدونات على وجه الخصوص) التابعة لإنترنت مستقل عن وسائل الإعلام والمؤسسات السياسية والتجارية فيما تميل معظم المصادر المؤسساتية إلى السيطرة على اختيارات الصحفيين. أما فيما يتعلق بعلاقات الزمالة فلا تزال إعادة هيكلة المنظمات والأعمال الصحفية خجولة ومترددة وتحرير الأخبار على شبكة الإنترنت بعد أن كان في كثير من الأحيان موضوعًا لعمليات الترحيل والانتقال صار يجد صعوبة في العثور على مكانه داخل الخدمات حتى لو كانت اليوم تبدو مندمجة بشكل أفضل في عمليات الإنتاج.
أما على مستوى الإنتاجات التحريرية فإذا تحقق تجويد ما لممارسة الكتابة الترابطية بشكل أفضل فإنه قد تمت ملاحظة تقدم كبير فيما يتعلق بإغناء الوسائط المتعددة للمحتويات وتقييم للبيانات المرئية .. لكن أهم الابتكارات حدثت بشكل إيجابي على هامش المهنة في إنتاجات المدونات وبعض المواقع ذات البعد اللعبي الأصيل .
أخيرًا وفي موضوع العلاقات مع الجمهور فقد تضاعفت إمكانيات الصحفيين للتفاعل مع قرائهم عبر الإنترنت (رسائل البريد الإلكتروني والمنتديات والمحادثات والمدونات والشبكات الاجتماعية ..إلخ ) بشكل كبير في وقت قصير للغاية وذهبت إلى أبعد من ذلك إلى الإشراك النشيط للقارئ من حيث الإنتاج المشترك للمقالات. ولكن كما بينت ذلك جيدا الأعمال المتعلقة بصحافة المواطن المشار إليها أعلاه هناك أقلية نشيطة فقط من المواطنين والصحفيين الذين يلعبون حقًا هذا الدور وبالتالي فإن إعادة تخصيص الإنترنت من طرف الصحفيين يظل متباينًا وانتقائيًا في ظل غياب استراتيجيات تنظيمية تطوعية وذات تكوين مهنيً أكثر تدعيما واستهدافًا.
وبشكل عام فالصحافة الإلكترونية لا تزال لم تشكل ذلك النموذج المتميز الجديد الذي من شأنه أن يجعل وسائل الميديا التقليدية متجاوزة. كما كان الأمر قبل عشر سنوات حيث كان هذا النموذج الإعلامي ما يزال في طريق البحث عن نفسه .. وهو اليوم أكثر حضورا مما كان عليه من قبل بشكل أفضل اليوم.
النتائج التي تتناقض مع خطابات الحتمية.
قبل انتشار شبكة الويب على نطاق أوسع أبرزت أعمال بعض الباحثين الدور المحوري لخدمات الاتصالات في إعادة تنظيم إجراءات العمل لدى المهنيين الإعلاميين منذ بداية الثمانينات. وقد أكد دومينيك وولتون وجان لويس ليبيجون في مقاربة استشرافية في عام 1980: “سيكون الصحفي مضطرا للتفكير بطريقة مختلفة وإقامة علاقة جديدة بينه وبين الشاشة ولوحة المفاتيح. كما سيتعين عليه الانتقال من الملموس إلى اللاملموس. وستكون قدرته على التطور والتكيف تعتمد أكثر على رهاناته المستقبلية .”
وبعد مرور عشر سنوات على ذلك أكد جون بافليك في مقالة تأسيسية بعنوان “تأثير التكنولوجيا على الصحافة” نشرت سنة 2000 على الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه تقنيات الإنترنت في تحولات الصحافة. في نفس الرؤية أظهر مارك دوز أيضًا سنة 2005 الإمكانيات التكنولوجية للإنترنت واحتمال حدوث تحول جذري في الحقل الصحافي الذي سيصبح “رقميا”. لقد تم النظر إلى التكنولوجيا باعتبارها حليفا موضوعيا لتغيير الممارسات المهنية. هذه الأطروحات التي كشفت عن نموذج للنشر يهدف إلى إحداث ثورة في الصحافة بفضل الفرص والإمكانيات التي توفرها الديجيتال (الرقمية).
وقد كشفت نتائج الدراسات البحثية التي أجريت في هذا المجال على وجه الخصوص عن رؤية الصحفيين إلى التكنولوجيا على أنها النظير المتجانس للوسائل المرافقة لعملية تطوير الوسائط الرقمية وكذلك المحرك الذي سيسهل ديناميات الابتكار في وسائل الإعلام الشبكية . في الواقع هناك العديد من الخطابات ذات الملامح الاحترافية إذ يستدعي الأمر التكنولوجي إعادة النظر في تطور الصحافة بناءً على الإمكانيات التي توفرها وسائط الإنترنت.
يمكن أن نلاحظ وجود فجوة كبيرة بين هذه الخطابات المطمئنة ذات المنحى الحتمي وحقيقة الممارسات التي لوحظت في هذا المجال سواء من قبل الباحثين الأكثر انتقادا وبعض المهنيين المحترزين . ولكن كيف يمكن إذن شرح مثل هذا التباين في الآراء ؟ قبل كل شيء يجب إبراز الأسباب الثقافية والاقتصادية .
العوائق والعقبات التي تقف في وجه هذا النموذج الناشئ.
في سياق الأزمة الحالية في وسائل الإعلام والتي تتميز بتراجع الهوية الصحفية على هامش مهن الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتجارة يتم تفسير مقاومة هذه التحولات برغبة واضحة في إعادة رسم الحدود التي باتت تتلاشى يوما بعد يوم بسبب التكوينات الاجتماعية والتقنية الجديدة والتشاركية.
بالإضافة إلى هذه الرغبة الضمنية في “احتكار سلطة القول” ترتبط الإكراهات الجديدة للصحافة الإلكترونية بضغط الوقت وفورية المعلومات والطبيعة التفاعلية للإنترنت التي تضع محترفي المعلومات في موقف يُلزمهم بتأسيس نهجهم على التكيف والاعتماد على أي تقنية جديدة من خلال نسبة الاستثمار والعائدات.
الهوية الصحفية المهنية وانبعاثها.
أثار وصول الإنترنت إلى المقاولات الصحفية طرح مسألة الحدود الصحفية على ثلاثة مستويات.
بداية على مستوى ترسيم الحدود بين محترفي المعلومات وهواتها . إن التطور في مجال النشر على الأونلاين سواء من حيث منصات التدوين والشبكات الاجتماعية قد أسهم في خلق التباس في هوية الحقل الصحافي.
المستوى الثاني يتعلق بإعادة تشكيل وتحويل حدود مهنة الصحافة إلى الرقمية مما تسبب في توترات بين الصحفيين التقليديين والصحفيين الإلكترونيين .
الأبحاث التي أجريت في هذا المجال قد سلطت الضوء على أشكال جديدة من الشروخ والتصدعات المهنية.
إذا كان الصحفيون الورقيين قد حافظوا على صورة متألقة جدا لأعمالهم باعتبارها وجها صريحا لحراس البوابة الديمقراطية فإن النشر عبر الويب ينزع إلى الملاحظة المتدنية . حيث في هذا القطاع الأخير لا تزال الصحافة تتركز على وظيفة الإنذار الذي يحفز الصحفيين الآخرين على إنتاج تحليلات ومقالات متعمقة .
في المستوى الثالث أثار اقتحام الإنترنت غرف الأخبار مسألة اختراق الحدود بين الصحافة ومهن إدارة المحتوى التحريري عبر الإنترنت. لقد تطورت على هامش مهنة الصحفي المزيد والمزيد من المهارات المختلطة التي تتجه نحو الأخذ في الاعتبار بشكل أفضل الأبعاد المختلفة للكتابة على شبكة الإنترنت والتي تختبر في نفس الوقت الهوية الصحفية . هذا أيضًا تسبب في زعزعة الاستقرار بسبب المنطق الاقتصادي والمالي الموجود في المقاولات الإعلامية.
الثقل المتزايد للإكراهات الاقتصادية والمالية في مجال المعلومات الشبكية .
أبرز عدد من الباحثين المكانة الهامة التي يشغلها المنطق الاقتصادي والتجاري في وسائل الإعلام بمن فيهم جوليان دوفال 2004 وريمي ريفيل 2005 ويانيك إتيان 2007 الذين أكدوا على التشابك المتزايد والمتصاعد في الاقتصاد النيو- ليبرالي الذي يقوده منطق المردودية المالية والصحافة “المدفوعة بمنطق السوق” والتي ستنخرط بشكل إيجابي أكثر مع منطق الجمهور.
وللوصول إلى بداية في التوازن المالي عملت العديد من غرف التحرير على واجهتين : خط تحريري عملي ومفيد لتكوين المواطن وإثارة النقاش الديمقراطي وخط تحريري أكثر ابتذالا يرتكز على معلومة البضاعة التي تزاوج بين مدارات التحرير بمتطلبات الجمهور وتهدف في جزء كبير منها إلى تمويل الصحافة التي تعتبر أكثر “نبلا “. إن الحدود أصبحت غير واضحة في الشبكة العنكبوتية مما يجعل المعلومة محاصرة بمنطق متطلبات المردودية الربحية.
في مقالة نشرتها مؤسسة نيمان بجامعة هارفارد أيدت لورا ماك جان بوضوح إمكانية استناد الصحافة الإلكترونية إلى طلب جمهور القراء والاستجابة لهم بشكل إيجابي . في المقابل فإن التوفيق بين منطق الماركوتينغ ومنطق التحرير يعني أن أدوات قياس الجمهور تؤثر في تغيير الصحافة في مبادئها التأسيسية . لأن صحافة الإنترنت تنتقل بعد ذلك من النشاط الاجتماعي والمدني إلى نشاط السوق.
لقد دافع بابلو بوكزكوسكي من جهته عن فرص “صحافة السوق” في عصر الوسائط الرقمية. إن رؤية مثل هذه قد تجد صداها الخاص عند هذا الباحث المشهور عالميا ومؤلف العديد من الأعمال النقدية المرجعية حول الصحافة الإلكترونية.
ففي رأيه إن قوانين العرض والطلب التي تحكم المجال التجاري يمكن أن تنطبق أيضا على قطاع الصحافة. بمعنى آخر سيكون الصحفي ملزما بتكييف عرضه التحريري وفقًا لمصلحة الجمهور. لذلك يكمن الرهان والتحدي في إمكانية رؤية آثار مستخدمي الإنترنت بمثابة قواعد حسابية ومصفاة في منطق الوساطة مع مصادر أخرى لتقديم محتوى على المقاس . من الواضح أن أي مادة منشورة على النت تروم أن تكون مقروءة بهدف أن يشكل الجمهور رهانا هاما جدا في بقاء الوسائط الإعلامية حية ونشيطة . لذلك لم تنتظر وسائل الإعلام الإلكترونية هذه الأطروحات لاستخدام الإحصائيات كأدوات للتدبير وتعديل عروضها…
أخيرًا يمكن اعتبار الإنترنت بمثابة “أغورا” عالمية تتعايش فيها المعلومات والضوضاء معا . فقد أصبح الاعتماد على محركات البحث قضية أساسية لصحافة الأونلاين . ووعيا منها بأن مستقبل الصحافة يكمن في قدرتها على إنتاج محتوى أصلي ومرئي من خلال محركات البحث نظمت عدد كبير من وسائل الإعلام دورات تدريبية للصحفيين في مجال تحسين محركات البحث أي ما يعرف ب”سيو”
SEO (Search Engine Optimization). حيث يتعلق الأمر بالتقنيات التي تهدف إلى تحسين ظهور المنشورات على الإنترنت. والهدف من ذلك هو التأثير على خوارزميات غوغل من أجل الظهور في النتائج الأولى لمحركات البحث وتحسين محتوى منشوراتها لتحقيق ترتيب عالٍ وبالتالي تصبح مرجعا جيدًا.
في هذا الصدد يجب أن نتذكر أن عددًا من الوسائل والخدمات المرتبطة بالويب 2.0 تقدم توثيقا للمفاهيم والمصطلحات الأكثر استخدامًا في عمليات بحث المستخدمين.
أما فيما يخص الوضع في ما وراء البحار فإن مراكز اهتمام الجمهور ترتبط بالاشتغال على عدد معين من المواقع . يمكن تتبع البرامج وأدوات قياس الجمهور مثل “شيرتبيت” أو “نيوبيل” لمعرفة وتقييم المقالات الأكثر قراءة .
تصير المحاولات أكثر من أجل استخدام هذه النتائج لتنسيق المحتوى التحريري وفقًا للتوقعات وانتظارات القراء مما يؤدي إلى زيادة زيارات الموقع وفي النهاية إهمال الموضوعات التي تسجل أقل عدد من النقرات .
هذه التقنية تجعل من الممكن في النهاية تحديد الخط التحريري للجريدة بطريقة أكثر عقلانية .
ولكن إلى أي حد يمكن أن تستمر الصحافة من دون المجازفة بفقدان قيمتها في هذا الاقتصاد المعرفي الجديد الذي أصبح يوما بعد يوم حاضرا بقوة في مجال الميديا ؟
هل ينبغي لنا إذن منذ الآن التفكير في أن مصير الصحافة الرقمية يكمن في انغمارها في الشبكات الرقمية التي تتغذى عليها وتصبح فريستها الرئيسية في نفس الوقت ؟ في الحالة الراهنة للأبحاث لا يبدو من المناسب أن نستثمر في هذا الجانب المظلم من الحتمية التكنولوجية . إن الاهتمام بالاستخدامات لا سيما استخدامات الصحفيين يعني أيضًا اكتشاف تنوعها ومرونتها وتحولاتها … وبالتالي الوقوف ضد أي رؤية شمولية مناسبة للعديد من التيارات الحتمية .
مرونة هوية الصحافة ومرونة استخداماتها.
منذ أن وجدت الصحافة كنشاط اجتماعي وكمهنة لعبت التقنيات وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات دورًا كبيرًا في تطورها وهيكلتها كما أظهر ذلك عديد من الباحثين مثل مايكل بالمر ومايكل شودسون .
من الأخبار التي تحدثت عن معلومات الأونلاين مرورا بالأخبار الإذاعية أو التلفزية اتخذت الأخبار الصحفية شكل “عوالم إعلامية” التي تتوالى أو تتزامن . لذلك كان تأثير التكنولوجيا على الصحافة تأثيرا مهيكلًا غير أنه عكس ذلك كان المهنيون قد استوعبوها وصاروا قادرين على إظهار إمكانيات قوية لإعادة تملكها . إن الحقيقة المتمثلة في كون الصحافة لا تزال مهنة منفتحة حيث إن مجالها ذو هندسة متغيرة قد مكنتها من التكيف المستمر مع مختلف التحديات التكنولوجية التي واجهتها في مسارها التاريخي . لقد تعزز إدخال المعلوميات ثم الإنترنت إلى غرف تحرير الصحف المحلية ما دفعنا إلى التعبير عن مرونة هوية الصحافة في إطار الأعمال الريادية.
حالة غوغل : استخدام عام ومنتظم ومستهدف وقصير المسافة.
في سياق الاستخدام المتصاعد للمصادر الرقمية من طرف الصحفيين من خلال الإصدار التنازلي أو التصاعدي لتقنيات الدفع مثل أسلاك لـ RSS أظهرت أعمالنا التي تم تنفيذها في إحدى الصحف اليومية الوطنية استخدامًا منهجيًا ومبتذلا لغوغل كمحرك بحث شبه حصري في حين يوجد حوالي ألف محرك بحث متاح في السوق مع أدوات قوية للغاية مثل “فولفرام ألفا”. لقد فرض غوغل نفسه أمام المحركات الأخرى باعتباره المحرك الأكثر فعالية وكفاءة . ومن ناحية أخرى انتقد عديد من الصحفيين المستجوبين هذه الأداة التي تم استخدامها بشكل مبتذل من خلال تقييمات إيجابية بشكل عام . إن هذا الحضور البارز لغوغل يروم تعزيز الثقل الكبير بالفعل لأكثر المصادر المؤسساتية باعتبارها معرفات أساسية للمعلومات الحالية في سياق الندرة النسبية للمصادر البديلة من شبكة الإنترنت المستقلة والتي تحظى بالثقة من طرف الصحفيين الذين تم استجوابهم . في الغالب لا أثق : “في رأيي إن مدونة لا أعرف هوية صاحبها لا تعتبر مصدرًا موثوقًا به “. لا يتم تفسير وزن المصادر الرسمية والأكثر شيوعًا من خلال تحفظ المهنيين عن المغامرة تجاه مصادر غير رسمية وغير آمنة . لكنه يرتبط أيضًا بالعواقب المترتبة على خوارزمية غوغل والتي “تمنح الائتمان لأولئك الذين يتوفرون عليه مسبقا” إذا ما استخدمنا تعبير بيير بورديو) والممارسات المحدودة جدا للصحفيين الذين يعترفون أنهم لا يستخدمون الوظائف المتقدمة لـهذا المحرك وخدماته الأكثر استهدافًا مثل محرك الباحث العلمي Google Scholar .
وبالتالي تُظهر الدراسة بعض النقص في المنظور من جانب المهنيين الذين تم استجوابهم في مواجهتهم لأداة يعتبرونها الآن حقيقة وهي ضرورية للجميع لا سيما بسبب حيادها الواضح مثلما هو الأمر مع الميكروفون . حتى وظيفة أخبار غوغل لا يُنظر إليها حقًا على أنها تهديد أو منافسة لشركات الصحافة. استنتجنا من هذه الفجوة “بين المسافة الكبيرة التي يتخذها الصحفيون فيما يتعلق بمصادرهم الرقمية وتلك المقلصة التي يظهرونها تجاه غوغل فيما هذا الأخير أصبح “أحد مزودهم الأكثر استخدامًا بل الأكثر جذبا “. هذه النتيجة هي الأكثر إثارة للاهتمام لأن المهنيين الذين شملهم الاستطلاع ليسوا جددًا في استخدام الأجهزة الرقمية : تجربة تحرير الويب والإنتاج الدؤوب للويب والمصالح الشخصية لتكنولوجيا الجديدة للمعلومات والاتصال والآراء الهامة المنتقدة للصناعة الرقمية وشركاتها متعددة الجنسيات …
في الختام : فرادة الأجهزة وأهمية المقاربة السوسيو- تقنية .
نلاحظ إذن أن هناك مواقف مختلفة تمامًا وأحيانًا متناقضة للصحفيين تجاه الأذاتين المتفاعلتين معهم . بينما يتعلق الأمر بأدوات ماضية في التوسع الشامل وقادرة على التنافس مع الصحافة التقليدية من خلال قدرتها على تحويلها في العمق نحو “صحافة مصطنعة” مع غوغل بل “صحافة متضائلة” مع تويتر. هذا هو السبب في أننا استحضرنا في هذه الحالة الأخيرة “صدمة الميديا الثقافية ” التي لم يتم بعد برمجتها وقيادتها من قبل المؤسسات الإعلامية التي لا تهتم كثيرًا بتنفيذ دراسات الاستخدام والتي ستكون نتائجها مفيدة للغاية لتطوراتهم المستقبلية.