كورونا والوحش: حين يتبرع القاتل بجريمته لضحيته !
تاريخ النشر: 27/04/20 | 11:10
بقلم : لينا أبوبكر
لم تنتهِ حروب الإخوة الأعداء في لبنان ، و لا ميليشيات المجازرفي المخيمات، ولا نعرات الهيموفيليين الجدد من أصحاب الدم النّيلي ، الذين يخزنون بصماتهم الدموية في بنك الموتى ، كما يحتفظون برتبهم العسكرية و حروبهم المنتهية الصلاحية وجرائمهم العنصرية ، بلا محاكمة ولا توبة ، حتى بعد مرور أكثر من ربع قرن على الحرب اللبنانية ،التي يعيدون تدوير مخلفاتها في لعبة كراسي مستطرقة ، لها مصرفها الصحافي الذي يتبرع بجريمته لضحيته ، عبر وسيط كاريكاتور يقارن الضحية الملثمة بتاجية كوفيد19، فأهلا أهلا ! أتى زمن على هذه الغابة ، يغير فيها الفيروس معادلة القصاص و شريعة الغيلان ، ليلتقط القاتل قبل القتيل ، و السجان قبل السجين ، والمجرم قبل الضحية ، والميليشياتي قبل المواطن ، والحرامي قبل المنصوب عليه ، والخائن قبل المغدور ، والرأس قبل القطيع ، فماذا بعد يا أولاد كورونا !
* * *
يسأل الغزاة الفلسطينيين : كيف احتملتم حصارنا ؟ كيف لم يضق حريتكم بسجوننا ؟ أيها الفلسطيني ، حين يُحَيّرُ صبرُك عدوَّك ، تأكّدْ أنَّه شجاعتُك و أن ضعف عدوك حيرته ، كيف لا وعزلة الفلسطيني مراسه المحنك ، و تجربته النضالية ، التي يحاول إنسان العصر الرقمي تقمصها في حين يختبئ جبابرته من فيروس ، يا لهشاشة زيفهم ، الذي فضحه استتاره ، أكثر مما عراه الميكروب ، ولكن ، كيف استطاع كوفيد 19 أن يوحد البشرية على التباعد الاجتماعي بين البشر ؟ في حقيقة الحال : كورونا مرآة لامرئية ،تجري تبادلا وظيفيا و ظرفيا بين الفيروس والسجان وبين السجين والسجان ، كيف ؟ كورونا تزج بقطيع الحراسة في زنازين يسيجها الخوف ، و تهدد أمنها فكرة المرض ، بينما يعيش الاسرى في سجون الاحتلال واقعا مرضيا مريرا ، بين انعدام العلاج ، كأسلوب من أساليب التعذيب والاضطهاد – ما ينافي كل المعايير الدولية والأخلاقية والقانونية بالتعامل مع الأسرى – وبين التباطؤ المتعمد ، للاستجابة لنداءات الاستغاثة ، حين يتعلق الأمر بحالة طارئة ، أو بتفاقم أزمة مرضية ، أو بأن يتعرض الأسرى والأسيرات إلى ألم في الأسنان او نزيف حاد ، أو حالات إغماء جدية ، عداك عن الشح بالطعام الصحي الذي يحتوي على فيتامينات تقوي من مناعة الأسير و تزوده بطاقة تمكنه من مقاومة -أو حتى احتمال الألم ، أضف إلى هذا عدم الانتظام بالعلاج ، والاكتفاء أحيانا بجرعات متقطعة ومتباعدة من مسكنات الوجع ، بما لا يغني ولا يسمن من أنين ، أضف إلى هذا كله ، عمليات بدون بنج ، أقراص غامضة تُعطى للمرضى أحيانا ، استئصال أعضاء من دون تقرير طبي يوضح أسباب هذه الإجراءات الغامضة . وحين يطلب المرضى المساعدة من فرق الصليب الأحمر ، يواجهون صعوبات من نوع آخر ، تتعلق ببطء الإجراءات ، والاكتفاء بما قل ، حتى أن كثيرا من المرضى يتم حجزهم ، ورفض علاجهم أو إطلاق سراحهم للسماح لهم بتلقي عناية طبية في مستشفيات أكثر إنسانية من مستشفى سجن الرملة ، الذي يطلق عليه الأسرى : عيادة الموت ! العامل النفسي والعاطفي يلعب دورا أقذر في تعريض المرض لخطر الوفاة ، فمنع الزيارات ، و المعاملة السيئة من الممرضات والأطباء ، التهديدات اللامبررة ، الشتائم ، السخرية – خاصة من المقعدين – رفض تلبية طلبات المرضى الملحة والاضطرارية ، الإهمال ، البيئة الغير صحية ، كل هذا وقد يصل الأسير المريض إلى مرحلة ، يطلب فيها فقط الموت بين أهله ، ولن يسمح له ، فأي احتمال ، بل سل أي احتلال !
* * *
تظل العزلة رصيدا احتياطيا للأسير ، في زمن يتحول به كوفيد 19 من مسخ ميكروبي إلى وحش فرانكشتاين ، ولكن ما هي المواصفات العزلوية لكورونا ، وما هو الفرق بين العزلة الوقائية و العزلة المقاومة ؟ السجن عادة ليس محمية بشرية ، بقدر ما هو عقاب إصلاحي ، أوإشراط إجرائي لتغيير سلوك من تتم معاقبتهم ، وهو ما فشل فيه السجان الصهيوني ، لأن البطل ليس كائنا مازوشيا ، إنه صاحب قضية وحق ، لا يمكن للإجراء العقابي أن يشوه مساره السلوكي ورسالته النضالية، وأية استجابة للعزلة بهذا المفهوم ، تعني الاستسلام والتخلي عن أخلاقيات الشجاعة ، و قيم الصمود ، خاصة حين يقلب الأسير السحر على الساحر ، محولا عزلته إلى ثكنة مقاومة ، وسجنه إلى معسكر تجنيد ، و وزنزانته إلى حقل تواصلي مع الرفاق . بينما لا يحتمل السجان الحجر الصحي ، حتى وإن كان وقائيا ،فاختبار الحرية بالصحة يهشم غطرسته ، ويساويه ليس فقط بسجنائه ، إنما بالفيروس على اعتباره سجانه الذي يضعه وجها لوجه مع حصاره وأدواته القمعية ، مع عدوه الذي يشبهه ، ومرآته : وجه كوفيد 19 ، فكيف يختبئ القاتل من القتيل ، وكيف يتنكر الفيروس بكاريكاتور العميل ؟
* * *
هل يكفي السجانَ بعد كل هذا ممارسة السجن الوقائي جماعيا ، أو التزام بيته كزنزانة انفرادية ؟ بالنسبة إليه القهر الحقيقي ليس الظرف القهري ، بل الوظيفة الفيروسية للسجان ، الذي لا يجرؤ على اختراق المنظومة الوقائية والرقابية ،بجنحة تمرد ، أو خيانة صحية ، و شوف ما أجملها حكمة الوباء ! البيت لن يكفي السجان ، لكي يُعلي من قيمة الحجر الصحي في نظره ، لأن البيت لن يعني العائلة بحميميتها المعتادة بقدر ما يعني العبء الوبائي الذي يكدر مزاج السجان ، أكثر مما تفعل السجون التي يقبع على بابها كخازن الجحيم ، ولك أن تتخيل ماذا يفعل الأسير الفلسطيني لو منحته بيته خلال عزلته ؟ لكان اكتفى به عن الدنيا بأسرها ، لأن بيته هو حريته ، جنة بعشرة أمثال عزلته ، هذه هي فلسفته ، هذه حكمته ، وهذه هي بطولته ! زنزانة الفلسطيني نُواةٌ حاضِنَةٌ ، وبيْتُهُ حِضْنٌ ، مشرع على قيم الضيافة ، والإيواء ، والتلاحم الوطني والاجتماعي ، وحرمانه من حضنه لا يثنيه عن حنينه الإيثاكي وحلمه اليوسفي . حسنا إذن ، عزلة الأسير الفلسطيني ستذكره ببطولته ، أما عزلة السجان فتذكره بخوفه من حريته ، وهذه ليست مفاضلة ، إنما هي لعبة مرايا ، ينتصر فيها الأسير المحروم من كل وسائل التسلية ، و التواصل ، والزيارات ، و العلاج و الطعام الصحي والنظيف ، فيضاعف شوقه لكل ما هو محروم منه،استلذاذه بمتعة الحرية في ظل منعها ، بدهشتها لا شدتها ، بفروسيتها لا افتراسها ، ببطولتها لا هروبها ، بينما ينهزم السجان ، الذي يجلس في بيته مع أهله يتناول مالذ وطاب ، يستخدم كل ما يمكنه من وسائل تكنولوجية وترفيهية لا تعد ولا تحصى ، كأنه في عطلة استجمام ، أو اعتزال باذخ، تتبعه حرية أشبه ما تكون برصاصة مكتومة ، حرية خائفة ، مريضة ، محاصرة من الميكروب ، حرية هشة ، كروشتة عقاقير بلا بطولة ولا انتصار !
* * *
إن كانت عزلة الأسرى الفلسطينيين تهزم السجان إلى هذا الحد ، فلك أن تتخيل إذن ما الذي ستفعله به حريتهم ، الفلسطيني بكل حالاته هو الخطر الحقيقي على عدوه ، وعزلته حين تكون مقاومته ، هي حظه الفاروقي ، وهي محرابه ،وأجره ، و كبرياؤه وكهفه ، فضيلته وصومعته ، فإن كان رد الحجر الصحي للعزلة قيمتها ، فإن الفيروس أظهر الحجم الحقيقي للسجان ! كان ” بوثيوس الروماني ” ، ضابطا قضائيا ، وقنصلا ، حوله تمرده على الطاغية إلى أعظم أسير في القرون الوسطى ، كتب أطروحته الفلسفية في منفاه ، تحدث فيها عن صعود وسقوط الإنسان ، ليطيح بالسجان ، إلى الأبد وقد شكلت كلاسيكيته ” عزاء الفلسفة ” وسيطة فكرية بين العصور ، على طريقة أحرار السجون، بينما يظل السجان عازلا فيروسيا ، على طريقة نُسّاك ما بعد الحداثة ، أو ما يطلق عليهم اليابانيون : HIKIKOMORI ، الذين يحرسون وحدتهم، بقرار إرادي تعسفي ، يسبب خللا في الأداء العزلوي للحرية ، ولهذا ترى الفيروس والسجان والكاريكاتور ، أضلاعا لمثلث واحد هو : الجريمة ، حقيقة يشبه الأمر عروض المزاد ، بحيث يعرض كل طرف جريمته على الآخر ، فمن يشتري وبضاعة القاتل : جثته !