مواقف خالدة
تاريخ النشر: 03/05/20 | 12:20محمد سواعد- ابن الحميرة
تاريخ الأمم والشعوب حافل بالمواقف الخالدة التي تشكل مرجعية للأجيال القادمة من البشرية جمعاء، وهذه المواقف قد تكون إيجابية محفزة وداعية الى الخير، وقد تكون سلبية لتشكل محطة للتأمل والتدبر، ومن جميل ما ورد عن النبي عيسى بن مريم عليه السلام أنه سئل يا عيسى من أدبك؟ فقال: أدبت نفسي بنفسي، رأيت جهل الجاهل فاجتنبته.
وقد جعل الله تعالى مواقف الأنبياء عبرة لبعضهم البعض حتى يتعلموا من سيرة بعضهم البعض ويتسلوا بها عما يلاقونه من أقوامهم ومجتمعاتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما تعرض لموقف من أصحابه قال: “رحِم الله أخي موسى لقد ابتلي بأشدّ من هذا فصبر”، فانظر كيف تأسى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بموقف أخيه موسى عليهم السلام في الصبر على الأذى وهذا النبي يوسف يعلم البشرية الصفح والتسامح عن إخوانه رغم مرارة كيدهم وأذاهم.
وأعظم الناس في مواقفهم هم الأنبياء الذين جعلهم الله تعالى منارات وقدوات للإنسانية كلها، ثم يعظم دور العلماء والمصلحين فهم الذين يهدون الناس إلى سواء الصراط في دينهم ودنياهم.
ونجد في مواقف الأفراد امام تصاريف الدهر ما فيه عبرة للناس وموعظة للبشر وتجربة فريدة للوقوف عندها والاعتبار منها، وجدير بالأمة والمجتمع أن توثق ويكتب هذه العبر وأن تذكرها وتحتفظ بها لتكون مرجعية عند المنعطفات، ولنشر العدوى الإيجابية لدى الأجيال القادمة التي تحتاج إلى مثل هذه العبر والدروس.
وكثيرة هي المواقف التي مرت على أشخاص في مجتمعنا العربي في البلاد وشكلت مدرسة لكل البشرية فضلا عن مجتمعنا الخاص.
فهذا رجل من احدى قرى الشمال كان يتحاور مع زميل له في العمل في سنوات الاربعينيات من القرن الماضي، فتناول الرجل حديدة وضربه بها فمات زميله، وبعد نكبة عام 1948 هاجر أهل القتيل الى لبنان، فراح الرجل يبحث في كيفية إيصال الدية إلى أولياء المقتول، فسمع عن أناس يوصلونها فدفعها لهم اول مرة فلم يوصلوها لظروف معينة، ثم دفع الدية مرة أخرى إلى وسيط آخر وكذلك لم تصل، وظل الرجل رحمه الله تعالى يفكر في كيفية الوصول الى اهل القتيل حتى استطاع ذلك وتم ابرام عقد الصلح بحضور جماهير غفيرة في قرية طوبا بعد حوالي خمسين عاما من الحادثة.
وموقف آخر أن شبابا كانوا يلعبون عند غدير ماء في إحدى القرى، فألقوا واحدا منهم في الماء حتى غرق ومات، فلما رجعوا إلى والده بالخبر، قالت زوجته أمام الحضور يا فلان ان كان ابنك قد مات فها هو تحت حزامي “يعني انها حامل”، وفعلا أنجبت ولدا أسموه على اسم أخيه الميت وانتهت القضية بكلمة المرأة.
ومن المواقف الخالدة في إحدى العشائر أن شابا قتل عمه وابن عمه ثم انتحر، ففزعت لجان الإصلاح إلى العائلة، فما أن ذهبت لجان الإصلاح حتى قام كبير العائلة وقال لجميع أفراد العائلة: إن “الجرح في الأبيضين” وهي عبارة تقولها العرب إذا كان النزاع والألم وتوابعه يرجع على نفس الأشخاص ثم قامت العائلة بالتصافح والتسامح فيما بين أفرادها جميعا وسكبوا قهوتهم القديمة وصنعوا قهوة جديدة كناية عن بداية عهد جديد داخل العائلة ملؤه الحب والتقدير وانتهت القضية.
ومن المواقف الخالدة أن رجلا من أشراف العرب جيء اليه بابن أخيه موثقا في الحبال بعد أن قتل ابنه، فقال لابن أخيه: يا بني لقد قتلت رجلا من رجالك وضيعت سهما من كنانتك، ثم أمر بتجهيز ولده ودفنه وانتهى الأمر.
كما حدث أن رجلا قصد الحج قبل سنوات، فتذكر أنه سرق شاة من رجل آخر قبل سنوات كثيرة فما زال يبحث عن صاحبها حتى وفى إليه ثمن شاته ثم انطلق قاصدا بيت الله الحرام.
هذه مواقف مشرفة من تاريخ مجتمعنا قديما وحديثا يجدر بنا ان ندونها ونوثقها لتكون مدرسة للسلوك الإيجابي والأخلاق الحمية التي يرتوي منها الجيل القادم.