الدروز في اسرائيل، خطاب جديد
تاريخ النشر: 08/05/20 | 12:20جواد بولس
في ظل التداعيات السياسية المتفاعلة على الساحة الاسرائيلية العامة، وبعيدًا عن تأثيراتها الخطيرة على مستقبلنا، نحن الجماهير العربية في اسرائيل، لفت انتباهي انشغال منصات التواصل العربية المحلية بموضوعين هامشيّين نسبيًا اذا ما قورنا بجلالة الحدث الرئيسي المتمثل برفض محكمة العدل العليا الاسرائيلية، مساء يوم الاربعاء الماضي، لجميع الالتماسات التي قدمت ضد تكليف بنيامين نتنياهو بتشكيل الحكومة الاسرائيلية وضد اتفاقية ائتلاف حزبي الليكود وكاحول لافان.
تطرق الحدث الأول الى مشاركة رئيس مجلس قرية “المغار” المحلي، المحامي فريد غانم، بمظاهرة غير عربية وحدوية، دعا اليها رؤساء سلطات محلية درزية وشركسية احتجاجًا على سياسة الحكومة العنصرية ضد بلداتهم؛ ففريد غانم شخصية معروفة للجميع بانتمائها السياسي الواضح وبماضيه النضالي مذ كان طالبًا جامعيًا ناشطًا في صفوف “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة” ومن ثم محرّرًا في جريدة الاتحاد الحيفاوية العريقة.
اما قضية تطبيع المواطنين العرب مع وسائل الاعلام الاسرائيلية، لا سيما راديو وتلفزيون “مكان”، والمشاركة في برامجهما، فهو الموضوع الثاني الذي ألهب مجموعات “الفيسبوكيين والتواترة” وخلق حالة من فوضى الحواس والمصطلحات، حتى باتت حدود المحظور والمتاح في هذه المسألة المرَضية خليطًا عجيبًا يفتي بشأنه كل “فتى” معجب بحاله، وتوزع بخصوصه صكوك الغفران الوطنية يمنة والتخوين يسارا.
لقد أثار الصحفي سليم سلامة بتعليق كتبه على صفحته جانبًا مهمًا مما اسميته أنا مرّة “المسألة الدرزية” وذلك حين ساءل صديقه فريد غانم، الذي عمل معه لسنوت طويلة في هيئة تحرير ” الاتحاد”، بشكل علني عن مشاركته “في مظاهرة خاصة لرؤساء السلطات المحلية الدرزية والشركسية” مساهمًا في تكريس هذا الانقسام الانعزالي عن “اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية”، ولماذا يقبل المشاركة في مظاهرة تظللها تلك الكمية من الاعلام الزرقاء البيضاء في عرض نفاق وتملق وتذلل معيب.
لم ينتظر السائل إجابة صديقه على هذين السؤالين؛ فهو مثل الكثيرين يعلم بأن أصول هذه القضية تعود عمليًّا الى زمن قيام اسرائيل؛ ورغم تعقيداتها المزمنة، وبسبب ما طرأ عليها من تغيّرات اجتماعية وسياسية وما تشهده المجتمعات الدرزية من حراكات توعوية، هنالك ضرورة لمواجهتها بجدية بهدف اعادة اللحمة بين افراد الشعب الواحد. هنا في هذه المهمة، كما يأمل سليم وغيره، يوجد لفريد غانم ولأمثاله من الشخصيات التقدمية الواعية دور ريادي ومسؤول، ومعهم، بالطبع، يجب أن تقف وتبادر، على الضفة الاخرى، قيادات الجماهير العربية ومؤسّساتها التمثيلية.
يختلف شعوري تجاه هذه المظاهرات الاحتجاجية عن شعور من ينتقدها لعدم وحدويتها العربية، ولما قد تكرّسه، شكلًا، من تبعية طائفية أو مظاهر عرقية، وذلك، من باب الأمل ولأنني أنظر اليها كنشاطات غير تقليدية مكمّلة للمظاهرة الكبيرة التي اقامها المعروفيون في مطلع أب من سنة 2018 عندما تظاهر عشرات الآلاف منهم في تل ابيب ، لأول مرة في تاريخ الدولة، ضد قانون القومية.
توقّعت في حينه وتمنّيت أن تترك أصداء مقاومة العرب الدروز لقانون القومية أثرًا لن تمحوه الأيام المقبلة وشرخًا لن تدمله ترضيات الحكومة وألاعيبها، ولا تمويهات بعض قادتهم ووعودهم الخلّب.
مع هذا وذاك ورغم وضوح معالم الهوّة بين “الحلم” الدرزي وطبيعة الدولة، كما كانت قبل قانون القومية وتأكدت بعده، رأينا أن معظم غير الدروز الذين تطرقوا لردود فعلهم ظلوا أسرى لمساطر تقييماتهم التقليدية وتعاطيهم النمطي المبني على ممارسات بعض جيوب الطائفه السلبية تجاه محن أبناء شعبهم وقضاياه المصيرية، والمعادية لهم خصوصا تلك التي تجلّت من خلال مواقعهم في الجيش وفي أجهزة الأمن الاسرائيلية.
ما زلت مؤمنًا بأن الفرصة لم تفُت بعد، فمعالم “المسألة الدرزية” في إسرائيل باتت أشد وضوحًا، ومحاورها بدأت تتكشف أمام أبناء الطائفة، من يوم الى يوم، حتى أضحت فرص ارجاعهم الى حضن شعبهم ناجزة وملحّة، وهي دَينٌ لا في اعناق ابناء الطائفة ونخبها الغيورة فحسب، بل على مؤسسات المجتمع العربي وقياداته النافذة ايضًا.
لم تكن “الموسيقى الدرزية” متناغمة وموحّدة خاصة بعد صدور قانون القومية؛ فرغم طغيان نشوز من نادوا، بانتهازية مستفزة، بضرورة الغاء القانون لأنه يميز بين “اخوة السلاح”، أرى بأنّ الأكثرية الصامتة باتت تشعر أكثر بأن المؤسّسة الاسرائيلية الرسمية تعاملهم مثل اخوتهم العرب وليسوا كفئة مدللة صاحبة امتيازات وكأخوة في السلاح وشركاء في الدم حسب تلك الفرية التي روّجت عقودا طوال.
وبخلاف وقفاتهم المطلبية في قضايا عينية ومحددة، مثل هدم بيوت هنا أو هناك، أو مصادرة هذه الارض او تلك، برزت ملامح صرخاتهم الوجودية، حتى وان حاول بعضهم اخفاءها أو مغمغمتها وطمسها.
كرّر الكثيرون شماتتهم على ردة فعل أبناء الطائفة العربية الدرزية، وذلك لما أبدته الدولة من “جحود” بحق من خدموها طيلة سبعة عقود؛ وتبع آخرون حدسهم فراهنوا على أن قيادات الدولة ستنجح في احتواء الأزمة وتمرّر، بمساعدة بعض القيادات الدرزية التقليدية، صفقة مقايضة جديدة ليبقى القديم على قِدَمه.
قد تكون مشاعر جميع المنتقدين مبرّرة، فمواقف قادة الطائفة العربية الدرزية بعد إقامة إسرائيل أنتجت أسباب ذلك التنابذ وشكلت أرضًا خصبة لمشاعر عدم الثقة؛ ومع هذا لا بد من رصد مسيرة التغييرات الحاصلة داخل المجتمعات الدرزية في البلاد، ففي طياتها تكمن البشرى.
كان الجيش ومصلحة السجون الإسرائيلية، في البدايات، المشغّلَين الرئيسيين لابناء الطائفة التي تشكلت بالأساس من مجتمعات فقيرة تقليدية ومحافظة. لم يعد الواقع مشابهًا، فنحن نرى كيف تأثر العرب الدروز ، كغيرهم من المواطنين العرب بوتائر التطورات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة في الدولة، والتي أدّت بطبيعة الحال إلى نموّ نخب جديدة وشرائح وازنة من المثقفين والأكاديميين ورجال الأعمال والمهنيين الناشطين في مجتمعات أصبحت أكثر انفتاحًا على مصارع العالم وأكثر جاهزية للتعاطي مع تحديات العصر، واستعدادًا لمواجهة مخلّفات الماضي، واصرارًا من أجل السعي وراء أحلام لمستقبل آمن يظلل أبناءه بهوية جامعة واضحة وغير متشظية أو مشوّهة أو هشّة.
فمع احترامي لمبررات مساءلة فريد غانم على وقفته في ظل ذلك العدد الكبير من الاعلام البيضاء الزرقاء، اقترح، من باب التفاؤل السليم، أن نرى بلون فريد الاحمر الذي نعرفه اضافة نوعية على تلك النشاطات وبشرى لمستقبل نسعى وراءه وعاملاً مستجدّاً على تلك المظاهرات التي ندَر أن رأيناها في الماضي، وإن حصلت لم يكن فيها مكان لفريد غانم ومن مثله.
ما زلتُ أراهن على ان مظاهرة المعروفيين الكبيرة التي جرت في تل ابيب كانت بداية لشرخ عميق بين الدولة وبين مواطنيها الدروز؛ وعسانا نجد تعزيزًا لرهاني ما نشره فريد غانم على صفحته قبل يومين ودعا فيه، مع زميله رئيس مجلس قرية كفر كما الشركسية، مواطني القريتين للمشاركة الفعالة في تظاهرة على مفترق جولاني”مسكنة” (جرت امس الخميس) مؤكدًا على ان “هذه التظاهرة وغيرها هي حلقات في سلسلة النشاطات الاحتجاجية التصاعدية ضد سياسة الحكومة في ما يتعلق بعدم تحويل الاموال وتقليص الميزانيات .. وللمطالبة بتجميد/ الغاء قانون كامينتس وقانون القومية والمطالبة بالمساواه في كل المجالات”.
انها لغة جديدة في خطاب الطائفة؛ لغة أجيال تزورها الحقيقة في المخادع، ولن يقدر أحد في هذا العصر على تزويرها أو حجبها.
لقد صرخت في الماضي مجموعات صغيرة عربية درزية مؤكدةً: نحن عرب يا عرب، فصدقتهم قلة من العرب ووافقتهم قلة أقل من الدروز؛ أما اليوم فما زال أولئك يصرخون بتلك الصرخة ومعهم تصرخ، من مواقعها، مجموعات جديدة من المثقفين والأكاديميين بصوت مَن أفاقوا على هول الخديعة ووقع الحقيقة بأنهم ليسوا أكثر من عرب ولا أقل من دروز .
أشم رائحة التغيير وأرى قاموسًا جديدًا يعِد ويحرّر، وقناعتي بأنّ صديقنا فريد غانم وأمثاله كثيرون سيرفعون الراية نفسها التي يرفعها ابناء شعبهم.