صناعة العقول: استغلال الفرص
تاريخ النشر: 08/05/20 | 12:10محمد سواعد- ابن الحميرة
تحدثنا في مقال سابق عن أهمية العمل على صناعة العقول القادرة على حسن توجيه الأمة إلى أهدافها الكبرى وصياغة البرامج التربوية والفكرية التي تنهض بالأمة، واليوم نتناول موضوع صناعة العقول من زاوية المبادرة إلى استغلال الفرص في حياة الأفراد والمجتمعات، فالفرص ثمينة جدا والإنسان الفطن الذكي قادر على صناعة الفرص، ومع ذلك إذا لاحت له فرصة للتأثير والقيادة والريادة فينبغي أن يسارع إلى اقتناصها قبل فواتها وقبل أن يصطادها غيره، والعرب تقول:
اذا هبت رياحك فاغتنمها ***** فان لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الاحسان فيها ***** فما تدري السكون متى يكون
ومن أعظم الفرص في حياة الفرد والمجتمع هي فترة الحياة الدنيا فهي فترة العمل والتأثير لنيل السعادة في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ال عمران 133، فالله تعالى يدعونا إلى المسارعة في الدنيا للعمل الصالح وطاعة الله ورسوله لما يؤدي اليه ذلك من الفوز العظيم والسعادة المطلقة والراحة النفسية والطمأنينة في الدنيا والآخرة، وبين الله تعالى أن المؤمنين إنما ينالون الدرجات العلا في الجنان لما سابقوا في الدنيا إلى بحور الطاعات ومنازل القربات: ( أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون 61، وفي اللغة العربية يأتي الفعل سارع بمعنى المشاركة بين أكثر من شخص يعني أنك إذا لم تسارع أو تسابق إلى الجنة فإن غيرك سوف يسبقك إليها.
والنبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه المبادرة لاغتنام بوراق الفرص التي تلمح للفرد، وكان صلى الله عليه وسلم يعرض على أصحابه ويستحثهم على أبواب الخير لما في ذلك من قيام بمصالح الأمة وحاجياتها، فلما هاجروا إلى المدينة المنورة وكانوا بحاجة ماسة إلى الماء وكانت بئر الماء مملوكة ليهودي فقال صلى الله عليه وسلم “من يشتري بئر رومة وله الجنة” فاشتراها عثمان بن عفان، وفي يوم تبوك لما اشتدت العسرة والقلة بالمسلمين فقال صلى الله عليه وسلم “من يجهز جيش العسرة وله الجنة”، فقام عثمان بن عفان رضي الله وجهز ألف فراس بسلاحها وعتادها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، وها هو عكاشة بن محصن يسمع النبي صلى الله عليه يقول: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ هَؤُلاءِ أُمَّتِي قَالَ لا وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ فَنَظَرْتُ فَإإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ قَالَ هَؤُلاءِ أُمَّتُكَ وَهَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ قُلْتُ وَلِمَ قَالَ كَانُوا لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ. صحيح البخاري، فانظر كيف سبق عثمان وعكاشة رضي الله عنهم غيرهم في اغتنام الفرصة ونيل البشارة النبوية بدخول الجنة.
والمواقف في تاريخ الأمة كثيرة والتي تدل على سعادة وفوز من سارعوا إلى اغتنام الفرص وخسارة وندم من ضيعوها فهذا عرابة الأوسي كان من أكرم العرب حتى قيل في وصفه:
رأيتُ عرابة َ الأوسيَّ يسمو *** إلى الخيراتِ منقطِعَ القَرين
إذا ما راية ٌ رفِعتْ لمجدٍ **** تلقاها عرابة ُ باليمينِ
فانظر الى همة الرجل ومسارعته الى تلقي كل راية الى المجد والشرف والعطاء وقصص كرمه وجوده معروفة في كتب الأدب.
وما ارتقى العلماء والمصلحون والمجتهدون إلا مسارعتهم إلى اغتنام كل فرصة أو بارقة أمل تلمح أمام ناظريهم.
ولعل هذا يدفعنا اليوم إلى بيان مسيس حاجة الأمة الإسلامية إلى اغتنام الفرص الكبيرة التي تلوح أمامها لنشر دعوة الرحمة والطمأنينة الإسلامية إلى الإنسانية كلها، فهذه الإنسانية كما أنها في أرقى مراحل التطور الفكري والتكنولوجي، إلا أن هذه الإنسانية اليوم تتيه وتتخبط في رحلتها للبحث عن السعادة والطمأنينة، ولعل وباء كورونا الذي تعاني منه البشرية اليوم هو أرقى فرصة للأمة أن تنادي البشرية إلى رحاب الإسلام ليكون مصدر الأمن والأمان والطهر والشفاء لهذه الإنسانية الحائرة القلقة، فهل يستطيع علماؤنا وقياداتنا الدينية والدنيوية أن يغتنموا هذه الفرصة ويصنعوا خطابا إسلاميا إنسانيا يسع البشرية كلها، أم أننا سنبقى نتخبط في ظلال الأزمات التي ندور في حلقاتها المفرغة؟!.