صناعة العقول: نصر العقيدة والأخلاق
تاريخ النشر: 11/05/20 | 14:03محمد سواعد- ابن الحميرة
تعوّد الناس في الحياة على الافتخار بالنصر المادي، بل إن هذا الانتصار هو أكثر ما يشغل بال البشر في أيامنا، وينسى الناس أن النصر المعنوي والقيمي هو أعظم وأجل، لأنه أدوم وأبقى بينما النصر المادي محدود زائل.
رمضان هو شهر النصر المعنوي والقيمي في حياة الفرد والمجتمع، فهو جاء برسالة قيمية أخلاقية إلى الأمة ليرتقي بها إلى معارج الكمال ومنازل الشرف، فأول نداء في الصيام وبيان لمعناه هو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة، (183)، والتقوى هي جماع النصر المعنوي في حياة الفرد والأمة، كما أن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في بيان البعد الأخلاقي للصيام تدعونا للوقوف على أهمية التدريب العملي والدورة المكثفة الأخلاقية التي نمر بها خلال هذا الشهر.
وفي رمضان كذلك انتصرت قيم الإسلام انتصارا ماديا، فالإسلام لم يكن دينا هلاميا يعنى بالشعارات فقط، بل هو دين عملي إلى أبعد الحدود، فنرى في رمضان انتصار قيمة العقيدة في معركة بدر الكبرى عندما انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة في السابع عشر من رمضان سنة 2 هـ، وقد وصف الله هذه المعركة بقوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ال عمران (123)، فقد كانوا قليلي العدد والعدة في مقابل جيش عرمرم من المشركين معهم السلاح والعتاد، ولكن المؤمنين يسوقهم ويحفزهم للقتال إيمانهم بعقيدتهم ورجاء النصر من عند الله تعالى، بينما جاء المشركون يبحثون عن نصر معنوي لقريش، فكانت النتيجة ان غلب الحافز المعنوي على الحافز المادي وانتصرت القلة المؤمنة التي تسعى لنصرة دينها على الكثرة الكافرة التي جاءت لنصرة دنياها: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾. الانفال 47، فهزمت قريش شر هزيمة وقتل أشرافها.
وفي رمضان انتصرت أخلاق الإسلام وظهرت في أروع تجلياتها، فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على العفو والتسامح وكظم الغيظ واحتمال المسيء، ما زال ينفث فيهم روح الأخلاق العظيمة التي نادى بها الشرع الحكيم حتى تجلت هذه الأخلاق واقعا حيا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في إشارة إلى المؤمنين أن الدين لم يكن شعارا يرفع أو راية تعلق بقدر ما هو منهاج حياة للفرد والجماعة، ففي العشرين من رمضان في السنة الثامنة للهجرة فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة وطهرها من الأصنام، وقد دخلها متواضعا خافضا رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ولما تمكن صلى الله عليه وسلم من رؤوس الكفر الذين قتلوا أصحابه وطردوهم من أرضهم وأخرجوهم من ديارهم قال: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقال القوم: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فلما رأى الناس عظمة الإسلام وسماحته دخلوا في دين الله أفواجا.
إذا رمضان هو شهر القيم والأخلاق والعقيدة في حياة الأمة وهذه المعاني هي وقود النصر والسيادة والعزة والشرف، فهذه القيم الروحية هي أساس وجو هذه الأمة التي كلفها الله تعالى بحمل رسالة الرحمة والرأفة للعالمين.
وما أحوجنا اليوم في مجتمعنا وفي الإنسانية كلها إلى خطاب حانٍ يداوي جراح قلوبنا ويلم شعث أرواحنا ويرمم ما فسد من علاقات في مجتمعنا بسبب تنافسنا على الدنيا الفانية.