الأدب في مواجهة الأوبئة عبده حقي
تاريخ النشر: 15/05/20 | 13:38قال إميل زولا: “الحقيقة هي أن روائع الروايات المعاصرة تقول الكثير عن الإنسان والطبيعة أكثر من الأعمال الجادة للفلسفة والتاريخ والنقد”. في هذه الفترة من العزل الصحي يقوم البروفيسور أنطوان كومبانيون رئيس الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر بمراجعة للروايات الوبائية العظيمة والدروس التي يمكن أن نستخلصها منها في هذه الفترة التاريخية الاستثنائية.
نعيش اليوم في لحظة استثنائية . كيف نحصل على أقصى استفادة منها ؟ بالذهاب والإياب إلى الكتب التي ليس لدينا عادةً الوقت لقراءتها على سبيل المثال الروايات الوبائية العظيمة التي لديها الكثير مما يمكن أن نتعلمه منها مثل “الطاعون” لألبير كامو . ستبقى دائما أعمالا رمزية خالدة . “الطاعون” بالنسبة لكامو هو النازية. حيث تتفاعل الشخصيات بأنانية والبعض الآخر بالإيثار ولا سيما الطبيب ريو. بعض السلوكيات تتغير أثناء الحجر الصحي. وهذا يمكن أن يساعدنا على التفكير في ما نعيشه في الوقت الحاضر.
لقد قمت للتو بإعادة قراءة رواية ” Le Hussard sur le toit ” للكاتب جون جيونو التي صدرت عام 1951 والتي لم أفتح أوراقها منذ فترة المراهقة. وجدت المكتبات مغلقة. فتشت عن الكتاب الرقمي فعثرت عليه .. ظهرت الأسطر الأولى على الفور على الشاشة. ونحن في لعنتنا الوبائية لسنا بعيدين عن رغباتنا لأن العالم الرقمي يقدم لنا إمكانيات للهروب. بالنسبة إلى الروائي جيونو فالكوليرا هي أيضًا مسألة رمزية: إنها شخصية شريرة. كما أنها ليست رواية واقعية.
من الواضح أن للوباء الحالي كورونا حمولة مجازية تتجاوز مظاهره اليومية: إنه لا ينفصل عن العولمة المتطرفة على صعيد التبادل التجاري . لقد انتشر الفيروس من خلال ثلاث قنوات رئيسية: النقل الصناعي والسياحة والتجمعات الدينية. فهل يجب إعادة التذكير بذلك.
إن كوفيد 19 يؤزم تفكيرنا بشأن مستقبل كوكب الأرض. تتيح لنا الأدبيات التي تكرست لتاريخ الأوبئة بإعطاء وباء كورونا معنى يتجاوز تجربتنا المباشرة في احتوائه وتخوفنا من العدوى. سواء كنا معزولين في الحجر الصحي أو نواصل أعمالنا بالخارج ، بل أبعد من ذلك حيث متطلباتنا للبقاء على قيد الحياة نحاول تحقيقها.
إذا كان ألبير كامو قد أعطى درسًا في الأخلاق الإنسانية في رواية “الطاعون” كما جاء ذلك في انتقاد سارتر له فإن جيونو الذي نُشرت روايته أيضًا بعد الحرب العالمية الثانية كان حريصا على عدم إعطاء دروس أخلاقية . إن رواية “لوهوسارد” هي رواية مغامرات يؤكد من خلالها البطل طاقته وحريته ضد كل المتاعب والصعاب. وهي أيضًا قصة حب. الحب والحرية ماذا يمكننا أن نطلب لإعادة تنشيطنا ؟ بينما كان الوباء ينتشر والموت يتربص بالناس كانت الحياة عكس ذلك تنتصر للبقاء.
لقد حان الوقت لكي نتساءل من هم أقرباؤنا الذين سوف نعبر برفقتهم هذه المحنة. من سيكون أصدقاؤنا وحلفاؤنا؟ إن استعارة كلمة “الحرب” أمر لا محيد عنه. حتى لو كانت هذه العبارة غير مناسبة فقد يتم استخدامها من قبل الجميع لا فرق بين إيمانويل ماكرون ودونالد ترامب. الكل يحتاج إلى حلفاء. من هم الذين تهمني مصائرهم اليوم؟
طاعون كامو وكوليرا جيونو .. إنها تجارب من الأفضل عدم المرور عليها فرادى بل برفقة جماعية افتراضية أو روحية مع آخرين . كل من روايتي “لوهسار” و”الطاعون” حيث تجسد شخصية الطبيب التسامح والحد من الفردانية . هذه التجربة ستغيرنا. سوف نخرج منها مختلفين مثل شخصيات هذه الروايات. والآن لقد حان الوقت للتفكير في كيفية تغييرنا. بعد عودتنا إلى الحياة العادية سيكون قد فات الأوان.
دعونا نفكر في الحرب مرة أخرى. لطالما كان الأطباء والممرضات وحاملي نقالات المرضى أفضل الشهود. يشاهدون كل شيء خلف الخط الأمامي. اليوم مقدمو الرعاية والعلاج في الجبهة الأمامية. هؤلاء هم الأشخاص الذين يمكنك مقارنتهم بجيش يحارب عدوًا متسترًا. وبالتالي ليس هناك جدوى من جعلهم مخلصين لنا وصناع معجزات. بل من الأفضل تزويدهم بالأقنعة وأجهزة التنفس.
وهذا الوباء كوفيد 19 سينتج بالتأكيد روايات. إن أي شيء يخلخل عاداتنا جيد للأدب. الوباء مثل الحرب يعيدك إلى الأساسيات. عندما يضرب الوباء تنتهي عادات الترفيه بالمعنى الذي قدمه باسكال: الوباء هو كل شيء يبعدني عن حالتي العادية الشخصية . بالنسبة لأجيالنا التي لم تعرف الحرب فإن وباء كورونا هو تذكير مؤلم للواقع: إنه يعيدنا إلى حقيقة الموت. لأننا لم تعد أكتافنا تحاذي الموت.
إننا نخفيها في العجائب وننكرها قدر المستطاع. اليوم لدينا فرصة سانحة للتفكير في حالات وفياتنا التي يحجبها العالم الحديث عنا . ماذا اقول نحن مضطرون لذلك. سيتأثر كل منا في دائرة معرفته بالوفيات ضحايا بالفيروس التاجي.
إن البديل لكل شر هو السرد. لطالما جرب الناس أن رواية القصص هي الدواء الشافي العام. نحن لا نعيش بالفعل حدثًا أيا كان حتى نسرده أو حتى نقرأ القصص التي تسمح لنا بروايته. الأمر متروك لكل منا للعثور على الروايات أو الأفلام أو المسلسلات التي ستساعده على العيش فيما يمر به بمعنى تفريغه في الكلمات. وعلينا أن نسرده أيضا للأطفال.
يمكننا أيضًا قراءة شيء آخر .. الشعر على سبيل المثال أو روايات الأمراض. لقد عدت للتو لرواية “الجبل السحري” لتوماس مان التي قرأتها قبل خمسين عاما. إنها رواية رومانسية أخرى عن العزلة الصحية، هذه المرة بسبب السل. يحدث هذا في مصحة حيث تتنفس الرئتان هواء الجبل النقي والطازج ولكن هذه العزلة هي أكثر اجتماعية. نتحدث كما في المجموعة القصصية “ديكاميرون” للكاتب الإيطالي بوكا حيث لجأت سبع فتيات وثلاثة أولاد إلى الريف بعيدًا عن المدينة خلال الطاعون الأسود الذي ضرب فلورنسا في إيطاليا. كل يوم يجب على الجميع أن يحكوا قصة. ووقعوا في الحب. لماذا لا نقرأ أيضا “جناح السرطان” للكاتب الروسي سولجينتسين عن المرض الذي حل محل السل بالنسبة لنا؟
ثم إنها فرصة للتعمق أخيرًا في رواية بروست وهي رواية تليق بالعزلة . يقول اناتول فرانس “الحياة قصيرة جدا ورواية بروست أطول منها “. لكن ليس لدينا المزيد من الأعذار.
ترجمة عن مقالة للكاتب أنطوان كومبانيون عن مؤسسة كوليج دي فرانس أبريل 2020