متنفَّس عبرَ القضبان
تاريخ النشر: 14/07/20 | 7:51بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ زرت أحمد وأحمد، باسم، حسام، سامر وسامر، سائد، شادي، طيون، عاصم، كريم، كميل، مروان، ناصر، هيثم، وائل ووائل، وليد، معتز، ومنذر، وغيرهم ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
“حط الحزن بالجرن”
اليوم: الخميس 18 حزيران 2020
جدّدت مشواري التواصليّ مع أسرى يكتبون بعد عبور جائحة الكورونا، وكان اللقاء الأوّل لسجن الجلبوع الواقع في منطقة بيسان، وكان للمشوار مذاقٌ آخر؛ مررت بجبال فقّوعة التي تجوّلتُ فيها عشيّة ذكرى النكبة برفقة الأصدقاء د. فرحان السعدي وعوني عمري وأصابتني غصّة لمرأى قرية زرعين المهجّرة (عروس مرج ابن عامر)، حين وصلت السجن كانت الإجراءات أكثر تعقيدًا على غير المعتاد، مكثت طويلًا على البوّابة لأتمعّن ما كُتب على لافتة بالمدخل: “أقيم السجن عام 2004 عقب انتفاضة الأقصى بجوار سجن شطّة لغزارة عدد المعتقلين”. وها نحن نسينا هذا المصطلح وانمحى من قاموسنا!
أطلّ عليّ الأسير المقدسيّ سامر غازي عيسى متعب[1]بابتسامة عريضة رغم الحاجز الزجاجيّ الباهت، تمامًا كما حدّثني أسرى التقيتهم حين سألتهم عن سرّ تلك الابتسامة وكان جوابهم: “سامر أكثرنا ابتسامة. لازم تلاقيه”! وفعلًا استفسرت منه عن سرّ تلك الابتسامة، فأجابني دون تردّد: “حطّ الحزن بالجرن”، فرغم اعتقاله منذ عام 2001 إلّا إنّه يشعّ تفاؤلًا وأملًا بحريّة قريبة آملًا ألّا تكون تضحيته سدًى.
تحدّثنا بدايةً عن رفاقه في السجن ممّن التقيتهم؛ سائد، باسم، وليد وكريم، وانتقلنا لتناول “المشهد الثقافي” داخل الأسر وخارجه، مشروع “لكلّ أسير كتاب” وانتظاره لكتابين أوصى بهما لعلّهما يصلان في الزيارة القادمة، وما تعنيه الكتابة للأسير.
تحدّثنا عن الفن كمتنفّس له، فسامر فنّان ورسّام مرهف الإحساس وريشته مميّزة، نال بجدارة لقب “فنّان الأسرى”، سجن جسده لا يحرم روحه من الحريّة والتحليق عبر القضبان واختراقها؛ لوحاته تزيّن جدران منازل الكثيرين من رفاق دربه.
أخبرته بوفاة المرحوم محمد الكعبي (أبو بسام)، والد الأسير عاصم، وقسوة السجّان الذي يحرم الأسير من وداع فقيده الذي انتظر عناقه حرًا لسنين طويلة، فهو جرّبها حين فقد والده دون وداع!
تحدّث عن أثر حرمان الزيارة في الأشهر الأخيرة فزاد معدّل تدخين الأسير لعلبتين يوميًا، إجبار الأسرى على دفع ثمن المراوح الهوائيّة والفرشات، وأخذَ ملفّ الإهمال الطبّي للأسرى حيّزا كبيرًا من اللقاء.
مرّت ساعتان بلمح البرق، تحدّثنا الكثير وكأنّنا أصدقاء طفولة، وربيع السجّان يلحّ علينا بإنهاء اللقاء.
لك عزيزي سامر أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في القدس كما تواعدنا، والحريّة لك ولكلّ رفاق دربك الأحرار.
بوابة الحلم
اليوم: الأربعاء 8 تموز 2020
التقيت صباح اليوم بصديقي الأسير كميل أبو حنيش[2] في سجن ريمون الصحراوي للمرّة الرابعة؛ أطلّ عليّ بكمّامة كورونيّة صدئة ومهترئة (تبيّن لي لاحقًا أنّها تلازمه منذ بداية الاجتياح الكورونيّ لعالمنا)؛ تعانقنا طويلًا طويلًا عبر الحاجز الزجاجيّ الباهت كعادته، طلبت منه أن يزيحها لأرى تلك الابتسامة التي تعوّدتها، باغتني بالسؤال بدايةً عن حفيدتي ليم وعيد ميلادها الرابع الذي صادف يوم الأحد، والعائلة فردًا فردًا!
تحدّثنا عن أهميّة التواصل الثقافي مع القرّاء والكتّاب عبر القضبان؛ عبر شقّي الزنزانة ورُغم السجّان، حدّثني عن رغبته باحتضان الشاعرة مادونا عسكر/ لبنان؛ هادية حساني/ تونس؛ صفاء أبو خضرة/ الأردن؛ جمانة العتبة/ ليبيا؛ مازن أبو عبيد/ غزة (ورسالة الماجستير التي تناولت أدب كميل)؛ مصطفى الجليليّ؛ رائد…. وفراس!
ناقشنا كتاباته الأخيرة؛ وخاصّة مقالته حول غسّان كنفاني والحداثة وما بينهما، فصادف اللقاء ذكرى اغتيال غسّان الجسد ولكن قلمه ما زال حرًّا أبيًّا!
بدأنا الحديث عن مخطوطة روايته القادمة، وحين وصلنا “أروى” برقت عيناه فجأة، سرح وشطح لدقائق، عيناه تشعّان بريقًا طفوليّا، براءة ونقاوة، فقلت له: “شو هذا يا كميل، عينيك تشعّ وأرى فيها طفولة حفيدي ماهر!”، عُدنا إلى الزمن الجميل؛ زمن الانتفاضة الأولى، زمن النقاوة والصفاوة والبراءة.
حدّثني عن الحصار خلف الجدران والأسوار والأبواب الموصدة والوجع الإنساني ممّا جعله يخترع الجهة السابعة ليحلّق ويحيى عوضًا عن الهلاك نحو الهاوية، مصير الضعفاء، وفي تلك الجهة تنتظره بوابّة ثلاثيّة: بوابة الحب وبوابة الحلم وبوابة الموت، فالحب لحظة خارجة عن الزمن، والحُلم لحظة خارجة عن الواقع والموت لحظة خارجة عن الحياة، وعبرها يهرب على أجنحة الخيال، ففي تلك الجهة ينطفئ الزمن، تعيد تشكيله من جديد، تستنطق اللحظات الميّتة، تعيش بالذاكرة، تراقص الحبّ، تلامس الأحلام، وحينها تروّض وحش الموت لتتأمّله بنديّة مطلقة… لأنّك تستحقّ الحياة، رغم من يحاول سحقك وسحقها.
حقًا، كان عصفًا ذهنيًّا يشفي الغليل… والروح، وينسيك السجن وقضبانه!
لك عزيزي الكميل أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في حيفانا التي تحبّ، شئت أم شئت!
مسعودة… ونصر
اليوم: الأربعاء 8 تموز 2020
وصلتُ سجن ريمون الصحراوي ساعات الصباح والتقيت حال وصولي بالأسير كميل أبو حنيش، بعد انتهاء اللقاء جاء السجّان لتعقيم الزجاج فزاده بَهَتًا وغباشة، ورغم ذلك رأيت طلّة الأسير منذر خلف أحمد مفلح[3]وابتسامته من الأذن للأذن، حسب تعريف ابنتي شادن.
كان اللقاء الأوّل بيننا، وجهًا لوجه، ولكن بدا لي وكأنّنا معارف طفولة، سألته عن سرّ لقبه “شيبون” وأعدته لأيام الشباب، أيّام النضال والمطاردة والزير سالم.
تحدّثنا عن غسّان كنفاني، فصادف لقاؤنا ذكرى اغتياله، ومقالته “من حيفا وغسان إلى حيفا وحسن.. “علاقة جدلية”، وقلت له: “زوّدتها يا منذر”!، فأجابني بحرارة: “وصّلتنا البحر وحيفا وإحنا محاصرين بخزانة”. الأدب مقاومة وصمود، وكلّ كلمة تُكتب لها أن تكون رصاصة إذا كانت ذخيرتها صالحة.
تحدّث بإسهاب عن إعادة تعريف السجن والعلاقة مع السجّان والزنزانة، تعزيز الأحاسيس والمشاعر، بعيدًا عن البطولات والأسطرة، لا بطولات في السجن.
ناقشنا مقالاته وحدّثني بحرارة عن مشروعه الثقافي والأدبي، عن المسميّات وأهميّتها، عن مسعودة ونصر، وما أكثر المسعودات في مجتمعنا، وحان الوقت لكتابة حكاية أسرانا… ومسعوداتنا، فقصّتنا عليها أن تحكي نفسها بنفسها، بعيدًا عن الصمت القاتل، هي كافية لتكون الرسالة لكلّ العالم أنّ قضيّتنا عادلة، آن الأوان لأنسنة قضايا أسرانا، نكبتنا ونكستنا كي لا تبقى مهمّشة، وكي لا تبقي الساحة للرواية الصهيونيّة المزوّرة والمشوِّهَة.
في نهاية اللقاء طلب أن أوصل سلاماته إلى صديقي فراس، ابن عمّه، ولم أكن أعرف أنّهما أقرباء. إنّه لعالم صغير حقًا.
لك عزيزي منذر أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، وسنلتقي في حيفا وغسّان بيننا وتحقّق حُلمك، فأنت القائل:
“هي حيفا.. مدينةٌ تلبس ثوب الزفاف الدائم
هي أجمل الفتيات، تطلب المحبّين
هي أجمل النساء، توقع بحبال جمالها كافّة الرجال.
هي عروسٌ، وحسن أبيها يأخذ بيدها، يقدمها لأجمل فارس، يستحقّها”
وأنت الفارس الذي يستحقّها.
حسن عبادي
تموز 2020
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] الأسير سامر متعب من القدس، أُعتقل يوم 21 آذار 2001، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن 25 سنة.
[2] الأسير كميل أبو حنيش من قرية بيت دجن، أُعتقل يوم 15 آذار 2004، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن تسعة مؤبدات.
[3] الأسير منذر مفلح من قرية بيت دجن، أُعتقل يوم 04 أيلول 2003، حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه 30 سنة.