«العميد» مأساة اللاجئين في المخيّمات السّورية
تاريخ النشر: 06/08/20 | 12:33كنتُ من أشدّ المعجبين بالفنان تيم حسن منذ أوّل ظهور له في الدراما السورية، في مسلسل «الزير سالم» (عام 2000)، أي قبل اكتسابه شهرة كبيرة، خاصة في السنوات الأخيرة مع مسلسل «الهيبة». لكنني شخصيّا كنتُ أنتظر على مدى تلك السنوات مشاهدته في دور آخر بعيدا عن شخصية الرجل العدواني والعنيف الذي يحلّ المشاكل بقوة العضلات والسّلاح، كما قدمها في مسلسل «الهيبة» بأجزائه الثلاثة، إذ أنني أكره ذلك العنف ولا أحبّ مشاهدته حتى في المسلسلات. لكن، أعترف أنني أحببته جدًا في الجزء الثالث بمشاهده الرومانسية مع سيرين عبد النور. وبما أنني لم أحبّ دوره أيضا في مسلسل «تشيللو» (مع نادين نجيم ويوسف الخال)، انتظرتُه أن يعود بدور آخر أحبّه، كما فعلتُ في «نزار قباني» و «الانتظار» و «الملك فاروق» و «الإخوة» و «زمن العار»، إلى أن شاهدتُ مؤخّرا مسلسله الجديد «العميد».
المسلسل هو عمل سوري لبناني مشترك، ذو طابع بوليسي، تشويقي، من تأليف وإخراج باسم السلكا، يتكوّن من اثنتي عشرة حلقة، مدّة كل حلقة ساعة كاملة، ويبحث في حادث اختفاء زوج سلمى جابر (التي تقوم بدورها كاريس بشار)، الكاتبة الروائية التي تطلب المساعدة في حلّ القضية من العميد البروفيسور في القانون مراد الجوخدار (الذي يقوم بدوره تيم حسن) والذي يكتشف تفاصيل غامضة في حادث الاختفاء الذي يُرجّح أنه جريمة قتل، ويكشف لسلمى وجها آخر غريبا لزوجها المختفي لم تكن تعرفه من قبل («بدي أعرف مين كنت متزوجة»).
وكانت سلمى جابر قد تزوّجت من عامر (رودني حداد)، تاجر اللوحات والتُحف الفنية، زواجًا تقليديًا، بلا قصة حب وتفاصيل مثيرة للاهتمام، فقد رأت في عامر رجلا جيّدا، له مركزه في المجتمع، مستقرا مادّيا وزوجا مناسبا كي تقضي معه بقية عمرها. وهذه الأسباب كانت كافية بالنسبة لها كي تتزوّجه، فهي لم تكن مراهقة مندفعة، بل إمرأة ناضجة، إنسانة واعية ومتواضعة. ثم اتّضح لها بعد فوات الأوان أنها لم تعرف زوجها على الإطلاق، ولم تعرف شيئا عن حياته من قبل، عن عائلته وحتى عن عمله.
لكن المسلسل بالنسبة لي هو ليس قصة اختفاء الزوج والغموض الذي يلفّها، انّما هو قصة المخيّمات السورية في لبنان. حيث ينقل المسلسل صورًا مأساوية عن حياة المخيّم: الاكتظاظ، الفقر، التحرّش، انتظار الفرج («الله يخلّصنا من ها العيشة!»)، العجز («لك نحن شو اللي جابنا لهون؟ يا ريتنا متنا. والله الموت كان أريح من هلق.»)، البحث عن الأمان، وعن حياة أفضل لدرجة التشبّث بالأوهام وبالمجهول.
حيث تتطوّر الأحداث وتتشابك إلى أن تودي بالقضية إلى المخيّمات السورية، ويتّضح أن الزوج المفقود كان يتاجر بأطفال المخيّمات، لا التحف واللوحات.
وتجسّد شخصية رنا (رنا شميس) معاناة النساء في المخيّم، وبحثهن المستمرّ عن المنفذ وحياة أفضل لأولادهن. رنا التي كانت ممرّضة بمهنتها تعبّر عن رفضها لكثرة الإنجاب لدى نساء المخيّم («لا تكوني متل هدول النسوان ياللي بخلفوا وبزتوا»).
لكن الوضع في المخيّم مركّب أكثر من ذلك («يعني ناس ما عندها شغلة ولا عملة، استكثرتِ عليهم هاي الشغلة كمان؟») وهو مستمرّ ليس من البارحة أو أول البارحة («صار لنا عشر سنين مزتوتين متل الكلاب، ولّا كمان كلاب الشوارع ما بتجيب ولاد؟»)
شخصية العميد مراد الجوخدار هي شخصية لطيفة، متواضعة ورقيقة، نبرة صوته تكاد تكون معتذرة، رغم أنه بروفيسور في القانون وعميد في الجامعة. وما يميّز هذه الشخصية هو إنسانيته العالية التي يفتقدها هذا العالم، ورغم ندرتها، فهي موجودة وستبقى موجودة ولو قلّت، ذلك أنه «إن خليت بليت». وهو من ذلك النوع من الأشخاص الذين يسمّيهم علم الاجتماع بالنخبة، تلك القلة القليلة المتفوّقة ذهنيًا، فكريًا وأخلاقيًا، والتي تستطيع الاقتراب من آلام الناس وتطلّعاتهم، توجّه المجتمع فتتطوّر من خلالها الحضارة الإنسانية وتنمو بهم المجتمعات. لكن، هناك دائما من يجلسون على كراسٍ وبيدهم السلطة ولديهم القدرة على إذلالهم.
ذلك ما شعرتُ به حين استدعاه النائب العام في الشرطة إلى مكتبه ليقول له: «كفى»، ويمنعه من الاستمرار في التحقيق في القضية، وأن أية محاولة للخوض بتفاصيلها هي جريمة يعاقب عليها القانون. ثم يمزّق أمامه ورقة مصادقته من قبل على تدخّله، ويطلب منه أن يبتعد عن القضية كليّا. هذا النائب العام، لا شك يعرف بداخله، يعرف تماما، أن لا شيء يميّزه عن هذا الرجل كي تكون له القدرة على فعل ذلك، وأنه ليس عبقريا مثله، وليس أعلى منه بشيء، إلا بالكرسيّ الذي يجلس عليه، والذي يجعله قادرا على السماح له أو منعه من الخوض في القضية حسب اعتباراته الشخصية فقط، ودون أي اعتبار لكفاءات العميد البروفيسور الذي صُدم بقراره ولم يتفوّه إلا بكلمة: «حاضر»، وخرج مستأذنا، يرافقه شعور الذّل.
أتساءل: ألم يشعر ذلك النائب العام باحتقار الذات في تلك اللحظة؟
يبذل العميد قصارى جهده لكشف الحقيقة، رغم تحذير النائب العام له، ويضطرّ لتجاوز القانون، حتى يكاد يخسر منصبه المهني ومكانته الاجتماعية وكل شيء حقّقه في حياته من أجل ذلك.
وتصل الشخصية إلى قمّة إنسانيتها عندما يذهب العميد إلى المخيّم، بصحبة سلمى جابر، بحثًا عن أهل البنت الضائعة جودي (نغم سجناوي)، الشاهدة الوحيدة على جريمة القتل، في حين كانت الصحف تنشر خبر تورطه بجرائم قتل وخطف وهربه من العدالة، وتجمّد الجامعة عضويته، ويصبح مستقبله وكل كيانه على شفا الهاوية. فتأتي إليه سلمى جابر وتطلب منه أن يعودا. «أنا ما عاد بدي أعرف مين اللي قتل عامر، ولا بدي أعرف أي شي. أنا بدي أنسى. سمعتك وسمعتي أهمّ من كل شي صار معه.» تقول.
لكن للعميد رأيا آخر واعتباراتٍ أخرى: «سمعتنا مو أهمّ من أرواح راحت أو ممكن تروح إذا فتحنا الجرح ع الآخر. طلّعي حوليك. شوفي ها الناس كيف مرميّة في الفلك. مين حاسس فيهم؟ مين دريان فيهم أصلا؟ ما لهم حقوق؟ أي حقوق؟ ليش بقي في حقوق؟»
وهو لا يتّفق مع محقّق الشرطة في القضية الرائد يوسف (بديع أبو شقرا) إذ يلتقيان قرب المخيّم، فيقول له المحقّق: «لو سمعت كلامي ما كان أحسن لك من ها البهدلة؟»
يجيبه العميد: «عن أي بهدلة عم تحكي؟ تعال ع الأرض وشوف البهدلة اللي على أصولها.»
أما عن القوانين التي تشرّبها فيقول: «القوانين أنا بعرفها منيح، ودرستها لطلابي حرف حرف، بس هدا كله كلام على ورق. تعال ع الأرض وورجيني كيف بدك تطبق هاي القوانين.»
هذا الكلام يصيب الرائد يوسف بالصّدمة: «ما عم بقدر صدقك. ما حدا بيعمل هيك وبيخسر كل شي كرمال مجرم. إنت ضحية سلمى جابر. هي اللي وصلتك لهون.»
فيردّ العميد بكل ثقة: «بكل الأحوال، حتى هاي… مستاهلة.»
فكم فردًا من هذا المجتمع مستعدٌّ أن يخاطر بكل ما لديه من أجل ما يؤمن به، أو من أجل ما يحبّ أو من يحبّ؟!
وهنا يُسأل السؤال: هل هناك قصة حبّ بين العميد مراد الجوخدار وسلمى جابر؟
المسلسل لا يهتمّ كثيرا بهذا الجانب، فلا مجال، إذن، لاتّهامه بجفاء قصة الحبّ بينهما، كما فعل البعض، فكلاهما منغمسان طوال الوقت بحلّ لغز الاختفاء بمساعدة بعضهما البعض.
لكن، يمكن ملاحظة بعض بوادر الحبّ، أو شيء يشبه الحب، منذ ذلك اليوم الذي يعود فيه العميد إلى بيته فيجد سلمى في انتظاره في المطبخ مع أم رشدي (أمانة الوالي)، مدبّرة منزله التي بمثابة والدته، وقد جاءت للتحدّث معه حول القضية. فيدعوها إلى غرفة الضيوف ويطلب من أم رشدي تحضير العشاء لهما.
وبعد انتهائهما من الطعام ومن الحديث، تقوم سلمى وتأخذ حقيبتها لتغادر، فيقول لها العميد: «لوين؟؟» وكأنه لا يريدها أن تذهب، أو ربما لم يشبع بعد من الحديث معها. فتقول له إنها تأخرّت وعليها الذهاب، ويتواعدان على اللقاء في الغد بشأن القضية.
وبعد أن تغادر، تخرج أم رشدي من المطبخ وتنظر إلى مائدة الطعام، فتجدها لم تأكل شيئا. ثم يتوجّه إليها العميد بالسؤال: «أم رشدي، شو كنتو عم تحكوا إنتو التنتين بالمطبخ؟»
«آه؟؟» ترتبك أم رشدي قليلا، وتقول: «عم نحكي عن الطبخ.»
فينظر إليها العميد بلا تصديق، ويقول: «عن الطبخ؟»
تردّ أم رشدي: «حكينا كذا قصة. هي كانت عم تستناك صار لها ساعة، ملّت ولحقتني ع المطبخ.»
«إيه؟»
«إيه، يعني حديث نسوان. مو شي مهم.»
فقال العميد مستغربا: «طيب، مرا غريبة شو إلك عين تفتحي معها مواضيع؟»
فردّت أم رشدي: «مانها غريبة. بدّك تعلّمني عن حالك بعد ها العمر؟»
«كيف؟»
«يعني لو كانت غريبة كنت لا فوّتها ع بيتك ولا قعدتها على سفرتك ولا خلّيتني أتعرف عليها.»
لا شك أن علاقتهما تتطوّر خلال الأحداث إلى علاقة صداقة جميلة، تعاون وتبادل ثقة، وتوحي ربما بنشوء مشاعر الحبّ في غير زمانها ومكانها.
لكن، أليست أجمل قصص الحبّ تنشأ في غير زمانها ومكانها؟
وبعد أن تنكشف لهما المأساة على حقيقتها ويقضيان ليلتهما في المخيّم، تكتب سلمى في مفكرتها: «ودون احتساب أو حذر، ودونما تفكير أو تقدير، كان يتبعها فحسب حيثما ذهبت، وكيفما ولّت وجهها كان يرافقها كالقدر المحتوم. وفي يومٍ غير منتظر، تلاشى الأشخاص من حولهم واختفوا دون عودة، لتلتفت فجأة وترى ظلها للمرة الأولى. لم يكن ذاك الظل بلا ملامح، لم يكن مخيفًا، غريبًا، لم يكن مجرد ظل.»
بقلم: حوا بطواش