كيف سرق قاضيا المحكمة العليا دولتهما، اسرائيل؟
تاريخ النشر: 14/08/20 | 8:10جواد بولس
أثار قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الصادر في العاشر من الشهر الجاري، والقاضي بإلغاء أمر قائد جيش الاحتلال بهدم بيت الأسير الفلسطيني نظمي أبو بكر، زوبعة عنيفة في الأوساط اليمينية الرسمية والشعبية، حيث شارك في تأجيجها عدد من أعضاء الكنيست الاسرائيلي الذين هاجموا، بصورة غير مسبوقة، قضاة المحكمة العليا وحرّضوا عليهم بشكل مباشر وصريح.
لقد برز في هذا المشهد تصريح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي وصف فيه قرار المحكمة “بالبائس” وطالب، بما يشكل تدخلا خطيرا غير مسبوق في عمل الجهات القضائية، “بضرورة إعادة بحث القضية أمام هيئة موسعة من قضاة المحكمة” وأكد، بعد أن اتهم المحكمة بشكل مبطن على انها تشجع الارهاب، انه ما زال يتبنى، كما تبنى في الماضي، سياسة هدم بيوت “الارهابيين” وأنه لن يتراجع عن ذلك أبدًا.
تواجه المحكمة العليا الاسرائيلية، منذ سنوات، حملة يمينية مسعورة أشرفت على نهايتها أو تكاد؛ وسقوط هذه المؤسسة في براثن النظام السياسي الجديد، الذي تمكنت عناصره من السيطرة على معظم مقاود السلطة ولم يتبق عليها إلا الاستيلاء على بعض “الثغور” الناشزة، وأهمها مؤسسة المستشار القضائي للحكومة وجهاز المحاكم، وفي طليعته المحكمة العليا، التي كانت رمز ديمقراطية اسرائيل ونزاهتها المدّعتين.
لم أنو التطرق مجددًا لمكانة المحكمة العليا الاسرائيلية ولا لتاريخها الملتبس إزاء حقوق المواطنين العرب في اسرائيل، أو لدورها العنصري في تسويغ سياسات الاحتلال وممارساته ضد الفلسطينيين المنتكسين منذ العام 1967، وذلك لكثرة ما كتبت في هذا المضمار، ولصراحتي حين أطلقت قبل سنوات ندائي للأخوة القابعين تحت الاحتلال بضرورة مقاطعتهم لهذه المحكمة. ومع ذلك ولفداحة الامر قررت العودة الى هذه المسألة.
بدأت عملي، في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، كمتدرب في مكتب حنا نقارة ، “أبو طوني”، شيخ المحامين وأغزرهم ثقافة وصلابة وتمرّدا. رافقته في أواخر غزاوته القانونية وكنت شاهدًا على قناعاته بسقوط الأقنعة وتشخيصه المبكر لفساد منظومة “العدل” الاسرائيلية؛ وهو الذي، كمنافح عن الإنسانية في جميع تجلياتها، خبر معنى مقارعة القمع بدون هوادة، وآمن بحتمية انتصار الخشب على المشانق.
وصلنا الى قاعة المحكمة العليا التي كانت تعمل في الطابق الثالث من عمارة “المسكوبية” في مركز القدس الغربية، قبل انتقالها الى مقرها الحالي، “قصر العدل” الذي تبرعت ببنائه عائلة روتشيلد المعروفة. كان القاضي يوئيل زوسمان هو رئيس هيئة القضاة، فرحب بأبي طوني مبديًا، بشكل واضح، احترامًا له وودًا عتيقًا.
استعرض أبو طوني تفاصيل قضيته، وأصر على ان استيلاء سلطة أراضي اسرائيل على قطع الاراضي، التي يطالب هو باسم اصحابها بتحريرها وارجاعها لهم، باطلًا وغير عادل.
لا اتذكر اليوم تفاصيل تلك القضية بدقة، لكنني لن انسى كيف وقف مثل السيف وأصر على حق أولئك الفلاحين باستعادة أراضيهم. حاول القاضي زوسمان أن يقاطعه ليشرح له عن التغييرات التي ادخلها قانون الاراضي الاسرائيلي الجديد، لكن أبا طوني، الذي كان يعرف ذلك ويرفضه، تابع مرافعته بصلابة وبعبرية مَن ولد حينما كانت الارض تتكلم العربية.
تبسم القضاة؛ وفي لحظة كان يلتقط فيها أبو طوني انفاسه نجح القاضي زوسمان بأن يقول: “القانون يا ابا طوني، القانون.. فحسب قانون الدولة هذه الارض ليست لاولئك الفلاحين”.
ساد الصمت في القاعة. لاحظت ان ابا طوني يحاول ابتلاع كلمات زوسمان ولا ينتظر أي توضيح. كانت نظارته قد سقطت حتى وقفت عند ارنبة انفه. أرجع كتفيه إلى الوراء، كمن يريد أن يرمي قرصًا من حديد، وبيده الغاضبة رفع بنطاله حين كانت سبابته الاخرى تشق هواء الغرفة البارد. نظر نحو القضاة بعينيه الجاحظتين وصرخ بعبريته العربية “اذن، هحوق شيلخيم، أفال هصيدك ايتانو”، أي القانون لكم ولكن العدل معنا. كررها عدة مرات حتى التصقت حروفها على جدران القاعة ..
كان المشهد مستفزًا وحزينًا. كنت اجلس بهدوء مصطنع وانتظر أن يأمرني لأفعل أي شيء. احسست بكفه تحط على كتفي ويضغط بأصابعه برفق أب. سرت في جسدي حرارة ساحرة ففهمت، عندها، كيف تنقل وصايا الاحرار من جيل الى جيل. أعلن القاضي عن رفع الجلسة وطلب من ابي طوني ان يدخل عنده إلى الديوان.
لم يهدأ ابو طوني أمام زوسمان الذي حاول ان يكون لطيفًا. رفض ان يستسلم لقوة القانون الجديد ومنطقه، فدافع عن الحق بشراسة وانهى حديثه بما معناه: اذا كنتم كقضاة ستدافعون عن هذا الظلم وهذا القمع وعن هذه السرقات، فلن يدوم لكم عرش ولن تستقر سفينتكم بسلام. باطلكم سينسف باطنكم ويدمره.
غادر الغرفة وكان مضطربًا وفوّارًا. نظر نحونا، انا وموكليه، وقال: “هزُلَتْ.. لم تعد هذه محكمة؛ أسموها ما شئتم، فلسوف تصير مقصلة أو مشنقة”.
دخلَت بتاريخ 12/5/2020 قوة من جيش الاحتلال الاسرائيلي الى قرية يعبد القريبة من مدينة جنين في شمال الضفة الغربية المحتلة، وذلك بهدف اعتقال بعض المواطنين في ساعات الليل المتأخرة. بعد سماعه لضجة غريبة في محيط بيته صعد المواطن نظمي ابو بكر الى سطح بيتهم العائلي المكون من ثلاث طبقات وقام بالقاء طوبة من فوق، سقطت على رأس جندي اسرائيلي وقتلته.
أصدر قائد جيش الاحتلال الاسرائيلي، على اثر مقتل الجندي، امرًا يقضي بهدم بيت الاسير نظمي الكائن في الطابق الثالث من بناية تسكن في طابقيها السفليين عائلتا أخويه، بينما يسكن هو وزوجته وثمانية اولادهم، ومنهم سبعة قاصرين، في الطابق المعد للهدم.
التمست العائلات، الزوجة والاولاد والاخوة، أمر منع ضد امر الهدم المذكور وادّعت ان القرار سيعاقب عائلات كاملة وسيرمي بافرادها الى الشوراع، دون ان يكون لهم ضلع أو سابق معرفة أو أية مسؤولية عمّا يتّهم به نظمي.
وحين قبلت المحكمة الالتماس اعتبر البعض قرارها جريئًا؛ وسيجنده آخرون كمثال لعدل القضاء الاسرائيلي، أو كذريعة لاستمرار لجوء الفلسطينيين لهذه المحكمة؛ أما أنا، وإن كنت سعيدًا لانقاذ بيت العائلة من الهدم، لست مطمئنًا، فهذا القرار هو استثناء عن القاعدة الراجحة، التي تثبتها ركامات مئات البيوت التي صادقت على هدمها هذه المحكمة خلال عشرات السنوات الماضية؛ ولست مطمئنًا، كذلك، لان مصير هذه المؤسسة، ربما بسبب هذه الاستثناءات ايضًا، قد حسم ويوم سقوطها النهائي بات وشيكًا ومؤكدًا.
لا يخفي اليمين الاسرائيلي عزمه السيطرة على المحاكم وملأها بقضاة يمينيين؛ فقد شرعت الوزيرة السابقة اييلت شاكيد بمشروعها المعلن وأدخلت عددًا من القضاة الايديولوجيين الى اجهزة القضاء، وفي مقدمتها الى المحكمة العليا.
لقد تشكلت هيئة المحكمة في قضية عائلة ابو بكر من ثلاثة قضاة، فقبل اثنان منهم ، القاضي جورج قرا، والقاضي ماني مزوز، الالتماس، بفوارق بين مسوغات كل واحد منهما، ورفضا الموافقة على هدم البيت؛ بينما وافقت القاضية يعيل فيلنر على هدمه. وكانت هذه القاضية قد عينت ضمن سياسة التعيينات الجديدة ، وتاريخها الشخصي يخبرنا انها كانت من اوائل من شاركوا مع حركة “غوش ايمونيم” مسيرة الاستيطان ومحاولات الاستيلاء على اراضي الفلسطينيين في منطقة سبسطيا وغيرها في منتصف السبعينات؛ وهي ليست وحيدة هناك.
لم يعش أبو طوني ليرى كيف تتحقق نبوءته؛ وكان قد مات قبله القاضي زوسمان دون أن يستوعب معنى نصيحة ضحية الحاضر لمن يتجبرون بها بعد ان كانوا يومًا ضحايا في أرض بعيدة.
لقد حذرنا مرارًا، ونحن أولاد أبي طوني، بان محكمة بررت لعقود سلب حقوق مواطني الدولة العرب وتبرر قمع الفلسطينيين بذرائع كاذبة، ستسقط فريسة بين انياب الذئاب الجائعة.
لم يعش ابو طوني ليرى كيف كان حدسه صائبًا؛ فاليوم صرنا اقرب الى اعواد المشانق التي يهدد بنصبها بعض الساسة لكل من يعارضهم، حتى لو كان مستشارًا قانونيًا سابقًا وقاضيًا مثل ماني مزوز؛ فهو لم يسلم، وزميله جورج قرا، من تحريض النائب سموطريتش الذي هدر عمليًا دمهما عندما كتب بصراحة: ” يخطّر مزوز وقرا حياة كل واحد وواحدة منكم. حقوق ملكية المخربين وعائلاتهم أهم لديهما من حياة جميعنا. هذا وضع مريض ومستفز بدرجات عليا، ويستدعي علاجًا جذريًا بمنأى عن القيم المشوهة التي تحاول مجموعة صغيرة غير منتخبة ان تفرضها علينا بالقوة. ببساطة، لقد سرقوا منا الدولة”. هكذا عندما يستوحش الباطل. انها الدولة التي خدمها القاضي زوسمان وزملاؤه وحذر منها حنا نقاره ورفاقه.
مقالة دقيقة وجميلة. شكرًا على فتح العيون والتوضيح!