ويبقى السؤال كم مرة ومن قتل يعقوب أبو القيعان؟
تاريخ النشر: 11/09/20 | 21:01قد تجدون فيها علاقة بما كتبت وقد لا! ففي كتابه “الفاشية، مقدمة قصيرة جدًا” كتب مؤلفه، كيفن باسمور، ان الفيلسوف والكاتب الاسباني خوسيه أورتيجا جاسيت كان قد عرف الفاشية في العام 1927 هكذا:
للفاشية ملامح غامضة لانها تحوي أكثر المضامين تضادًا ؛ فهي تؤكد على السلطوية وتؤسس للثورة، تحارب الديمقراطية المعاصرة، ومن ناحية أخرى لا تؤمن بالعودة لأي حكم سابق، ويبدو أنها تقدم نفسها باعتبارها صورة للدولة القوية بينما تستخدم أكثر الوسائل قدرة على تفكيكها؛ وكأن الفاشية فصيل هدام أو جماعة سرية؛ وأيا كانت طريقة تناولنا للفاشية فسنجد أنها تمثل الشيء ونقيضه في الوقت نفسه!
وبعد ..
ما يجري على الساحة السياسية الداخلية الإسرائيلية يصح كمادة لاعداد واحد من مسلسلات الإثارة التي تنتجها شركة “نيتفلكس” العالمية؛ وتدمج في حلقاتها كثيرًا من وقائع الحياة وبعض الخيال، حيث تبقى خواتيمها، دائمًا، محكومة بما يختاره المؤلف والمخرج وشركة الإنتاج، أي رأس المال المستفيد، وجمهور المتلقين في واقعنا الآدمي “السائل” .
لا يلاحظ الإنسان العادي كمية المعلومات التي تُطيّر في فضاءاته، بل يتلقاها بإدمان ويمتص لحاءاتها على مهل وبخبل احيانًا؛ ولا يُسأل، في هذه الزحمة، مَن وراء هذه الأخبار أو النظريات أو الكشوفات، وما الغاية منها؟ أو من المستفيد ومن المتضرر من نشرها في تلك اللحظة؟ وما الى ذلك من أسئلة تخبيء الاجابات عليها أسرار تفجيرها وتداعياته، لا سيما ما يعتبر منها كسبق اخباري صاخب ولافت، عرف مُورده كيف “يخرجه”بعناية وبدقة وبمهنية كافية لتصطاد فرائسها من الناس وتحقق ما رمت الحبكة “النتفلكسية ” إنجازه.
اختار رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن يزور بلدة بيت شيمش القريبة من أورشليم ليعلن منها، مساء يوم الاثنين المنصرم، في مؤتمر صحفي، يذاع في ساعة ذهبية وفق قاموس الاعلان العصري، تفاصيل قرار الحكومة الاسرائيلية القاضي بإغلاق بعض البلدات المصنفة “بالحمراء” وذلك في معرض الحرب على ازدياد أعداد المصابين بفايروس كورونا وما حصده من أرواح بين المواطنين.
شاهدنا في ذلك المساء مسرحية أداها ممثل بارع واحد؛ لكنها كانت متكاملة العناصر ومحكمة الأهداف؛ وهي بدون شك ستصبح بعد الكشف عما حصل وراء كواليسها، حدثًا مفصليًا قد يحسم بواسطته نتنياهو شكل نظام الحكم في الدولة، خاصة إذا مكّنته توابعها، كما يريد هو ويخطط، من التخلص من ” اعدائه” في جهازي النيابة العامة والشرطة، وطي صفحة العلاقة التاريخية التي رسمت حدود صلاحيات ذينك الجهازين مع مؤسسة الحكومة ومع رئيسها في اسرائيل.
كان نتنياهو يعلم ان عملية كنس جميع “المتمردين” على سلطانه من تلك الاجهزة، لن تكون سهلة، إلا إذا نجح بتقديم الدليل على صحة ما ادعاه، منذ بدأت إجراءات التحقيق معه بشبهات الفساد والرشوة، واصراره على انه ضحية مستهدفة من قبل بعض القوى التي تعارض حكمه ومن وكلاء تلك القوى المزروعة في بعض أجهزة الدولة، وعلى رأسهم المستشار القضائي للحكومة، اڤيحاي مندلبليط، والنائب العام، شاي نيتسان، وقائد الشرطة العام روني الشيخ، والى جانبهم بعض المحققين والاعلاميين المغرضين.
لقد حاول نتنياهو ورجالاته طيلة السنوات الاخيرة ان يزعزعوا مصداقية المحققين، وادعوا أن أولئك يفبركون البيّنات ويحاولون، بالترغيب وبالتهديد، استمالة الشهود ضده؛ ورغم ما بذله، شخصيًا وبمساعدة طواقم كبيرة من الخبراء والمستشارين والإعلاميين والسياسيين، لم ينجح بمسعاه، بل وجد نفسه متهما بعدة تهم جنائية خطيرة في ثلاث لوائح اتهام ما زالت تنتظره في أروقة المحاكم.
لم ولن ييأس نتنياهو من محاولاته التملص من مواجهة القضاء، او مواجهته في ظروف مريحة تؤمّن له النجاة والبقاء على رأس الحكم؛ فهو، السياسي المحنك وابن المؤرخ والتجارب، يعرف ويحس ان “الدولة” صارت قاب لقمة بين فكيه، ولذلك نجده يجند، في سبيل تذليل ما بقي من عقبات في طريق التهامها، ادعاءً يعلن بموجبه انه يحترم القضاء ولا يخشى محاكم اسرائيل؛ لكنه يؤكد، في نفس الوقت، على كونه ضحية مؤامرة حاكتها نفس المؤسسة ونفس الأشخاص الذين ظلموا “مواطنًا اسرائيليًا” بريئًا وحولوه من ضحية الى إرهابي؛ فيعقوب أبو القيعان ، هكذا يعترف نتنياهو بسهولة، لم يقم بعملية دهس ارهابية كما ادعى ضده قائد الشرطة العام روني الشيخ، ووافقه في ذلك الادعاء المفبرك المدعي العام نيتسان وغيرهما من قادة في تينك المؤسستين.
لم ينس نتنياهو موضوع مؤتمره الصحفي، لكنه تعمّد، كديماغوغي محترف في اقتناص الفرص وفي استضباع عامة الناس، تحويل المشهد الى منصة قرأ منها لائحة اتهام خطيرة كان قد اعدها ضد اعدائه في نيابة الدولة ووزارة الشرطة فاتهمهم بالتآمر عليه، مؤكدًا على ان التحقيقات ضده كانت “تحقيقات سياسية، وكانت ملوثة منذ بداياتها، واستهدفت حياكة ملفات، حيث كان الهدف من وراءها إسقاط رئيس حكومة من منصبه” ؛ فلقد شاهدنا أمس، هكذا اعلن نتنياهو امام مواطني الدولة، ” انهم يفبركون التحقيقات ويقبرون التحقيقات ويتصارعون مع بعضهم من اجل اهداف سياسية”. كم كان الكلام من فمه نزقًا وغريبًا ومستفزًا وكان خاليًا من اي صدق إنساني؛ فما قاله كحقيقة اكتشفها ” أمس” فقط، قلناه عن وجع، نحن المواطنين العرب، باسم عشرات الضحايا الذين سقطوا بنيران شرطته هدرًا، وفُبركت بعدها ملفات قاتليهم، وأُغلقت؛ ورفض، هو ومن قبله من ساسة الدولة ومسؤوليها الامنيين، سماع انين دمائهم ونحيب أيتامهم وأمهاتهم وزوجاتهم الثكالى.
عن أي أمس تحدث نتنياهو في مؤتمره الصحفي ؟
صانع أمس/مستقبل نتنياهو، في هذه الجولة، كان الصحفي عميت سيغال الذي نشر، في القناة 12 العبرية، يومًا قبل انعقاد مؤتمر نتنياهو الصحفي خبرًا – قنبلة كما وصفه نتنياهو في تغريدة نشرها تعقيبًا مباشرًا على الخبر – ومفاده ان النيابة العامة ومحققين في شرطة اسرائيل قاموا بفبركة ملفات ضد نتنياهو، واسكتوا، فيما بعد، من سعى، من داخل تلك الاجهزة، الى فضح الوقائع على حقيقتها؛ ثم أضاف، سيغال، بذكاء وفي سبيل تعزيز ادعائه المذكور، ان هذه الفبركة لم تكن الأولى، فلقد سبقتها أخريات، كتلك التي رتبتها، نفس العناصر المتورطة ضد نتنياهو، في حادثة قتل المربي يعقوب ابو القيعان، ابن القرية البدوية المهدومة، في مطلع العام 2017، ام الحيران؛ حيث كان لدى الشرطة بينات كافية تثبت ان المربي ابو القيعان وقع ضحية لألاعيب عناصر شرطة اسرائيل، ولم يكن مخربًا ومنفذًا لعملية دهس ارهابية، كما ادعى عليه قائد الشرطة، روني الشيح، في نفس الليلة، وساند كذبته مباشرة المدعي العام، شاي نيتسان، وذلك بهدف تغطيتهما على جريمة نفذها بعض عناصر الشرطة حين شاركوا في عملية قتل أبو القيعان ولم يسعفوه في الموقع، بل تركوه ينزف حتى فارق الحياة؛ ثم فبركوا البينات كي لا يُكتشفوا وكي لا يوفروا، من خلال اعترافهم بالذنب، مادة للهجوم عليهم من قبل نتنياهو الذي كان في حالة حرب معهم.
لا اعرف كم منكم يعرف من هو الصحفي عميت سيغال، ولا اعرف لماذا قرر تفجير قنبلته في هذا التوقيت بالذات ؟ لكنه عمليًا زوّد نتنياهو في هذه الفترة الحرجة بمادة سرعان ما حوّلها نتنياهو الى سلاح ما فتيء يستعمله بكل مناسبة ويطالب، بناءً على ما اكتشفه بالأمس فقط، باقامة لجنة تحقيق رسمية تناط بها مهمة اظهار “الحقيقة” والتحقيق مع روني الشيخ وغيره من المسؤولين الكبار.
ويلاحظ ان نتنياهو، الضحية، كان قد كتب مباشرة في تعقيبه على ” قنبلة” سيغال: ” مفزع ، الليلة القى سيغال قنبلة نووية وبرهن من خلال مراسلات داخلية بين مسؤولين من الشرطة ومسؤولين من النيابة كيف حاكوا لرئيس الحكومة ملفات” . ثم أضاف صورة وكتب عليها “ليحقق مع المحققين، فالليلة أثبت للجميع بأن جميع الملفات ضد رئيس الحكومة نتنياهو مفبركة”.
لم يذكر نتنياهو في هذا التعقيب قضية ام الحيران ومقتل المربي يعقوب ابو القيعان بينما حولها في اليوم التالي الى الحدث الدرامي الاساسي فاعلن في مؤتمره الصحفي، أنه قد سأل الشيخ ثلاث مرات ليتأكد من طبيعة الحادث وفي جميعها اكد له الشيخ ان عملية الدهس كانت إرهابية.
لقد توقف نتنياهو بعد هذا الكشف هنيهة، وطلب، بحركة ممثل حذق وقبل ان يفصح عن باقي وجعه كضحية، الاعتذار باسمه “على مقتل والد عائلة ابو القيعان، وعلى أنهم قالوا عنه مخربًا. فأمس تبين أنه ليس مخربًا، وامس تبين أن مسؤولين كبار في النيابة العامة والشرطة قد حوّلوه الى مخرب وذلك كي يحموا أنفسهم ويؤذوني .. “. اقرأوا جيدًا ..فلقد تآمر روني الشيخ وشاي نيتسان وأعلنا عن يعقوب أبو القيعان، قبل ثلاثة أعوام، مخربًا كي يوذيا بنيامين نتنياهو.. فهو أيضا ضحيّتهما تمامًا كما كان ذلك البدوي النبيل ضحية !
هل من عاقل سوي يقبل هذه الحكاية؟
كل التفاصيل التي كشفت عن ممارسات من فبركوا ملف مقتل ابي القيعان، ومن أخفوا تقارير “الشاباك” التي نفى معدّوها ان ابا القيعان قام بتنفيذ عملية ارهابية، وشهادات من اطلق النار وغيرها، كلّها تؤكد ما عرفناه وما حاول في تلك الليلة الحمراء ان يصرخ به كثيرون كانوا هناك وبينهم من كاد أن يصبح الضحية الثانية في تلك الليلة، النائب أيمن عودة، الذي اصيب بعيار في رأسه. فما جرى هناك كانت عربدة عصابة مجرمة، غطت على موبقاتها عصابة أخرى مجرمة وجميعهم عملوا وسيعملون في إمرة عصابة أخرى .
فالى من أكبر بنتنياهو اعتذاره، والى من قدّر مهنية الصحفي سيغال، اقول لا تفتشوا عن بارقة أمل لديهم، فالقادم منهم سيكون أفظع .
ويبقى السؤال من قتل يعقوب أبو القيعان؟
جواد بولس