“تفتيش” للأسير كنعان كنعان
تاريخ النشر: 03/01/21 | 8:45في الخامسة صباحاً بتوقيت مصلحة السجون الصهيونية، ومن كلِّ جولة تنكيل، فإما كابوساً أسوداً، أزرقاً أو صحراوي، حيث كلّ لونٍ يدل على بهيّة المقتحم ووحشيته، حين تُناظرهم، على التوالي بالألوان والحقد والتسليح “الدْرور، اليَمّار والمِتْسادا” وهي أخطرهم وأكثرهم همجية وأقلّهم إنسانية، فهم يقتحمون زنازين الأسرى النائمين بسلاحهم الناري، ويتسلل على اختلافهم كالوحوش، كلصوص الليل، دون أن تشعر بهم أو تستوعب حضورهم، كالصدمة، كالموت المفاجئ أو لعلّه.
وهو الغارق في نومه، في خلوته الوحيدة بالأمس وصباحه هذا وغداً، ساعة إضافية قبل عدد السادسة، لربما يحلم بحبيبته، فهي كل شيء جميل يحصل معه في الصحو والمنام، والباقي عند ذوي القربى الذي قتلته سنين الأسر الطويلة فيهم، نعم حبيبته، فهي ليست “سكارليت جوهانسون” أو ” كسينيا سولو” أو “كارول سماحة” جميلات هوليوود والعرب من وجهة نظره، ولكنها حينما تربّعت حافية في قلبه طغت على جميلات هوليوود والأرض، أو لربما يحلم بالحريّة، فلا صدقت تلك المقولة التي تقول “لا توقذ أسيراً نائماً لعلّه يحلم بالحريّة” فقلّما يحلم بها، وقد مرّ على اعتقاله ما يُقارب العشرين موتاً، ويُقابله في الزنزانة المجاورة من قضى في الأسر أربعين موتاً وما زال يموت، فبأية حريّة يحلم، فتقتصر أحلامه على بقايا ذكرياتٍ بالية، وقد اهترأت من فرط اجترارها، قلّما تجد الجميل منها بعكس ما ارتبط بذكريات الجميلة والزمن الجميل والحالمية، كما يُقال عن التقاليد التراثية وفي الروايات والقصص، وهم يتندرون على أيام زمان، وفي أحسن الأحوال كانوا يبيتون شبعا دافئين، بصحبة المواشي وما تيسّر من طيور وزواحف آمنين، كانت أيام جميلة!! فالحمد لله رب العالمين…
يصحو ساكنو الزنزانة واقفين كالخيل، ويساعدهم في ذلك برودة الأرض على أقدامهم العارية وبرودة الأصفاد في معاصمهم حينما أُحكم إقفالها تُفتح أعينهم على مشهد مُلبّد بالأشباح، لا ترى منهم إلا الوجوم في حركتهم من تحت أقنعتهم، وكلّ اثنين يتكلّفون برفع الأسير من نومه واقفاً، ولوهلة تتخيل نفسك ذاهباً إلى دكّة الإعدام، حيث أن كلّك لم يصحو بعد بما فيها أرجلك، تُساق دون أن يكون لك سلطة على شيء حتى أنفاسك، جراً، سحلاً، شحطاً لا يُهم، إلى المرحاض ليتم تعريتك على آخرك، وتنبيشك قطعة قطعة ونِذراً نِذر، ليحرقوا الانسان فيك تماماً كما مورس على البعض فيهم في معسكرات الاعتقال النازية، لكن المفارقة حتى وأنت عارياً من كلّ شيء تراهم جزعون منك يخشونك نائماً وأعزلاً عارياً وأسير.
أدّعي أني أفهم لغتهم حينما سمعتهم يتهامسون فيما بينهم، أين سيقضون إجازاتهم، فقال أحدهم أنه سيلبي مع آخرين دعوة الأم البحرينية في عزومتها للإسرائيليين على “الشكشوكة الإسرائيلية” كما أسمتها، ولا أريد أن أسميها هي كي لا أدنّس الأمهات البحرينيات العزيزات على قلوبنا جميعاً، وآخر سيذهب بصحبة وفد أمني رفيع للإمارات للقاء المدعو ضاحي خلفان للتباحث في سبل سحب رأس المال الإماراتي من تركيا وايران وتوجيهه لتل أبيب للاستثمار والتوأمة، كشراء نصف نادي كرة القدم، “بيتار يروشالايم” المعروف بكرهه للعرب والمسلمين حيث يشتمون العرب ونبيهم صلوات الله عليه صباح مساء من قِبل ابن العائلة المالكة حامد بن خليفة آل نهيان، وآخر لا يفضل السفر بالطائرة سيعاني من “فوبيا إير” – وهذا تبيّن في تعريتي- سيذهب في جولة سياحية في شوارع رام الله الشقراء، بحماية الأجهزة الأمنية الفلسطينية الوطنية!! وعلى شرف الهبّاش، وقد صدق فيهم قول الشاعر الكبير مظفّر النوّاب “إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم”.
يُلقونك في ساحة السجن مكبّلاً مدحورا، حتى انتهاء ما بدأوه في زنزانتك، ويُبقوا على أسير جالسٍ وأيضاً مكبلاً لا يحق له أن يُحرّك أي ساكن أو يعترض على شيء، شاهداً على استباحة مُقدّسات الأسير الشخصية، حد التعرية والامتهان كما فعلوا بأصحابها، صورة لأحد الأعزاء لك حياً أو ميتاً ديست، ليموت ميتك أو عزيزك في نفسك في كلّ جولة تفتيش، وكنزة تخاف عليها من أنفك وهو يتعقب إثر بقايا عِطرٍ لحبيبتك عليها، مُرّغت بالأرض والسادية والحقد التاريخي الدفين، كل شيء يُقلب على عاقِبِه دون حُرمة أو وَجَل والمبرر حاضر على الدوام، الأمن والردع والبحث عن الممنوع…
يسقط هذا اليوم من عمرك، وما أكثر الأيام التي تسقط وما أكثر أشكالها وتعدّد ألوانها، وما هذا الفصل إلا واحداً من مئات الفصول تتكرر مراراً بأشكال مختلفة، طوال سنين الموت في الأسر، تاركة جروحاً غائرة في الروح، والتي لا تلتئم أبداً أو لربما فقط وفقط إذا بالحريّة، سنعود بعد انتهائهم من ممارسة هواياتهم على المكان والانسان، تبحث عن أشيائك التي داسوها تماماً كأي عائلة مكلومة هُدم بيتها، في بحثها عن سنين العمر بين الأنقاض والذكريات، فتفاصيل الأسير ومقتنياته على قلّتها ورمزيتها تعني له بالضرورة الكثير…
لا نفخ للحقيقة، ولا بكائيات وعويل، واقسم أني لم أقل إلا القليل القليل، فثمّة ساعات وأيام وسنين لا تُفسّر، آلام لا تُترجم، فثمّة ما لا يُوصف هنا، وما يعجز عن وصفه الكلام والتأويل.
الأسير كنعان كنعان