فلسطينيون لبنان .. والانهيار المجتمعي الشامل!
تاريخ النشر: 11/01/21 | 13:44فتحي كليب
اذا ما اعتمدنا على تعريف منظمة الصحة العالمية للصحة كونها “حالة من اكتمال سلامة الفرد على المستويات الجسدية والعقلية والاجتماعية، وليس فقط أن يكون الانسان سليما من الأمراض”، فهذا يعني ان اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يقعون في ادنى مراتب السلامة الصحية، نظرا لافتقارهم الى الاحد الادنى مما يتضمنه التعريف السابق، لأن المنظمة تنظر الى الصحة باعتبارها بيئة متكاملة من العناصر التي تضمن سلامة المجتمع بشكل عام، وبالتالي فان غياب اي من هذه العناصر تجعل الصحة المجتمعية في خطر او بالحد الادنى موضع شك.
إذا ما اعتمدنا على تعريف منظمة الصحة العالمية بشكل خاص والامم المتحدة بشكل عام اللتين تسعيان الى تحقيق استراتيجيتهما الصحية من خلال ضبط الأوبئة والوقاية منها، وتعزيز العمل على تحسين ظروف التغذية، والسكن، والصرف الصحي، والظروف الاقتصادية، وظروف العمل، ونواح أخرى متعلقة بالصحة البيئية، وتحسين معايير التعليم والتدريب في مجال الصحة والطب والمهن، ودعم النشاطات المرتبطة بالصحة العقلية خاصة تلك التي تؤثر على توازن العلاقات الإنسانية وانسجامها، فاننا سنصل الى استنتاج بأن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يحتاجون الى ما هو اكثر من خطة طوارئ اغاثية وصحية شاملة، نظرا للانهيار الاقتصادي الشامل الذي تعيشه المخيمات ومن المتوقع ان تزداد تداعياته خلال الايام والاسابيع القادمة، نظرا لعدم وجود استراتيجيات اقتصادية واغاثية قادرة على النهوض بالواقع الراهن الى مستويات مقبولة..
في مواجهة جائحة كورونا، لجأت دول العالم وشعوبه الى خيار الاغلاق الذي اختلفت تطبيقاته بين دولة واخرى تبعا لمستوى الثقة بالسلطات السياسية وقدرتها على المواجهة، ولدرجة الوعي المجتمعي والالتزام بشروط الوقاية، لكن العامل الاهم كان الاغلاق والحجر المنزلي. ومن يحدد نجاح الاغلاق او فشله هو درجة التزام المواطنين به، وهذا كان يعتمد على معادلة طرفيها هما الحكومة ومؤسساتها المختلفة والمواطنون: فالمواطن يجب ان يبقى في المنزل ويتفهم اجراءات الدول بوقف الحياة الاقتصادية وما ترتب عليها من توقف العمال عن الذهاب الى اعمالهم، والدولة التي تتحمل مسؤولية دعم المواطنين اقتصاديا، سواء عبر مبالغ مالية تقدم بشكل مباشر او من خلال سلة غذائية يومية او اسبوعية، وبين هذا وذاك اعفاءات عدة على الخدمات التي تقدمها الدولة.
على هذه القاعدة سارت اغلبية الدول. فبعضها فضل دعم القطاعات الاقتصادية الكبرى التي تضم مئات الآلاف من العمال كالشركات الكبرى والمصارف، فيما فضلت اخرى الاتجاه مباشرة الى الفئات الاكثر تضررا من الجائحة بمنحها مساعدات نقدية، واخرى ارتأت زيادة موازنات الوزارات المعنية خاصة الخدماتية والاقتصادية، فيما طالب البعض بخطط اقتصادية ومالية اشبة بمشروع مارشال كي تتجاوز هذه الدول ازماتها خاصة في اوروبا. وحتى في الدول الفقيرة، اقرت حكوماتها حزم اقتصادية بملايين الدولارات، بعضها مساعدات ومنح من المؤسسات المالية الدولية وبعصها الآخر على شكل قروض. اي لا يوجد دولة وحكومة في العالم الا واقرت مساعدات لمواطنيها. كما ان المفوضية السامية لشؤون اللاجئين خصصت حزمة دعم اقتصادي للاجئين في مختلف مناطق عملياتها..
وحدهم اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، وفي مناطق اخرى، ظلوا بعيدين عن كل اشكال الدعم الاقتصادي والاغاثي، وباستثناء ما قدمته بعض المؤسسات من عناوين دعم هنا وهناك، لا يمكن القول ان هناك جهة رسمية تعاطت مع الملايين من اللاجئين الفلسطينيين باعتبارهم بشر كما بقية البشر، ويحتاجون الى الدعم الاغاثي الاقتصادي والصحي. ولا يمكن الا ان نفسر هذا الغياب الا باعتباره امرا سياسيا مقصودا، بل عقابا للاجئين الفلسطينيين. وهنا يجب ان لا يغيب عن بالنا ما طالبت به الولايات المتحدة الامريكية في الايام الاولى لقطع مساهماتها المالية عن موازنة وكالة الغوث حين قامت بدفع (60) مليون دولار من حصتها البالغة اكثر من (360) مليون دولار مشترطة استثاء اللاجئين الفلسطينيين، في سوريا ولبنان، من الاستفادة من هذا المبلغ.
في استعراض الواقع الاقتصادي والاجتماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، يبدو اننا امام انهيار شامل للمجتمع الفلسطيني، لكن ما لا نجد له تفسير واضح، هو قدرة هذا المجتمع على الصمود، خاصة انه وخلال فترة نحو عام من الزمن، مر بثلاث ازمات كبرى، وكل واحدة من هذه الازمات كانت كفيلة بشل قدرة الشعب عن التحرك. لكن قبل ان نستعرض هذه الازمات وتداعياتها، فمن المفيد التعرف على الواقع الاقتصادي للاجئين منذ العام العام 2010..
كانت الدراسة الشاملة التي اصدرتها وكالة الغوث عام 2010 بالتعاون مع الجامعة الامريكية في بيروت الاكثر شمولية لجهة المعطيات الرقمية والاحصائية عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي لفلسطينيي لبنان. وجاء فيها ان نحو ثلثي اللاجئين الفلسطينيين هم من الفقراء فيما بلغت نسبة الفقراء في بعض المخيمات (81) بالمائة (مخيمات صيدا وصور)، وبلغت نسبة الذين يعانون من الفقر الشديد، أي أنهم عاجزون عن تلبية حاجاتهم اليومية الأساسية من الغذاء (6.6) بالمائة. كما بلغت نسبة العاطلين عن العمل (56) بالمائة، (15) بالمائة يعانون فقدانا حادا للأمن الغذائي ويحتاجون إلى مساعدة غذائية ملحة و(63) بالمائة يعانون من فقدان الأمن الغذائي، ولا يحصل ثلث الفلسطينيين على متطلبات الغذاء الاساسية. اما على المستوى الصحي، فيعاني حوالى ثلث السكان من أمراض مزمنة و(21) بالمائة يعانون من الانهيار العصبي أو القلق أو الكآبة و (95) بالمائة من الفلسطينيين ليس لديهم تأمين صحي ويعتمدون على وكالة الغوث بشكل كامل. ومن المؤكد ان هذه المعطيات لا تعكس الدقة، والواقع راهنا يشير ان الامور اسوأ بكثير والمعطيات الرقمية تشير الى ان جميع مكونات المجتمع الفلسطيني في لبنان ذاهبة الى انهيار حقيقي، نتيجة انهيار قيمة العملة الوطنية وعدم وجود مرجعية خدماتية تسعى الى التخفيف من حدة الازمة.
فيما كانت المطالب الشعبية تتركز على دعوة المرجعيات المعنية للتصدي لهذا الواقع والعمل على تحسينه، سواء من قبل وكالة الغوث او الدولة اللبنانية او مؤسسات منظمة التحرير والمؤسسات الاجتماعية المختلفة، تعرض اللاجئون الفلسطينيون في لبنان منذ منتصف العام 2019 لثلاث ازمات كبرى نستعرض ابرزها:
1) منذ تموز 2019، أعلن وزير العمل اللبناني عن حملة ملاحقات قانونية تحت عنوان “تسوية أوضاع العمال الأجانب غير الشرعيين”. ولجأ موظفو وزارة العمل اللبنانية الى ملاحقة العمال الفلسطينيين الذين يعملون على الأراضي اللبنانية، وكانت نتيجة الحملة إغلاق العديد من المحال والمؤسسات التجارية في أكثر من منطقة، وتوقيف عدد من العمال الفلسطينيين الذين يعملون في مؤسسات لبنانية عن العمل بتهمة العمل بدون إجازة عمل..
2) بالتزامن مع التحركات الشعبية الاحتجاجية التي شهدتها الفلسطينية ضد اجراءات وزارة العمل، والتي اعتبرت الاوسع والاضخم منذ النكبة، انفجر الشارع اللبناني في تحركات شعبية طالت جميع المناطق اللبنانية، بكل ما رافقها من قطع لجميع الطرق الرئيسية، وهو ما ادى الى شل الحياة الاقتصادية واتخاذ الحالة الفلسطينية لسياسة وطنية مسؤولة قضت باعتبارها ليست جزءا من هذه التحركات، في ظل دعوات لعدم مشاركة الفلسطينيين في تلك التحركات، ما ادى الى مفاقمة الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي كان يشكو اصلا من مشكلات، وارتفعت الدعوات مطالبة وكالة الغوث باعتبار المخيمات مناطق منكوبة وتتطلب خطة طوارئ اغاثية وعاجلة.
3) منذ بداية آذار 2020، اتخذت الدولة اللبنانية سلسلة من التدابير في اطار مواجهة كوفيد 19، فأغلقت الجامعات والمدارس بداية، تلاها اعلان التعبئة العامة التي تضمنت اغلاق جميع المعابر ما ادى توقف الحياة العامة وشلل الحياة الاقتصادية. ومن الطبيعي ان تنعكس هذه الاجراءات على العمال الفلسطينيين وعائلاتهم التي يعمل الجزء الاكبر منهم بشكل يومي، ما وضع آلاف العمال امام مشكلة حقيقية نتيجة التزامهم باجراءات التعبئة العامة والاغلاق..
ان ما جعل الصورة العامة للاجئين الفلسطينيين في لبنان اكثر سوداوية ومأساوية، هو ان المرجعيات المعنية بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين (وكالة الغوث، الدولة اللبنانية ومؤسسات منظمة التحرير) لا تتعاطى مع اللاجئين كونهم عرضة لمشكلات اشبه بـ “نكبة اقتصادية واجتماعية”. فاذا كان المواطنون اللبنانيون يعانون من اوضاع اقتصادية اقل ما يقال فيها انها صعبة، وقادت الى تحركات شعبية واسعة، فكيف هو الامر بالنسبة للاجئين الفلسطينيين؟ لسنا هنا في معرض نقاش اسباب تدهور هذه الاوضاع، التي وان كان اللاجئون الفلسطينيون يتقاسمون مع اخوتهم اللبنانيين تفاصيلها اليومية، الا ان الاوضاع تنعكس على اللاجئين بأضعاف مضاعفة:
اولا، لأن منشأ معاناة اللاجئين يعود بجذره الى صراع سياسي والى ضغوط دولية، امريكية، تمارس على الشعب الفلسطيني وعلى المنظمات الدولية الداعمة له لتحقيق اهداف سياسية باتت واضحة لدفعه للقبول بحلول سياسية لا تنسجم والحد الادنى من تطلعاته الوطنية، وبالتالي فان المعاناة الاقتصادية تصبح بهذا المعنى جزءا لا يتجزأ من صراع مع المشروع الصهيوني.
ثانيا، لأن وضعية اللاجئين الفلسطينيين، السياسية والقانونية والاقتصادية، تختلف عن وضعية المواطنين اللبنانيين الذين يعيشون بحماية دولة لها مؤسساتها السياسية والقانونية وفي ظل نظام اقتصادي متكامل ومتبلور اقتصاديا ويتمتعون بجميع الضمانات، بينما اللاجئون الفلسطينيون يعيشون في مخيمات تفتقر الى ابسط شروط الحياة ويعانون من الحرمان من حق العمل في ظل غياب جميع اشكال الضمانات.. وهم حكما خارج اطار الدورة الاقتصادية وخارج اطار المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية التي يستفيد منها المواطنون مثل حزمة الدعم الاقتصادي التي اقرتها الحكومة مثلا في اطار مواجهة الجائحة وتم استثناء الفلسطينيين من الاستفادة منها.
ثالثا، لأن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ينظرون الى وكالة الغوث باعتبارها “قطاعهم العام” الذي يوفر لهم خدمات التعليم والرعاية الصحية والاغاثة الاجتماعية التي لا يمكن ان تستمر الا عبر تمويل، اريد له ان يكون طوعيا، تقدمه الدول المانحة، واي اخلال دولي بالتزام الدول المانحة، كما هو حاصل اليوم، فمن شأنه ان ينعكس على طبيعة الخدمات المقدمة، كما ونوعا.
انطلاقا من كل ذلك، يصبح واضحا لماذا يطالب اللاجئون بدعم اقتصادي، كما يصبح مفهوما ايضا حاجة اللاجئين الدائمة لخطط طوارئ اقتصادية وصحية وتربوية واغاثية لا يوجد من هو مؤهل اكثر من وكالة الغوث التي درجت في مناسبات عدة على اعتماد هذا النوع من الدعم، نظرا للاوضاع المتغيرة للاجئين وعدم ثباتها على واقع معين بفعل تشعب الصراع وتعقيداته..
لقد وصلت اوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الاقتصادية والاجتماعية الى حافة الانهيار التي من شأنها ان تنعكس على المجتمع الفلسطيني بشكل عام وعلاقته بالجوار وبمكوناته المختلفة، بسبب حالة البؤس والحرمان الواسعة نتيجة اعتماد جميع العائلات على وكالة الغوث بنسبة 100%. فرغم ان ارقام الوكالة تقول ان نسبة الفقراء من فلسطينيي لبنان بلغت نحو ثلثي اللاجئين، الا ان العدد الفعلي من الفقراء يكاد يصل نسبة مائة في المائة، وذلك نظرا لمعايير الاونروا وطريقتها في احتساب نسب الفقر، حيث تلتزم بالنسبة المحدد عالميا وهي عتبة (1.9 دولار للفرد يوميا). ونماذج الصور اليومية التي تتكرر في جميع المخيمات، تكاد توصلنا الى نتيجة مفادها: ان المجتمع الفلسطيني يسير نحو انهيار فعلي في الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية وغير ذلك من امور.. بل هو انهيار مجتمعي كامل، بكل ما للكلمة من معنى.
ان هناك الكثير من الاطراف تعمل بشكل يومي على توفير الحد الادنى من الدعم الاقتصادي، لكن رغم ذلك، فهناك عشرات بل مئات العائلات لم تستفد، حتى الآن، من المساعدات، سواء بسبب الفوضى والعشوائية في عمليات التوزيع او نتيجة عدم الاشراف الجيد، ما يدعو الجميع الى مراجعة طريقة واشكال التوزيع بهدف تحديد مكامن الخلل والعمل على معالجته بشكل سريع وقبل استفحال المشكلة، والتعاطي بمسؤولية مع هذه القضايا التي تتطلب وعيا وطنيا جماعيا بما يضمن تجاوز هذه المرحلة بأقل الاثمان..
لقد تعاطت جميع دول العالم مع جائحة كورونا باعتبارها ازمة صحية لها تداعيات اقتصادية واجتماعية وتنعكس على كل المجتمع خاصة الفئات الفقيرة، باستثناء وكالة الغوث، التي لم تتمكن من جمع سوى مبلغ بسيط مخصص للاجئين في لبنان، وهو مبلغ لا علاقة له بأزمة كورونا بل يعود الى مرحلة سابقة، حين شهد لبنان تحركات شعبية انعكست سلبا على معيشة اللاجئين الذين يحتاجون اليوم الى ما هو اكثر من خطة طوارئ اغاثية وصحية..