شهيدان وبندقية – بين احمد حجازي ومحمودياسين
تاريخ النشر: 03/02/21 | 13:59د. سلام قدسي
في الامس تابعنا وشيعنا بقلوب حزينة الشهيد احمد حجازي من طمرة ضحية حادثة تبادل النار بين دورية شرطة كمنت لعصابة مسلحة في أحد أحياء طمرة.
بالمقابل لم نسمع أي كلمة او ذكر عن مراسم تشييع القتيل محمود ياسين الذي قتل ايضًا أثناء تلك العملية على يد رجال الشرطة بينما أصيب شاب آخر بجراح وصفت بالخطيرة وهـو جندي سابق، وفر شاب ثالث كان بمعيتهما وتم إلقاء القبض عليه لاحقًا.
الفرق بين المرحوم أحمد حجازي طالب التمريض الذي اجتهد وثابر من اجل تحقيق حلمه بالوصول الى مهنة المستقبل، وبين المرحوم محمود ياسين، كبير. على الرغم من أننا لا نعرف عن تفاصيل حياة محمود شيئًا ولا عن تفاصيل حياة زميليه الاخرين الذين اتخذوا جميعًا من السطو المسلح مهنة لهم. شتان بين المهنتين لكنهما من مهن المستقبل ما لم نتدخل فورًا ونغير مصير شباب الغد.
جيل هؤلاء الشباب يوصف بحسب نظرية الأجيال بالطفرة وهم مواليد سنة 2000 تقريبا. هؤلاء الشباب ترعرعوا في العشر سنوات الأخيرة على قيم ومبادئ نهلوها عبر الشبكة العنكبوتية الأنترنتية في ظل غياب دور المدرسة والأهل عن التربية.
المدرسة في العشر سنوات الأخيرة التي صبت جل اهتمامها على التحصيل العلمي تماشيًا مع سياسة وزارة التربية والتعليم التي طلبت رفع التحصيل في المجتمع العربي منعًا للإحراج في دول التعاون الاقتصادي OECD، اذ تسببت نتائج تحصيلنا في المدارس بانخفاض المعدل العام للدولة في امتحانات النجاعة والنماء المعروفة باسم امتحانات الميتساف التي تجري في مراحل التعليم المختلفة وصولًا الى امتحان البيزا العالمي الذي يجري في الصف العاشر.
تم اضطهاد الطلاب الضعفاء تحصيليًا بل تم تغيبهم عن الامتحانات وفي ذلك شهادة واضحة لهم بانهم فاشلون ضعفاء، ناهيك عن تغشيش الطلاب الباقين وتنقيلهم للإجابات الصحيحة من قبل المدراء والمعلمين مباشرة الذين دخلوا الصفوف متوترين برسالة واضحة لبقية الطلاب تقول نحن نشك بقدراتك ولا نثق بكم! تداس القيم التربوية والمبادئ كرمال ما يحرج المفتش والمدير أمام رئيس اللواء في وزارة التربية. في هذه الأجواء ترعرع جيل الطفرة، فتسربوا من المدرسة بشكل غير معلن، اذ بقوا من ناحية رسمية مسجلين في المدرسة بل تواجدوا في الكثير من الأحيان داخلها لكن ليس في الصفوف ولا على مقاعد الدراسة بل في مكتبة المدرسة او الساحة. وكان من مصلحة المدرسة إبقاء هؤلاء الطلاب في سجلاتها حتى يتم استكمال ملاك الصفوف اذ يفتح الصف بحسب عدد الرؤوس التي فيه بحسب أنظمة وزارة التربية. اما المعلمون والمعلمات فطردوا هؤلاء الطلاب من صفوفهم تماهيًا مع سياسة تكريس القوي صاحب التحصيل الأعلى. للأسف تحول معلمينا في غالبيتهم الى عمال مصانع ينفذون سياسات الوزارة مدفوعين إليها تحت رقابة صارمة من الإدارة والتفتيش.
بالمقابل غذت في السنوات العشر الأخيرة برامج وتطبيقات تكنولوجية عن طريق شبكة الانترنت حياة هؤلاء الشباب وتسللت إليها بالأساس عبر الهواتف الذكية التي اقتناها الأهل لهؤلاء الشباب بعد إلحاح وإصرار. وجد جيل الطفرة فيها ملاذه بعد أن لفظته المدرسة التي هي من المفروض ان تكون المجتمع والبيت والحاضن، فوجد في العالم الافتراضي البديل الحي والمثير الذي الهب حواسه ومشاعره ووفر له المهرب والمخرج من قصة فشله المقيتة. فاعتزل هؤلاء الشباب الحياة الاجتماعية واغلقوا على أنفسهم الأبواب، وفقد الاهل الاتصال بهم وصار مصيرهم بيد ما هو بيدهم أي الهاتف الذكي او الخبيث.
لا يمكنني هنا الحديث عن أي دور لقيادة أو أحزاب ففي العشر سنوات الأخيرة وتحت تأثير الثورة التكنولوجية تحول قيادتنا إلى نجوم إعلام على الشبكة وغابوا عن المشهد الجماهيري المؤثر.
المرحوم محمود هشام ياسين ورفاقه هم ضحايا غيابنا كمربين ومربيات كأمهات وآباء من حياتهم في البيت والمدرسة والمجتمع. على الأرجح ان معلمته التي علمته في الصف الأول ما زالت حاضرة بيننا اليوم وقد تقرأ هذه الاسطر، ومعلمه في المرحلة الإعدادية كذلك، هل تذكرون محمود؟ هل تذكرون حديثكم وتعاملكم معه؟ هل قلتم يومًا: ” وانا مالي.. هو انا باقية امه ولا ابوه؟” حاولوا مراجعة ذاكرتكم. وعلى الأغلب لن تذكروا فأمثال محمود يصعب تذكرهم.
مدارسنا تهمش الطالب الضعيف او صاحب الإعاقة او الضائقة. وترسخ القوي والموهوب.
كان المرحوم محمود ياسين بيننا طالبا، مكث في رياض الأطفال ثلاث سنوات وفي المدرسة 12 سنة، الم تكم 15 سنة من اصل 22 سنة كفيلة بتقرير مصير انسان وصقل شخصيته؟ اين برنامجنا التربوي؟ من هو خريج مدارسنا العربية؟ لا يعقل ان يكون مشروعنا رجل عصابة؟ فقط يمكن ذلك في حال غياب برنامج واضح.
كان محمود بيننا طفلا ويافعًا ومراهقًا وشابًا.. أي قيم زرعناها فيه.. أي رسالة مجتمعية حملناه إياها.. هل احتضناه ام طردناه وعنفناه وارسلنا في طلب ذويه فبكت امه واحتار اباه؟ هل أعطيناه فرصة للنجاح؟ من منكم احتضنه وقال يومًا: “تعال يا محمود احكي لي عن حالك”. ماذا كانت هوايته؟ وماذا صنعنا بها؟
الم يكن محمود من خلال حمله للبندقية يحاول فرض نفسه والتعبير عن وجوده؟ هذا ما علمه إياه ابطال المسلسلات والأفلام وحوارات ومقدمات الألعاب الإلكترونية من بلي ستيشن وايكس بوكس. مع غياب انموذج القائد من حياته. هل تحدثنا في صفوفنا وعبرنا عن موقفنا بشجاعة كمعلمين ومعلمات من السلاح والجريمة في مجتمعنا ام خفنا وصمتنا فشعر طلابنا بهيبة العصبات وسطوتهم اذ يغيرون الموضوع كلما فتحت السيرة! بالمقابل كانت شخصيات مثل تيم حسن ومحمد رمضان تمثل لهم انموذج ابطال الهيبة والرجولة!
انا أقول بأعلى صوتي ما يجري في مجتمعنا من عنف هو ترجمة لممارسات جهاز التربية والتعليم على طلابنا.
فقدنا جيل كامل من الشباب اعتقدنا أننا اودعناهم أمانة في رقبة مدير مدرسة ومعلمات ومعلمين كانوا كل الوقت يكذبون علينا أن أبناءنا بخير. كلا هم ليسوا كذلك.
علينا أن نتدارك الجيل القادم وان نضع خطة شاملة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم لإنقاذ جيل الغد من مصير مشابه لمصير جيل محمود.
وزارة التربية والتعليم لن تضع وحدها مثل هذا البرنامج، فهي مشغولة بما هو اهم. هي بحاجة الى قيادة تضغط عليها وتفرض عليها خطة خاصة لإنقاذ جيل الغد من مصير محمود المحتوم.