هل ستصدر الجنايات الدولية أمرا باعتقال نتنياهو وغانتس وياعلون؟
تاريخ النشر: 11/03/21 | 13:03جمال زحالقة
بعد مرور أكثر من خمس سنوات على تقديم الشكوى الرسمية، قررت المدعية في محكمة الجنايات الدولية باتو بنسودا، فتح تحقيق رسمي بشأن جرائم حرب ارتكبت في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، قطاع غزّة والضفة الغربية والقدس الشرقية. يأتي هذا القرار في إطار الجهود الفلسطينية المتواصلة في السنوات الأخيرة، لنقل قضية فلسطين بتفرعاتها المختلفة إلى الساحة الدولية، بعد انهيار مسار التفاوض، وانسداد آفاق النضال المسلّح. ومنطق العمل على الساحة الدولية يمكن أن يأخذ منحى متاهة البحث عن تسوية نزاع، أو أن يحكمه هذا المنحى، مقابل منطق الحقوق المسلوبة، والمطالبة باستردادها، والساحة الدولية هي أحيانا ملجأ للضعفاء، فمن المفروض أن يحكمها القانون الدولي وليس توازن القوى المحلّي، الذي يظلم فيه القوى الضعيف.
ما من شكّ بأن التوجّه إلى محكمة الجنايات الدولية، بعد انضمام دولة فلسطين لها رسميا عام 2014، كان خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكن هناك حاجة لجهود جبّارة لضمان تحويل الشكوى إلى عقاب لمجرمي الحرب الإسرائيليين. لقد قدّمت الشكوى الفلسطينية عام 2015، على أساس أن فلسطين هي عضو في معاهدة روما، التي تستند إليها المحكمة، ولها حقّ في تقديم شكاوى، بكل ما يخص الضفة والقطاع والقدس الشرقية. وطالبت فلسطين في الدعوى التي قدمتها التحقيق في جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل منذ الحرب على غزّة عام 2014، وكذلك في جريمة الاستيطان، التي جرت إضافتها إلى قائمة جرائم الحرب عام 1949.
أثار قرار المدعية الدولية بفتح التحقيق، ردّ فعل هستيري في إسرائيل، ورد عليه نتنياهو بالقول، إن إسرائيل تتعرض لهجوم، وإنها ستدافع عن نفسها وعن قياداتها العسكرية والسياسية، واتهم المحكمة باللاسامية، وبالكيل بمكيالين، وبقائمة طويلة من التهم الممجوجة، ولحقت القيادات العسكرية والسياسية بنتنياهو وتبارت في الهجوم على المحكمة وعلى قرارها، وحاولت دمغه بالقرار السياسي غير الموضوعي، وغير المسنود قانونيا. وحين قدّم رئيس حزب ميرتس ملاحظة خجولة، بأن على إسرائيل أن تفحص نفسها، وأن تتعاون مع المحكمة، قوبل بهجوم كاسح، واتهم بمعاداة الصهيونية، وهي تهمة من الوزن الثقيل في الدولة العبرية.
قامت إسرائيل بما هو أهم من التصريحات العلنية، وحاولت على مدى السنوات الماضية منع إصدار القرار بفتح التحقيق، وحتى بعد صدوره، لا تزال إسرائيل تأمل بإفشال تطبيق القرار، بعد انتهاء فترة عمل المدعية الحالية في يونيو/حزيران المقبل ودخول المدعي الجديد البريطاني كريم خان، بدلا عنها. وقد بدأ الضغط عليه، قبل أن يدخل مكتبه في هاج، عبر التأكيد على أن القرار لا يلزمه، وانه يستطيع إلغاءه أو المماطلة فيه لسنوات طويلة. ورغم أن إسرائيل تقاطع المحكمة رسميّا، إلّا أنها كانت، في السنوات الماضية، على تواصل دائم مع مكتب المدعية، وقدمت المستندات وسطّرت وثائق الدفاع، في محاولة لمنع صدور القرار بالتحقيق.
أعد المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية مردخاي مندلبليط، تقريرا مطولا حدّد فيه الموقف الإسرائيلي، مدعيا أن فلسطين لا تفي بمعايير اعتبارها دولة وفق ميثاق المحكمة الدولية، وأن المناطق المحتلة ليست محتلة، بل هي منطقة متنازع عليها، وأنه لو اعتبرت فلسطين دولة فإن حدودها غير معرّفة رسميا، وقد تجد المحكمة نفسها تتجاوز صلاحياتها في مناطق ليس لها فيها صلاحية. وادعى مندلبليط كذلك أن اتفاقيات أوسلو تمنع الفلسطينيين من تقديم شكاوى من هذا النوع. ونفى أن تكون إسرائيل قد ارتكبت في العدوان على غزّة جرائم حرب، أو أي جرائم أخرى، وأنكر حق المحكمة في بحث الشكاوى المقدمة لها، لأن إسرائيل، حسب ادعائه «تلتزم بقوانين الحرب، وكل خرق لها يجري التحقيق فيه داخليا» وتباهى بما سماه «نزاهة ومصداقية» أجهزة فرض القانون والقضاء الإسرائيلي.
لا يصح الاستهتار بالتهم الموجهة للفصائل الفلسطينية، ويجب التحضير لدحضها وتفنيدها، وتجاوز الانقسام والمنافسة
الادعاء بأن إسرائيل قامت بالتحقيق في المخالفات القانونية، ولديها القدرة على القيام بذلك مستقبلا، دفع المدعية الدولية إلى القول، إنها لا تستطيع أن تجزم بهذا الأمر، وإنه جزء من التحقيق الدولي في قضية جرائم الحرب. ومن المعروف أن المحكمة الدولية لا تقوم بالتحقيق في قضايا جرى أو يجري تحقيق جدّي فيها على الصعيد المحلّي. هنا يقع الخطر الكبير بأن تستطيع إسرائيل أن تقنع المحكمة بأن التحقيق الداخلي، الذي قامت وتقوم به بشأن قضايا القتل والتدمير، كافٍ لوقف الإجراءات في هاج. ولا بد من جهد فلسطيني هائل لتقويض هذا الادعاء الإسرائيلي، خاصة أن هناك أسطورة لها سطوة في الفضاء القضائي العالمي، بأن المحاكم الإسرائيلية مستقلة ونزيهة، وملتزمة بالقانون الدولي وبالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان. قد يكون من السهل نسبيا تفنيد الادعاءات الإسرائيلية الأخرى، لكن هذا الادعاء بالذات هو الأصعب، وله آذان صاغية حتى عند محكمة الجنايات نفسها.
بإمكان إسرائيل التحقيق في ما تسمّيه خرق القانون من قبل الضباط والجنود في الضفة والقطاع، لكنّها لن تستطيع التحقيق في موضوع جريمة الاستيطان، لأنها كدولة تعتبر الاستيطان قانونيا ومشروعا، وقرارات المحكمة الإسرائيلية انحصرت في بحث قانونية، أو عدم قانونية بعض المستوطنات العشوائية، التي أقيمت على أراضٍ فلسطينية، جرى الاستيلاء عليها عنوة، ولم تتم مصادرتها رسميّا وبشكل «قانوني». إسرائيل الدولة مسؤولة عن الاستيطان، وهناك أشخاص معروفو الهوية، قرروا وخططوا ونفذوا في العلن جريمة الحرب المتمثّلة في الاستيطان، ويمكن اعتقالهم وتوجيه التهم لهم، وفرض العقوبات عليهم في محكمة الجنايات الدولية. لقد قررت المدعية الدولية التحقيق في موضوع الاستيطان، وهي على علم ودراية بالادعاء الإسرائيلي، بأن الاستيطان ليس حالة «نقل لسكان دولة الاحتلال للاستيطان في المناطق المحتلة» الذي يعتبره القانون الدولي جريمة حرب، بل هو استيطان في مناطق متنازع عليها، قد تصبح لاحقا جزءا من دولة إسرائيل. إن اطّلاع المحكمة على هذا الادعاء وإصدار قرار التحقيق، مؤشّر مهم إلى أنها لم تقتنع بالادعاء الإسرائيلي المركزي بشأن الاستيطان.
التواصل الإسرائيلي مع المحكمة، حتى لو كان سريا، والاطلاع على كل الطروحات المضادة، يجعل قرار فتح التحقيق أكثر متانة وقوّة، لأن المدعية أخذت بعين الاعتبار كل الادعاءات الإسرائيلية، ولن تفاجأ بها بعد صدور القرار، وإذ أصيبت إسرائيل بخيبة أمل بسبب عدم التجاوب مع موقفها، فهي تسعى إلى عرقلة التحقيق بكل الوسائل. فقد توجه نتنياهو إلى بايدن وطلب مساعدة ومساندة الولايات المتحدة ضد المحكمة. وقد أعلنت الإدارة الأمريكية رفضها لقرار التحقيق في الجرائم الإسرائيلية، ووعدت بالمساعدة حيث تستطيع، لكن ليس من المتوقّع أن يزيد بايدن عقوبات إضافية لتلك، التي فرضها سلفه ترامب بعد قرار المحكمة التحقيق في ما قامت به الولايات المتحدة في أفغانستان. كما تقوم إسرائيل باتصالات مكثفة مع دول كثيرة، وبالأخص الأوروبية منها لمحاصرة المحكمة وإفشال عملها. أما فيما يتعلّق بالدول العربية، فإن علامات السؤال هي الإجابة على معظم الأسئلة. فهل ستقوم دول عربية باعتقال مسؤولين إسرائيليين بعد صدور قرار من المحكمة باعتقالهم؟ وهل ستدعم الدول العربية والجامعة العربية الجهد الفلسطيني امام المحكمة، كما فعلت عندما جرى بحث قضية جدار الفصل العنصري عام 2004، أمام محكمة العدل الدولية؟ وهل ستسمح الدول العربية بقيام محققين دوليين باستجواب الشهود على أراضيها، بعد أن قررت إسرائيل إغلاق الباب امامهم؟ لقد توجّهت إسرائيل فعلا لدول عربية، وطلبت منها أن تغلق الباب امام التحقيق الدولي، وهناك تسريبات بأن هذا الطلب لقي استجابة، على عكس ما كان عند إعداد تقرير غولدستون عن جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزّة.
مقاضاة إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية، فرصة مهمّة لمعاقبة المجرمين وردع آلة الحرب والدمار الإسرائيلية، وإذا سارت إجراءات التحقيق والمحاكمة وفق القانون الدولي بلا مواربة، فإن أمرا بالاعتقال يجب أن يصدر أولا ضد بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وضد موشي ياعلون، وزير الأمن السابق، وبيني غانتس رئيس الأركان السابق، فهم أول المتهمين بارتكاب جرائم حرب فظيعة، خلال الحرب على غزّة عام 2014، والتي ذهب ضحيّتها أكثر من 2200 فلسطيني.
من جهة أخرى هناك خطران يجب الانتباه لهما، الأول أنه إذا استطاعت إسرائيل، لسبب ما، الإفلات من العقاب فسوف يمنح ذلك شرعية لجرائم الحرب الإسرائيلية ولتصنيفها كحالة دفاع عن النفس، بكل ما يحمله ذلك من مخاطر تشجيع جرائم حرب إضافية. والثاني، أن قرار المدعية يشمل فتح التحقيق في معاناة الضحايا من «الطرفين» وتحديدا التحقيق أيضا مع فتح وحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والسلطة الفلسطينية، بتهمة إمكانية ارتكاب «جرائم حرب» ورغم هذا الاتهام، رحّبت الفصائل الفلسطينية كلها بقرار المحكمة وباركته فتح واعتبرته خطوة إلى الأمام، وحماس من جهتها رحّبت أيضا، وأكدت أن «مقاومتنا شرعية وتأتي في إطار الدفاع عن شعبنا، وهي مقاومة كفلتها كل الشرائع والمواثيق الدولية». لا يصح الاستهتار بالتهم الموجهة إلى الفصائل الفلسطينية، ويجب التحضير لدحضها وتفنيدها، ويلزم ذلك تعاون فلسطيني وثيق يتجاوز كل أشكال الانقسام والمنافسة. كما يجب الحذر من أن تقوم المحكمة بإجراء نوع من التوازن وتلاحق قيادات فلسطينية، كما تلاحق قيادات إسرائيلية، وتضرب بعرض الحائط ضرورة التفريق بين المجرم والضحية، ويجب أخذ الحيطة وبذل كل جهد حتى لا نصل إلى هذه النتيجة السيئة.