يوميات نصراوي: موسكو وذكرياتي التي لا تنسى

تاريخ النشر: 26/04/21 | 18:52

نبيل عودة

موسكو مدينة هادئة لا تسمع فيها أصوات الأبواق او الميكروفونات المرتفعة، موسكو لا تؤمن بالدموع لأنها مدينة مشرقة دائما، بنظافتها، تنظيمها وناسها.. أبنيتها جميلة وتشير الى فن معماري سلافي رائع. مطاعمها راقية ومتعددة الأشكال. المطعم البلغاري كان يشتهر بشواء الدجاج بطريقة خاصة، المطعم الصيني بمأكولاته المميزة التي عشقتها بينما زملاء لي لم يعجبهم مذاقها الذي يجمع بين المتناقضات، لم يهضموا السوشي التي أصبحت من ماكولاتي المفضلة حتى اليوم. الكيوسكات التي تبيع “البليمينيي” مع اللبن الرائب (اكلة تشبه “الشوشبرك” المشهورة في فلسطين). وعربات محملة بصهاريج تبيع شراب “الكفاس” والكفاس هو مشروب روسي تقليدي مخمّر من خبز الجاودار العادي، الكفاس مصنف على أنه مشروب غير كحولي، حيث أن نسبة الكحول فيه أقل من1.2% يشبه شراب عرق السوس أو شراب الخروب في بلادنا.

موسكو مدينة الحدائق والمسارح بالهواء الطلق لتقديم برامج فنية مختلفة. حديقة غوركي من أجمل حدائق موسكو، تسمى “حديقة العشاق” لكثرة العشاق المتجولين في طبيعتها الساحرة، فيها عدة مسارح شعبية لتقديم برامج مختلفة، فيها نادٍ ليلي يلمّ شمل العشاق ليلا في باحة الرقص.

المترو في موسكو أعجوبة من أعاجيب الفن المعماري وحلول مشاكل المواصلات، صالاته الرحبة معارض للفن، محطة ماياكوفسكي ايضا تسمى “محطة العشاق” حيث هي الأفضل للتواعد بسبب مدخلها ومخرجها المتواجهان .. بينما المحطات الأخرى لها مخارج ومداخل عديدة ولعدة شوارع. لا اعرف انسانا طبيعيا وصل موسكو دون أن يغرق بعشق المدينة لياليها ونسائها وحدائقها ومتاحفها وساحتها الحمراء (في الأصل “الساحة الجميلة”، كلمتي جميلة وحمراء من نفس المصدر بالروسية).

مسارحها دائما مكتظة، شعب يقرأ ويشارك بالحياة الفنية والثقافية بشكل لا يمكن شرحه، من الصعب الحصول على تذكرة للبولشوي تياتر او لمسرح قصر المؤتمرات او لأي مسرح آخر، البعض ينتظر ايام طويلة ليحصل على تذكرة، نحن طلاب المدرسة الحزبية كنا نحصل على تذاكر للمسارح المختلفة، مثل المسرح الغجري الرائع والبولشوي وقصر المؤتمرات خلال 24 ساعة، بفضل اعتبارنا ضيوفا مميزين… كيف لا وفي ظهرنا الحزب الشيوعي السوفييتي العظيم، حاكم أكبر امبراطورية في العالم والمتحكم باكبر حركة سياسية عالمية منتشرة في مختلف أنحاء العالم؟ فما المشكلة؟!

نصل الى المطاعم.. نجدها دائما ممتلئة، تعلمنا جملة سحرية: “نحن وفد عربي شيوعي في زيارة للحزب الشيوعي السوفييتي” فورا تفتح لنا طاولة منعزلة داخل ستائر مخصّصة لمثل حالاتنا.

اعترف اننا عشنا حياة مترفة جدا. المعاشات التي كنا نتلقاها (180 روبلاً للطالب في المدرسة الحزبية) لا تقل عن معاش طبيب اختصاصي وربما اكثر، الروبل الواحد للمقارنة كان يكفينا لتناول ثلاثة وجبات جيدة في اليوم الواحد في المطاعم الشعبية المعروفة باسم “ستالوفيا”، طبعا المطاعم الراقية السعر مضاعف او اكثر قليلا، لكن مع خدمة كاملة.

نشرت قصصي في جريدة “أنباء موسكو” بنسختها العربية التي كان يحررها الكاتب السوري سعيد حورانية وتلقيت اجرة مرتفعة جدا مقابل النص القصصي 700 روبل تقريبا.. تبين لي ان الأدباء السوفييت بألف خير.. يتلقى القاص ما يقارب الف روبل على القصة، يتلقى الشاعر كما قيل لي ما يقارب 70 كابيك (الروبل 100 كابيك) مقابل كل سطر شعري حتى لو كان من كلمة واحدة وهذه الأجرة تلقاها محمود درويش مقابل نشر قصيدة في جريدة “أنباء موسكو”.

المواصلات لا تشكل مشكلة في موسكو.. عدا المترو، هناك الباصات، الباصات الكهربائية، خطوط القطار الخفيف وسيارت الأجرة والأسعار بخسة جدا.

من الطرائف التي كان يتبادلها الناس في موسكو، حكاية عدم نجاح النوادي الليلية السوفيتية، المواطنون السوفييت لا يحضرون للنوادي الليلية رغم قاعاتها الرحبة وطعامها الجيد. برامجها الفنية لا تشدّ المواطن الموسكوفي. اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بحثت الموضوع، اتخذت قرارات هامة لتنشيط النوادي الليلية حتى لا يقول الغرب ان الاتحاد السوفييتي متخلّف عن باريس وفينا ولندن وبرلين ونيويورك في النوادي الليلية.

رغم ان القرارات المتخذة نُفِّذت الا ان عدد المترددين على النوادي تراجع!!

عقد اجتماع طارئ جديد لقادة الدولة والحزب. قدم التقرير وزير الثقافة، قال ان الموضوع غير مفهوم، على عكس الغرب الذي يشغل صبايا صغيرات يظهرن مفاتنهن فقط فتمتلئ نواديه لمشاهدة الفن الساقط، عروض اقرب للجنس الإباحي، نحن احضرنا للنوادي الليلية مغنيات لهن تاريخ مجيد في الثورة الإشتراكية، بعضهن عاصرن الرفيق لينين، عيّنّا لهنّ مساعدات ليساعدونهنّ في الوصول الى النوادي بسبب جيلهنّ المتقدم، بل وزودناهنّ بكراسي متحركة وسيارات نقل خاصة ورغم ذلك الوضع ساء ولم يتحسن!!

في حديث مع استاذي للاقتصاد السياسي، الذي كنت أشعر انه يعلم بشكل “هذا ما يقوله الكتاب” هل حقا يؤمن بما يعلمه لنا من نظريات لا تبدو لي متزنة؟ لا ارى انها تطبق في وطن الاشتراكية الأول؟ كنا نحتسي الفودكا ونأكل الكافيار وبعض النقانق الجيدة. اجاب “الان انا اؤمن بهذا” واشار الى كأسه، “غدا سأعود استاذا للاقتصاد”. صارحته باني شاهدت اوضاعا لم أتوقعها في الاتحاد السوفييتي. فقر حقيقي.. معاشات فقر لا تتجاوز 60 روبلا (الطالب من اسرائيل مثلا كان يتلقى 90 روبلا)، لم يجعلني اواصل، وضع يده على فمي وقال همسا “للحيطان آذان”.

بعد تلك السهرة صار معلما مختلفا، كان يقول لي ما هو المطلوب للإمتحان، ما هو الضروري لي كي افهم المادة بشكل حرّ وأطوّر فكري وصار يوجّهني في قراءاتي الفكرية، كانت كتابات المفكرين الماركسيين في الغرب على رأس المواضيع التي نصحني بقراءتها وأذكر منهم جيورجي لوكاتش، كارل كورش، انطونيو غرامشي، روجيه غارودي (قبل ان يسلم في ليبيا مقابل مليون دولار ويصبح “الشيخ رجاء”) وارنست بلوخ وغيرهم من الأسماء التي جعلتني افهم الفلسفة بوصفها مادة للتفكير والإبداع والتجديد وليس للانغلاق السلفي… وحثني على قراءة الفلسفة الغربية بمختلف مدارسها لأن الفلسفة لم تنتهي بماركس… حدث التحول الكبير في مفاهيمي الفلسفية في اواسط سنوات التسعين من القرن الماضي، بعد قراءة كتاب الفيلسوف النمساوي كارل بوبر “المجتمع المفتوح وأعداؤه” الذي يشمل النقد الأكثر دقة وحدة للقاعدة الفلسفية الماركسية.. وطبعا قراءات فلسفية متنوعة…

عشت فترة طويلة من الحوار الذاتي ومحاولة إغلاق الثقوب في قرص الجبنة السوفياتي.. رأيت ان الثقوب تزداد اتساعا. ايماني بجوهر الماركسية الانساني لم يتزعزع، هل هو تأثير الانتماء لحركة منذ بداية وعيي؟ نشأتُ على فكرة اني شيوعي دون ان أعي ماذا تعني الشيوعية، واوقفت دراستي في هندسة الماكينات لأدرس الفلسفة والاقتصاد الماركسيان. لم اكن اتخيل نفسي بدون معرفة ووعي نظري وفلسفي كامل. كان بيت والدي مقرا للنشاط السياسي والاجتماعات الشعبية في مواسم الانتخابات منذ ايام عصبة التحرر الوطني الفلسطيني (الحزب الشيوعي الفلسطيني العربي)، فكيف استطع ان افكر بوجود قصور في الفكر الذي سحرني قبل ان ادرسه؟ اعرف القيادات الطلائعية التي قدمت عمرها في خدمة شعبها، اختاروا حياة النضال الصعبة، ذاقوا طعم السجون والنفي والفقر ؟ هل يمكن ان يكونوا على خطأ؟

مع تقدمي في الدراسة وخاصة في موضوع الفلسفة، بدات اشبك الخيوط..

رأيت في البداية ان الخطأ ليس في الفكر والتأسيس النظري بل في جهاز الدولة الذي لا شيءَ ماركسياً فيه.. وفي الجمود العقائدي الذي يحصر نفسه بما كان صحيحا في زمن ماركس، دون فهم التحولات الجذرية في النظام الراسمالي، في الاقتصاد، في المجتمع، في تطور النظام الديمقراطي، تطور حقوق الانسان، تطور مستوى الحياة، عدم صحة نظرية لينين ان “الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية”، سقوط نظرية البروليتاريا التي كانت ظاهرة اوروبية لم تنتشر في اي مكان آخر خارج اوروبا، سقوط نظرية صراع الطبقات، تحول النضال الطبقي من نضال تناحري الى نضال حقوقي واجتماعي. أصلا لم تقم اية ثورة على قاعدة الصراع الطبقي. تفكك نظرية الحتمية التاريخية، تبين ان الراسمالية الجشعة تعرف كيف تطور دولها علميا، تكنولوجيا، اداريا وثقافيا وحقوقيا، لم يعد العامل رجل المطرقة، لم يعد الفلاح رجل المنجل، أصبح العامل مدير بنك، مدير شركة، طبيباً، مهندساً، باحث علوم وتقنيات، مختصّاً بالهايتك، محاضرا جامعيا، هل تنطبق صفة “البروليتاري” عليه؟ هل هم مستعدون لصراع طبقي تناحري؟ بعض “البروليتاريون” يربحون أكثر من أصحاب بعض المصانع. الفلاح أصبح مجهزا تكنولوجيا بكل ما يحتاجة لتطوير زراعته وجني محصولاته، الزراعة أصبحت صناعة متطورة بينما الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية ما زالوا يخيطون بالمسلة العتيقة. ما شاهدته في الكولوخوزات والسوفوخوزات مُذِلٌّ ومثيرٌ للألم والقلق على مصير الاشتراكية. كوسيجين رئيس الحكومة في ذلك الوقت (1968) طرح اصلاحا ثوريا للزراعة على اساس توزيع الأرض على الفلاحين وليس الملكية الجماعية او العمل الجماعي. رُفض مشروعه بحجة ان الغرب سيتهم الاتحاد السوفييتي بالعودة الى الرأسمالية في الزراعة مما يعني فشل الاشتراكية. ثبتت صحة افكار كوسيجين في تطبيقها في هنغاريا التي احدثت قفزة زراعية هائلة ولم تطبق في الاتحاد السوفييتي لأنها تتناقض مع نصوص غبية أُلصِقت بالماركسية وبتفكير سلفي لم يستوعب ان الفلسفة، مهما كانت عبقرية، ليست مقولات دينية ثابتة. للأسف لم استطع ترجمة مشاعري الى مواقف ورؤية نظرية جديدة الا بعد ان رأيت انهيار وتفكك حزبي الشيوعي في اسرائيل، القيادة الحزبية التي لم تعد تكليفا ومسؤولية، بل اصبحت مخترة ومكسبا شخصيا… وتحول التنظيم الى تنظيم شخصاني!!

قدمت استقالتي عام 1993 متأخرا ونادما اني لم انسحب قبل عقدين!!

ماركس لم يطرح رؤية للدولة الاشتراكية بنظرة تتجاوز دولة الكومونة (كومونة باريس)، حكومة عمالية ينتخب مندوبيها بالاقتراع العام ويمكن إسقاطهم بسحب الثقة منهم. اجورهم هي نفس اجور العمال وحسب ذاكرتي كان رأي ماركس حذف اصطلاح الدولة. لكن الكومونة الباريسية هي ظاهرة في مدينة واحدة وليس في كل فرنسا. ان هذا الشكل الجديد من الحكم كانت بيده السلطة التشريعية والتنفيذية، لم يحاول ماركس ان يكتشف اشكالاً جديدة لتنظيم ما يعرف بـ”الدولة” في المستقبل.

اذن ماركس لم يقدم اية رؤية لمفهوم الدولة في النظام الاشتركي من رؤيته ان الدولة في طريقها للاضمحلال بعد سقوط البرجوازية. الماركسية علمتنا ان الدولة هي جهاز للعنف الطبقي، بعد انتصار الطبقة العاملة وقمع او تصفية الطبقات القديمة، تنتهي ضرورة العنف الطبقي، بالتالي تنتهي ضرورة الدولة. فيما بعد طوّر السوفييت (لينين) نظرية ان بقاء الدولة هي ضرورة لقمع البرجوازية العالمية. اي ظلت الدولة كما هي في النظام الراسمالي، واقع الدولة الاشتراكية التي عرفناها كانت أسوأ من مثيلتها البرجوازية بغياب اي مفهوم ديمقراطي، قمع حرية الرأي وحق الاختلاف، الحزب هو المفكر والمقرر، لا قيمة للفرد (البرسيونال) القيمة للجماعة (شكليا فقط، عمليا لا قيمة الا للقيادات العليا، شيء شبيه بالسلفية الدينية الشيوخ يفتون، وغرابة افكارهم التي لا تليق حتى بالعصر الحجري هي السراط المستقيم). للمواطن خيار “ديموقراطي” وحيد ان يصوت لنفس الحزب.. لنفس الشخصيات، لنفس النظام، لنفس الفساد ولنفس طبقة الحكم المتسلطة.

لينين رأى الأمر من زاوية مختلفة عن ماركس، مجالها ليس هنا الآن، انما بودي التأكيد ان الماركسية افتقدت للمعرفة النظرية لمفهوم الدول الاشتركية، وما طبق عمليا هو مفهوم الدولة السائد في العالم البرجوازي بإضافة شعارات وتبريرات فارغة من المضمون… الدولة الاشتراكية كانت اكثر قمعا ليس للبرجوازية العالمية، انما لشعبها ولطبقتها العاملة!!

هذا الواقع انعكس بشكل سلبي ومؤلم في المجتمع الأشتراكي من تمييز وفجوات اجتماعية – اقتصادية بحيث تشكلت طبقة سائدة قمعية بمستوى لا يخجل اي نظام قمعي استبدادي فاسد!!

عندما صعد غورباتشوف توسّمت خيرا، رأيت في غورباتشوف ما حاول ان يكشفه لي بصمت استاذ الاقتصاد السياسي. لكن يبدو ان الثقوب أصبحت أكبر من كمية الجبنة.

رغم ذلك كان الحلم بمجتمع عادل ونظام مساواة انساني، اكبر من الواقع المؤلم الذي شاهدناه وبررناه بشكل صبياني متعصب ومنغلق عن رؤية الحقائق. عندما انهار الاتحاد السوفييتي قال قائد حزبي مرموق في اسرائيل، ان “السوفييت كانوا يكذبون علينا ونحن كنا نكذب عليكم، لأننا اعتقدنا ان هذا لمصلحة الجماهير!!”

اي ان اليسار الماركسي كان يمارس الكذب على جماهيره.. ويكذب على ماركس وهو في قبره؟!

اخبار الصحافة السوفياتية دائما قديمة، نشر الأخبار يتأخر بسبب الرقابة القوية على الصحافة وضرورة تزييف الحقائق للشعب السوفييتي. عملية تضليل مبرمجة لا تفسير آخر لها. اصبح لدي شكٌّ كبير بكل المعطيات الرسمية التي تنشر. صحافة الاتحاد السوفييتي لها صوت واحد ولون واحد، مجندة تثير امتعاض القارئ السوفييتي وسخريته. هذا ساهم بخلق الطرائف التي تسخر من واقع الصحافة.. من اجمل تلك الطرف ان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي قلق جدا لأن “البي بي سي” والوكالات الأجنبية تنشر أخباراً عن أحداث سوفياتية قبل ان يُقِرَّ نشرها وصيغتها المكتب السياسي للحزب. الرفيق بريجينيف (كان الأمين العام للحزب الشيوعي، عمليا أعلى سلطة في الدولة، يمكن القول “آية الله الرفيق بريجينيف”) دعا الى اجتماع أعلن فيه ان “احد اعضاء المكتب السياسي يتجسّس لحساب البي بي سي وينقل أخبارنا قبل ان تنشرها صحافتنا”.

من هو الجاسوس يا رفاق؟ كان الصمت شاملا. قال “لن نغادر الاجتماع قبل ان نكشف عن الجاسوس”. حاول البعض ان يقول ان الجاسوس ربما من هيئات حزبية ادنى؟ رفض بريجينيف الأمر. سوسولوف شعر بأن مثانته لم تعد تتحمل الضغط. طلب الاذن للخروج الى الحمام. بالطبع هناك حدث جديد ستذهب يا سوسولوف لتبليغ الغرب والاذاعة البريطانية به. فتّشوا الحمامات. لم يجدوا وسيلة اتصال بالامبريالية، عملها سوسولوف ببنطاله. عجوز آخر من قادة الحزب شعر ايضا ان الوضع بات حرجا، لم يجرؤ على طلب الاذن.. أفلتها في بنطاله، هكذا مضى الوقت والرفاق العواجيز اعضاء المكتب السياسي يرطبون بناطيلهم… خوفا من اتهامهم بالعلاقة مع الاعلام الامبريالي!!

بريجينيف شعر ان المسألة لديه ايضا أصبحت غير محمولة، قال لهم “تفضلوا يبدو ان الجاسوس ليس من المكتب السياسي الاجتماع انتهى”. رد سوسولوف بغضب “هل ستذهب لابلاغ الغرب عن آخر أخبارنا؟” طبعا الأكثرية مع سوسولوف بسبب البنطلونات التي رطبتها مثاناتهم. بريجينيف حاول ان يقنعهم ان الجاسوس قد يكون حقا من هيئة ادنى. “ابداً يجب ان ننتظر..”!! أصروا. الضيق وصل أقصاه لدى الرفيق بريجينيف.. فجأة حضرت مساعدته الليلية تحمل له وعاء لتفريغ البول.

سألها باستغراب “كيف عرفت اني بحاجة للتبويل؟” ردّت المساعدة “ايها الرفيق بريجينيف قبل قليل سمعت خبرا من البي بي سي يقول ان الرفيق بريجينيف في اجتماع مغلق وانه بحاجة ماسة ليبول!!”

زرت ضريح ابنة عم لي هي البروفسور كلتوم عودة فاسيليفا، في مقبرة للعظماء في موسكو، وبالمناسبة هي اول امرأة عربية تحصل على لقب بروفسور، وذلك بفترة حكم بريجينيف. وقد تعلمت بصباها بالمادرس الروسية في فلسطين وبدأت تعمل كمعلمة بمدرسة بين جالا، تعرفت في بداية القرن العشرين على طبيب روسي كان مشرفا صحيا بالمدرسة الروسية في بيت جالا وسافرا عام 1914الى روسيا، وقد توفي بمرض التيفوئيد اثناء الحرب الأهلية بعد ثورة اكتوبر..

في الحرب لاقامة دولة اسرائيل احتجت برسالة الى ستالين على دعمه للصهيونية التي ترتكب المذابح وتشرد مئات الاف الفلسطينيين وتهدم مئات القرى الفلسطينية. فاعتقلت، ولولا تدخل زملائها المستشرقين السوفييت شارحين للسلطة السوفييتية انها فلسطينية الأصل ومؤلفة كتب التعليم العربية لطلاب الجامعة ومؤسسة كرسي اللهجات في جامعة موسكو، لجرى اعدامها او نفيها، فحررت تحت شروط مقيدة، خاصة ايضا وان زوج ابنتها كان ضابطا بحريا مرموقا من قادة الأسطول السوفييتي في البلطيق، ويحمل وسام بطل الاتحاد السوفييتي.

زرنا اذربيجان للإطلاع على ما انجزته الاشتراكية لشعوب الشرق. طبيعة ساحرة. اخذونا الى كولوخوز نسيت اسمه، تفاجأت ان الشوارع الداخلية أزفت من الزفت.. شوارع ترابية تصبح وحولا في الشتاء. لديهم نادٍ لا بأس به.. عبارة عن قاعة مقامة من حيطان جاهزة، الأهم ان الفتيات اللواتي كن في استقبالنا يخطفن العقل، خاصة عقول ومشاعر شباب في العشرين كما كنا، طبعا رقصنا، تعانقنا وقبّلنا.. تواعدنا لليوم التالي لنعمل معهن (طبعا مع اهل الكولوخوز) في سبت العمل الشيوعي التطوعي. كان يوم عمل في الحقل، تناولنا الطعام وعصرا كان لنا اجتماع سياسي في النادي. كُلِّفتُ بالحديث باسم وفد رفاق الحزب الشيوعي الاسرائيلي. كان معنا رفاق أتراك ورفاق من امريكا اللاتينية. كلهم ألقوا خطابات تافهة وشعارات تافهة.. هاجموا الاستعمار “ونعلوا ابو ابوه”. مدحوا النظام الاشتراكي الذي احدث نهضة عظيمة لأبناء الشرق، كان امين عام الحزب في اذربيجان علييف (اعتقد انه صار زعيما لأذربيجان بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وورثه ابنه الزعيم اليوم لأذربيجان) يجلس على المنصة، عندما يصفق تضج القاعة بالتصفيق. شعرت اني في سيرك، او مسرحية هزلية، الحضور لا يعرف عما يدور الحديث. لا يعرف ما هو الواقع التركي، لا يعرف ما هي الحال في امريكا اللاتينية ولا يعرف معاناة الشعب الفلسطيني واحتلال فلسطين كلها واراض عربية اخرى.. جاء دوري للحديث. قررت ان الغي خطابي الجاهز واتحدث مباشرة عن انطباعاتي. تحدثت عن اذربيجان التي تنهض وتتطور وهذه حقيقة، عن زيارتنا للصخور السوداء في عمق بحر قزوين حيث اقيمت مدينة عائمة لاستخراج النفط يسكنها 5 الاف انسان فيها مطاعم ومسارح وسينما. عن طبيعة بلادهم الجميلة.. وتمنيت ان ازور كولوخوزهم مرة أخرى وان تكون قد شُقَّت لديهم طرقٌ حديثة. شكرتهم على الضيافة، وعلى “اعتناء” صبايا الكولوخوز بنا وعن الأمسية الرائعة التي قضيناها في ضيافتهم.. وعن استعدادنا لتلبية دعوتهم لسبت عمل شيوعي جديد وتركت الامبريالية والصهيونية في حالهم وهتفت بحياة الاتحاد السوفييتي!!

لم اعرف ان كلمتي ستثير غضب ادارة المعهد.. وان تصرفي لا يخدم الأهداف الشيوعية!!

عدنا الى موسكو ووجدت ان خطابي اثار غضب ادارة المعهد، نصحني استاذ الاقتصاد السياسي ان اقدم انتقادا ذاتيا مكتوبا قبل ان يتصرفوا بغباء وربما اطرد من المعهد. وعلمت انهم ابلغوا الرفيق المسؤول عنا وهو صحفي يهودي مقيم في موسكو كنت بعلاقات جيدة معه. وكذلك عرف الرفيق صليبا خنيس بزلتي (او جريمتي) تكلم معي اثناء زيارته لموسكة بنفس الاسبوع ضاحكا من ضيق افاقهم. ولم يقل شيئا خاصا، بل قدم انقادا ذاتيا هذا ما يفهمونه.

كان ذلك بداية تنشيط تفكيري النقدي لدراستي الفلسفية والاقتصادية. اصبح الشك ضمن العوامل التي تشغلني ولكني كنت على ثقة ان حزبنا بسبب ظروفه النضالية لا يقيم وزنا لمثل هذه التفاهات. لكن ما جعلني استقيل من صفوفه لم تكن التفاهات، بل العجز عن صيانة قراراته، وبدابة تحول الحزب الى حارة “كل مين ايده اله”، حزب الشخص الواحد او الإله الواحد.

حدثني استاذ الاقتصاد السياسي عندما لمس إصراري على فهم الحقائق وليس الدعاية، بقصة رمزية، لكنه رفض الحديث الا عندما خرجنا لنتمشى في شارع جميل قرب سينما لينينغراد في موسكو. قال ان “لينين عندما توفي تقرر في يوم الحساب انه كافر وان مكانه الطبيعي في جهنم”. وصل جهنم، لكنه لم يجلس مكتوف اليدين بدأ بتنظيم خلية حزبية ونقابة عمال، أعلنوا إضرابا عقب إضراب، قدموا طلبات عديدة لعزرائيل وهبت المظاهرات واحتار عزرائيل في كيفية اعادة سيطرته، الغى التنظيم الشيوعي ولكن الشيوعيين انتقلوا للعمل السري، توجه لمقابلة الله وطلب المعونة لإعادة السيطرة على جهنم، قالوا له في السماء احضر لينين ليقيم عندنا في الحجز لشهر حتى تعيد ضبط جهنم. هكذا كان، نقل لينين الى السماء. بعد شهر ذهب لاستعادته، قالوا له “اتركه شهرا آخر، تخلص من التمرد في جهنم اولا”.. مضى شهر آخر توجه عزرائيل لاستعادة لينين. كان الحاجب على الباب، قال له “الله مشغول الآن”، بعد اصرار عزرائيل دخل الحاجب ليسال الله “ما العمل؟”. قال له “قل لعزرائيل ان ينصرف لدي اجتماع هام للجنة المركزية للحزب”!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة