الذي يصون عرض الفرد والدولة والمجتمع يصون مال الفرد والدولة والمجتمع – معمر حبار
تاريخ النشر: 09/05/21 | 15:421. قرأ إمام صلاة التراويح منذ يومين قوله تعالى: “قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ”، سورة سيّدنا يوسف – الآية 77 ، فكانت هذه القراءة:
2. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا سيّدنا يوسف عليه السّلام لم يردّ التّهمة عن نفسه ويدافع عنها كما فعل حين اتّهمته زوجة العزيز وقال حينها: “قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ”، يوسف – الآية 26 “، وبقي يدافع عن نفسه حتّى بعد أن طلبه الملك وأراد أن يطلق سراحه من السجن، فأرسل له عبر مبعوثه الرسمي أن لاأخرج من السجن حتّى تظهر براءتي ” وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ”، يوسف – الآية 50. وفعلا استجاب الملك لطلبه وأنشأ محكمة تحت إشرافه وأعلنت براءته علانية وعلى لسان من اتّهموه. وقد شرحنا ذلك بالتّفصيل في مقالنا[1]، والسّبب -في تقديري- يعود للتّالي:
3. لم يدافع عن نفسه في حالة إخوته الذين اتّهموه بالسّرقة، لأنّه تعامل معهم من باب أنّهم إخوة له فتجاوز عن تهمتهم، ثمّ إنّهم يعيشون حالة اقتصادية مزرية وصلت لحدّ “فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ”، يوسف – الآية 88، بالإضافة إلى كونهم ضيوفا عنده، ومحتاجين لصدقته فتطلّب الأمر إذن عدم الرّدّ عليهم والاكتفاء بالحسرة في الداخل ” فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ”، ثمّ إنّه في هذه الحالة صاحب القوّة، والسّلطان، والأمر، والنهي، وخزائن مصر بين يديه فلزم الصّمت ولم يرد من باب العفو عند المقدرة، واحتراما للإخوة، ومراعاة -وهذا هو المهم في تقديري- لمشاعر الأب سيّدنا يعقوب عليه السّلام الذي ” وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ”، يوسف – الآية 84 من فراق ابنه سيّدنا يوسف عليه السّلام منذ 40 سنة.
4. تدخل سيّدنا يوسف عليه السّلام في حالة زوجة العزيز ليردّ عن نفسه التّهمة بقوّة: ” قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا”، يوسف – الآية 26، لأنّ الأمر -في تقديري- يتجاوز الحالة الفردية إلى العزيز وزوج العزيز “الذي أكرمه وأحسن مثواه”، أي إلى سنوات التي قضاها في القصر معزّزا مكرّما. فهو في هذه الحالة قبل أن يدافع عن نفسه كان يردّ الجميل الذي لقيه في القصر وعلى يد العزيز، وما كان له أن يخون من أحسن رعايته، وأطعمه، وسقاه، وجعله في منزلة الابن وفضّله على كثير من المقرّبين إليه. فالدفاع هنا هو إقرار بالكرم، والوفاء، والأمانة، والصدق تجاه السقف الذي حماه، والأرض التي رعته، والبيت الذي وجد فيه كلّ الرعاية والحماية، والدولة التي رفعته ومنحته مالم يحلم به السّادة والقادة يومها. فهو الوفاء إذن لصاحب البيت، والدولة، والمجتمع ولذلك أصرّ على أن يدافع عن نفسه وتظهر براءته علانية وعلى لسان من اتّهموه أمام الملك والمجتمع وأصحاب البيت. وهو بحرصه على إظهار براءته يريد أن يقول: إنّ الذي بين يديك لم يخن أسرة أحسنت إليه، ولم يخن دولة أحسنت إليه، ولم يخن مجتمعا أحسن إليه وهو الذي تحمّل السجن ظلما ولسنوات وفاء للأسرة، والدولة، والمجتمع.
5. سيّدنا يوسف عليه السّلام الذي رفض إغراءات زوجة العزيز وتهديداتها صونا لعرض العزيز وهو غائب عنه، هو نفسه الذي صان خزينة مصر الضخمة وهي بين يديه، وقد وهبه الملك السلطة المطلقة في تسيير الأزمة، والخزينة. ومن هنا كانت عظمة سيّدنا يوسف عليه السّلام.
6. تكمن عظمة الملك في كونه أعاد البراءة لسيّدنا يوسف عليه السّلام ولم يستسلم للتّهم التي ألصقت به ظلما. وفي الوقت نفسه لم يتدخل في ردّ تهمة إخوة سيّدنا يوسف عليه السّلام حين اتّهموه بقولهم: “قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ”، لأنّه -في تقديري- هي سخافة وحماقة قبل أن تكون تهمة، وقد رأى الملك رأي العين أمانة، وصدق، ووفاء، وعفّة، وطهارة سيّدنا يوسف عليه السّلام وهو يدير أزمة الغذاء باحترافية عالية، ومهارة خارقة، وأمانة واضحة مبهرة. بالإضافة إلى كون المسألة -في تقديري- مسألة عائلية بين أخ وإخوته، ولا محالة فقد أخبره سيّدنا يوسف عليه السّلام بما حدث له من طرف إخوته، فالملك يعرف تاريخهم في الكيد لأخيهم ولذلك التزم الصّمت، ولم يفتح تحقيقا كما فتح تحقيقا رئاسيا بشأن تهمة زوجة العزيز التي تمسّ البيت، والدولة والمجتمع.
7. قلتها وأعيدها: منح الملك صلاحيات الملك لسيّدنا يوسف عليه السّلام بتسيير أخطر أزمة تمرّ بها الدولة والمجتمع وهي أزمة الغذاء والمجاعة لسببين: الأوّل: مهارته، وتخصّصه، وتمكّنه، واحترافيته العالية في تسيير الأزمة، وخزينة الدولة والمجتمع، وقد أظهر براعة لامثيل لها اعترف بها الجميع. ثانيا: أخلاقه العالية، وأمانته، وصدقه، ووفاءه للعزيز وأسرته وللدولة والمجتمع. مايعني أنّ الذي يصون عرض الفرد والدولة والمجتمع لامحالة سيصون مال الفرد وخزينة الدولة والمجتمع. وعظمة سيّدنا يوسف عليه السّلام في كونه جمع بين طهر اليد وعفّة النفس، فلم يمسّ عرضا ولا مالا، ونزّه نفسه الطاهرة عن مسّ العرض والمال.
[1] للزيادة، راجع من فضلك مقالنا بعنوان: “حاكم عادل فاعل و عالم متخصّص صاحب أخلاق عالية”، وبتاريخ: الخميس 24 رمضان 1442 هـ الموافق لـ 6 ماي2021.—
الشلف – الجزائر
معمر حبار