أبكاني حتى الضحك..
تاريخ النشر: 21/05/21 | 12:29د. حاتم عيد خوري
جاري شمعون أو أبو عزرا كما يحلو له أن أناديه، هو يهودي من اصول عراقية، ولِد في البصرة في اواسط سنوات الثلاثين من القرن الماضي، وغادرها شابا في اواخر العقد الثاني من عمره، فبقي محتفظا بلغته العربية ولهجته العراقية، وحريصا على استعمالها كلما تهيّـأت له فرصةٌ مؤاتية، وذلك على عكس معظم اليهود الشرقيين الذين تنكّروا للغتهم العربية مستبدلين إيّاها بلغةٍ عبرية لم يُحسنوا استعمالَها آنذاك، فباتوا كالغراب الذي اراد، كما قال المثل الشعبي، ان يقلّد الحجلةَ في مشيتها، فنسيَ مشيتَه قبل ان يتعلم مشية الحجلة..
وهكذا ما أن انتقلتُ قبل عدة سنوات، للسكن في شقتي الجديدة في منطقة الكرمل الفرنسي في حيفا، ودُعيت الى المشاركة في اللقاء العام السنوي لسكان العمارة (البرج) حتى بادر شمعون الى الحديث معي باللغة العربية.. كنتُ التقيه بين فينة واخرى في ردهة العمارة او في مرأب السيارات او في المصعد، فنتبادل التحية وبعض الجمل المقتضبة.. إستمرَّ الحال على هذا المنوال بضع سنوات. إلا أنَّ إصرار الجيران في العمارة، ومعظمهم من اليهود، على أن انضمَّ الى لجنة الدار التي ترعى شؤون العمارة تطوعا، وتشرف على تسيير امورها المشتركة بما في ذلك الاشراف على انتظام عمل المنظومات المختلفة كشبكة الكهرباء المحلية والماء والاطفاء والجنائن وغيرها، اضطرّني الى لقاءات عملٍ مكثفة مع اعضاء اللجنة الآخَرين ومنهم شمعون أبو عزرا..
تعدّدُ اللقاءاتِ مع اعضاء اللجنة عمّقَ معرفتي بهم وخصوصا مع شمعون ، ممّا وسّع دائرة حديثي معه ، فتطرّقنا لاول مرة لإمور سياسية سرعان ما كَشفت لي هُويتَه اليمينية وانتماءَه لحزب الليكود وتعصّبَه لزعيمه بنيامين نتنياهو، كما انكشفت لكلٍ منّا الهوة العميقة بين موقفينا السياسيين، إلا أنّ هذا لم يردعْنا ابدا عن استمرار التعاون فيما بيننا لما فيه مصلحة العمارة (البرج)، والتداول ايضا بالقضايا اليومية إجتماعيةً كانت أم سياسيةً وغيرها، التي عشناها كمواطنين وما زلنا نعيشها، سيما في السنتين الاخيرتين اللتين حفلتا بعدم استقرار سياسيّ إستوجبَ حتى الان اربعَ معارك انتخابية في غضون سنتين .. ناهيك عن جائحة الكورونا وتداعياتها..
كان لقائي الاخير بشمعون قبل ايام قليلة وتحديدا غداة فشل نتنياهو بمهمة تاليف حكومة جديدة، وإعادة التكليف الى رئيس الدولة، وتزامنا مع قرار وزارة المالية بالغاء ملاكات عمل ست مائة من الاطباء الذين كان قد تم تجنيدُهم اثناء جائحة الكورونا ممّا يستلزم تسريحهم من العمل في مرافق طبيةٍ كانت وما زالت بامسّ الحاجة اليهم.. رأيتُ شمعون قلقا. سمعتُه يتأفّف مما آلت اليه اوضاعُ البلاد أمنيّا وصحيا وتعليميا واقتصاديا واجتماعيا أيضا، وبدا مهموما وكأنه هو من فشل في مهمة تاليف الحكومة، ومُحرَجًا أمامي كمَن أيقن اخيرا بصحة ما قيل له مرارا وتكرارا عن شخصية نتنياهو الذي ما زال يتربع على كرسي السلطة منذ اكثر من 12 سنة، وبالتالي فهو المسؤول عمّا آلت اليه الاوضاع مؤخرا من تحرش بالشباب المقديسيين واستفزاز لمشاعر المصلّين واعتداء صارخ على المقدسات والاملاك وتدهورٍ في العلاقات بين المواطنين العرب واليهود في المدن المختلطة وغيرها، ناهيك عمّا اقترفه مرارا وتكرارا من نكثٍ بوعودِه ونقضٍ لتعهداته أفقداه مصداقيتَه، ومن تمادٍ في تحريضٍ ضدّ المواطنين العرب فضحَ عنصريتَه، وتورطٍ في فسادٍ اوقعَه في شباك المحاكم واجلسه في قفص الاتهام، وتطاولٍ على آخِر ما تبقى من عدالة القضاء..
حدّقتُ في وجه شمعون. حاولتُ قراءة تعابير وجهه ولغة جسده. بقيتُ ساكتا وكأني أستحثُّه لمتابعة الحديث والإفصاح عمّا بداخله، فسمعتُه يقول: “لن تقوم حكومةٌ جديدة وإنْ قامت فلن تصمد، وبالتالي فنحن حتما مُقبلون على انتخاباتٍ جديدة، انتخابات خامسة..”. قلتُ له على الفور ببراءة مُفتَعَلة: “طيّب، ولمن ستصوّت هذه المرة؟”، فاجابني دونما تردد: “طبعا لنتنياهو”.
أدركتُ للتوّ أنني راهنتُ على قضيةٍ خاسرة إنْ لم اعالجها بحكمة فقد تسيء الى عملنا التطوعي المشترك في لجنة العمارة، فقابلتُ اجابتَه بضحكة مجلجلة قائلا له: “إجابتُك جعلتني اتذكر نادرة حنا وطنوس”:
يُروى انه قبيل قيام مجلس النواب اللبناني في النصف الثاني من القرن الماضي، بانتخاب رئيس جمهورية جديد، إحتدم النقاشُ ليس فقط بين النواب والكتل البرلمانية والاحزاب السياسية والمرجعيات الدينية المختلفة، إنما تغلغل ايضا في الاوساط الشعبية اللبنانية، فاشغل بالَ الافراد ايضا ومنهم حنا وطنوس اللذان كانا يسكنان في بيتين متجاورين في معلَّقة زحلة في محافظة البقاع، فاشعلت بينهما خلافا كادَ يتفاقمُ الى تشابكٍ بالايدي والعصي، لولا علاقات الجيرة الطيبة التي جمعت بينهما منذ طفولتهما. كان حنا متعصّبًا إلى احد مرشحيّ الرئاسة بينما كان طنوس مواليا للمرشح الاخر. اصبح موضوع الزعيمين المرشَّحَين شغلَهما الشاغل.. فما أن يلتقيا في ساعات المساء كما اعتادا على امتداد عشرات السنين، حول طاولة الزهر او الشدة، حتى يتوقفا عن اللعب وينصرفا الى نقاش يبدأ هادئا ثم لا يلبث ان يحتدّ قليلا عندما ياخذ كل منهما بابراز فضائل زعيمه و”خدماته وتضحياته في سبيل الوطن..”. ولكن عندما حاول طنوس ان يتعرّض لشخص الزعيم الاخر وان يطعن بنزاهته متّهمًا إيّاه بالفساد والرشوة وخيانة الامانة، جُنَّ حنا وانتصب واقفا وهو يصرخ في وجه طنوس معترضا على حديثه، ومؤكدا لمن حولهما من الناس، ان طنوس قد تخطّى خطّا احمر وانه قد اصابه في صميمه.. أُحْرِجَ طنوس فاعتذرَ على مضضٍ لكنّه ما لبث أن بعث الى حنا مساء اليوم التالي رسالة يقول فيها:
خبّرني كيفو زعيمك/ بعدو عايش في صميمك ؟،
هيذا اللي بتحلف بحياتو/ وكرمالو إنبحّوا زلاعيمك،
إذا بعدو الخط الأحمر/ يعني مِنّكْ ما في أحْمَر،
إن شالله بتْجوع وتفقر/ وبتموتْ والله لا يعينك.
ضحكَ شمعون على النادرة وضحكتُ أنا على وضعٍ بات مُبكِيًا حتى الضحك..
14/5/2021