الروائية فاطمة ذياب .. رسولة الأعماق التي تكتب معاناتها وأحلامها
تاريخ النشر: 07/06/21 | 8:55شاكر فريد حسن
فاطمة ذياب قاصة وروائية تتميز بالشجاعة والجرأة الكتابية، وقامة ابداعية تحتل مكانة وموقعاً متقدماً على خريطة الأدب الروائي والقصصي في الداخل الفلسطيني، عرفتها منذ ان صدرت روايتها الأولى ” رحلة في قطار الماضي ” التي تصور الواقع وتقدم صورة حقيقية لحياة المرأة العربية، في ظل مجتمع تقليدي محافظ لا يرى فيها سوى حيوان جنسي، وللفراش والمطبخ، والتي اثارت في حينه عاصفة من ردود الفعل المتباينة، فبوركت من قبل المثقفين ورجالات الادب والثقافة والابداع، وهوجمت من المجتمع المحافظ، وكان والدها مع من هاجم وصرخ وتوعد، اذ ان مضمون الرواية لم يكن مألوفًا ولا حتى في أسوأ أحلام والدها المختار الذي قال :” هذا ليس أدبًا ، بل قلة أدب”، ووصل الأمر الى حد من طالب بإحراق الرواية ومعاقبة صاحبتها.
وانقطعت فاطمة ذياب حوالي عقد من الزمن عن الكتابة، ولكنها عادت إلى القلم والكتابة، وكما قالت ما احلى الرجوع اليه قلمي ومداد حبره.
رأت فاطمة ذياب نور الحياة في طمرة الجليلية، وعن ولادتها ونفسها تقول في احد المقابلات التي اجريت معها: ” في قرية لا تشبه القرى، وفصل لا يشابه الفصول، ويوم لا يشبه الايام ٢٧ / ٩/ ١٩٥، كانت القلوب تلهث بالدعاء ( يا ربي صبي) ارادوني اخًا لوحيدهم بعد ثلاث من الاناث، وجئت اختًا، وليست كأية اخت، وظل رحم أمي ينزف اربعين يومًا حزنًا وتأثرًا، وحرفتي في اللغة تعلن ميلادي كما اراد الله لا كما ارادوا، ومن ذلك اليوم بدأت مسيرة الايام والعمر في محطات نفقية لولبية لها اول من غير آخر، وعام ١٩٥، يأتي الفرج وتعم الفرحة وتقام الحفلة الكبرى والمهاهاة، يا ناس صلوا عالنبي / مرة المختار جابت صبي.
وتتابع فاطمة ذياب حديثها قائلة : ” كانت مدينة عكا بأزقتها واسوارها وناسها ملهاة لي ومدرسة . تتلمذت مع الغوارنة ألوان أخرى من العنترية والشقاوة كالاعتداء على ممتلكات الغير، السرقة التحدي والرقص على انغام الطبلة وهز البطن، وكل ما يحظر وما لا يحظر ببال احد، وقد جسدت في رواية ”الخيط والطزيز” بعضًا من ذلك الماضي المتجذر بأعماقي، ففي بيت ملاصق لبيت ابي كانت تسكن جدتي زليخة، امرأة غورانية من غوارنة عكا، كانت تساعد امي في البيت والحقل مقابل لقمة العيش ، وفي نهاية كل اسبوع وفي العطل المدرسية، كانت تصحبني ليرتاح أهلي من شقاوتي، وهكذا تكونت لي علاقات مع ابناء جلدتي ، فأخذت عنهم العناد والتحدي والجرأة، وعندما كنت أعود الى القرية استعرض امام الحضور من ديوان الوالد او ركن النساء الواناً من الفنون العكاوية من رقص وغناء وهز بطن وتهريج وتقليد ،تتبعني العقول والقلوب الضاحكة، وتضج في رأسي ” حرام يا رب لو كانت صبي ” ؟! ولم تكن وكانت”.
عملت فاطمة ذياب في الصحافة في احدى الصحف الاسبوعية العام ١٩٩٤ب وكان لها زاوية ثابتة تحت عنوان ” مذكرات زوجة ” استبدلتها بعد ذلك ( بحروف ليلكية وأخرى”، الى جانب كتابتها الكثير من المقالات والمقابلات والاهتمامات الصحفية، التي تميزت بالجرأة والشجاعة، ثم كانت لها مساهمات في صحيفتي” بانوراما” و” فصل المقال ”.
استطاعت فاطمة ذياب ان تشق طريقها بقامة عالية، وبخطوات ثابتة وراسخة في عالم الأدب، وحين نقرأ رواياتها نتفاعل مع كل صفحاتها، مع احداثها وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، وتطور الاحداث فيها.
إنها في طليعة النخبة الممتازة من المبدعات الفلسطينيات في مجال القص الروائي في بلادنا ، ووجه ادبي متألق ومعبر وجميل، وقد لفتت الانظار بأسلوبها الشائق الممتع، وفكرها المتحرر المستنير، ونظرتها الواضحة للأشياء والامور، وبسعة افقها والمامها القوي بشتى نواحي الادب والمعرفة ووفرة الانتاج والعطاء والابداع القصصي والروائي والادبي، فكأن ينابيعها الثرة التي لا تمل من العطاء والتدفق، وخواطرها الشعرية والنثرية والادبية لا تسأم من التحليق في الافاق البعيدة، والغوص في اعماق المجتمع واعماق الحياة تستخرج منها الفرائد واللآلئ، وهي احدى اركان القص الروائي الابداعي المتأصل في ادبنا وحركتنا الثقافية المحلية، لم تهمل ناحية من النواحي الاجتماعية دون ان تعالجها، وانغمست أعمالها القصصية والروائية في واقعنا المعيش، ونجحت بأسلوبها السردي والحواري السهل ان تدخل الأفكار في القلوب من اقصر الطرق.
وهي تعتبر ان الاديب والمبدع الحق والمثمر ان يكون وليد عصره وابن بيئته، وبغير ذلك يصبح الادب او الفن شيئًا ضعيف الاثر ضئيل القدر بعيدًا عن قضايا العصر منعزلًا عن مصائر البشر ، فالأدب والفن يجب أن يتناولان شؤون البيتة والمكان والزمن، وقضايا الناس والمجتمع قبل كل شيء.
وتعتبر السهولة في أسلوب فاطمة ذياب ميزة ادبية لها شأنها، وتشف عما وراءها من سمو الموهبة، وعمق الفكرة، ورهافة الحس وتوثب الخيال، وبراعة في الاداء، وسهولة العبارة من المعنى النفيس الذي ترمي اليه، وذلك تجربة للحياة وابنائها، من امرأة مجربة عاشت وعايشت القهر والظلم المجتمعي وعانت الكثير، واختبرت الناس في شتى مظاهرهم، وتقلبهم بين السعادة والشقاء والاحباط والرجاء، وتزودت بذلك كله لغاية انسانية سامية هي تركيز مفهوم الحقيقة التي تؤمن بها، وهي : الله، الانسانية، المحبة، الخير، الجمال، والقيم العظيمة الراقية.
ترى فاطمة ذياب أن المرأة المتحررة هي ذات الفكر الخاص، التي تواجه حياتها بالطريقة التي تراها صحيحة من خلال نظراتها الخاصة، والتي تعمل من أجل مبادئها التي تؤمن بها حتى لو كانت مخالفة للقاموس العام ولمفهوم المجتمع السائد، لأن المجتمع قيمة تتغير وتطور، والمرأة المتحررة لا تنظر حتى يقوم الآخرون بتغيير مفاهيم المجتمع الخاطئة نيابة عنها، فهي تمتلك الشجاعة الكافية لتقوم بذلك التغيير بنفسها.
ومن الممكن جداً أن تكون المرأة متحررة وفي الوقت نفسه محافظة على القيم والتقاليد التي ترى انها صحيحة وأصيلة .
وفي كتاباتها لا تفكر فاطمة ذياب اذا كان ما تكتبه متفقًا مع مفاهيم المجتمع أم لا، ولكن هنالك قيماً ثابتة، وقيمًا قابلة للتعديل مثل حق كل فتاة في اختيار شريك حياتها واختيار دراستها، ونوع عملها، ولكن ذلك يتطلب كثيرًا من الوعي والنضج العاطفي والعقلي للفتاة، وهي تعتقد أننا في مجتمعاتنا الشرقية بحاجة ملحة كي ننظر للمرأة باحترام أكثر، فكلما اعطيناها الثقة ورفعنا الوصاية عنها ازداد عطاؤها لنا وبهرتنا اكثر. فالمرأة الشرقية العصرية تبحث عن المشاركة، اما الوصاية فيجب ان تنتهي . لا يجب أن يكون للمرأة مكان فسيح في عالم الكتابة والممارسة العملية لمختلف مجالات الحياة .
وفي كل رواياتها تقدم فاطمة ذياب سردًا انثويًا وحوارًا ايقاعيًا مركزيًا مع حفاظها على تسلسل الاحداث، فيما تتداخل وتتشابك التداعيات في مونولوجات ذاتية ما بين الماضي والحاضر والمستقبل .
وبلغتها السلسة الجميلة المنسابة الأخاذة تأخذنا فاطمة في رحلة عشق في عالمها القصصي والروائي، الزاخر بالهم الانساني والهموم الذاتية، كونها امرأة مستلبة ومظلومة تعيش في مجتمع يمارس القهر ضد المرأة ويكبت مشاعرها، وتقدم لنا صورة لنموذج امرأة في قمة معاناتها وهمومها وخصوصياتها الذاتية .
فاطمة ذياب تنشد المحبة والصفاء، والامن والسلامة للناس أجمعين، وتلك رسالة الادب، إن لم تطلب الخير وتكافح الشر، وتقف في معبد الحق والجمال، فتتلو الآيات والروائع وتبصر ما لم يبصره الناس فتحاول الارتفاع والسمو بهم لمستوى الكريم. فهي تؤمن بحرية الانسان المطلقة الشاملة اينما كان وكيفما اتجه، وطلبتها للمرأة، التي علتها التقاليد فجعلت منها دمية تعبث فيها الأيدي، وسلعة تباع وتشترى، وللكلمة ارادت لها ان تنطلق صادقة مخلصة من قلوب اصحابها فلا تسجد على الاعتاب، وتدعو لتعفير الجباه وتجوز بالبيان غايته الاساسية النبيلة، وهي التعبير الصادق، والسير بموكب الحياة للغاية المثلى، التي تبني ولا تهدم، وترفع ولا تضع، وللدين تريد له ان يكون الامر بالمعروف، الناهي عن المنكر، الصلة التي تربط المجتمع وتبشره للأهداف السامية، بعيداً عن الاستغلال والاضطهاد والمفاخرة، والمباهاة لا يكون وسيلة لنفوذ الرؤساء ومتاجريهم ولا سلاحًا يستعمله من يشاء للكسب والتجارة، يجمع ولا يفرق، فالخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله
تتميز فاطمة ذياب بصفاء الذهن، وبهاء الديباجة، وعمق الفكرة، والبحث عن الجواهر المتألقة في النفس البشرية، وهذا الأسلوب لا يجيده غير الموهوبين الذين يحملون رسالة روحية يؤمنون بها، وتبرز من خلال كتاباتهم، وأي توفيق وراء هذا، تطمح له موهبة ابداعية تعمل لخير الانسان وفلاحه.
فاطمة ذياب ترقب وتتأمل، وتصيح سمعًا للنداء المجهول فيتملكها الشوق والحنين، لم تفرض رأيًا، وإنما تتساءل وتفكر وتقف أمام الطبيعة وأسرارها فترتل صلاتها بصدق وخشوع، تحمل كتابها بيمينها وتقول لك هذا وحده هو الحق قصارى ما لديه من ظنون وافكار، إنها تأتي بأفكار واضحة ومحددة باقية مع الزمن ولا تتغير، وهي ليست مقاييس وموازين ولكنها فكر صائب، ونظرة شديدة، وعاطفة صحيحة، وتعري الحياة من المغلفات وأردية الوهم والخيال.
فاطمة ذياب الانسانة والروائية والقاصة والشاعرة المبدعة كما يقول الاديب رشدي الماضي : ” غيمة مثل اللغة ، تمتلئ بالحزن والفرح، بالحب في اعمق معانيه، بيمر النحل الى جذع شجرة واقفة، كما السراج من النهر الى البحر، فاطمة أيتها النسمة التي تهب في مدينة الريح بسمة، أنا لا اريدك شجرة وحيدة، فلتظل امام الحرف تغتسلين بالماء الذي يتدفق، قدماك الريح، وجسدك الاثر، فاطمتي، أنت أعلنت الحب في الناس، وصارعت شعرة للزمن وانتصرت .
فاطمة ذياب غواصة ماهرة في صميم واقعنا وحياتنا الاجتماعية ، تصورها بكل تفاصيلها وبكل دقة، وتسبح في عمق الناس وتعري رياءهم وزيفهم وتفاهتهم، وترسل اشعتها الذهبية، وتوجه الضوء الهادئ الى مختلف تفاعلات وتداعيات المرحلة، نحو المستقبل المشرق الافضل، بتأسيس وإرساء دعائم المجتمع التحرري المدني الحضاري الذي يتسع لكل الأفكار والاختلافات والمعتقدات الفكرية والمذاهب العقائدية، وهي تنحاز للإنسان وتنتصر للمرأة، وتتحيز للصدق الفني الابداعي ولرسالة الأدب والفكر الانساني الحر، وتنتمي لمعسكر جيوش الناس البسطاء أصحاب القلوب الطاهرة الصافية الطيبة النبيلة.
فكل التقدير لك مبدعتنا الروائية الراقية فاطمة ذياب ، يا من تتحسسين آلام البشر وتكتبين معاناتهم واوجاعهم وعذاباتهم اليومية ، وتتفاعلين مع قضية المرأة وتسجلين همومها ، وتطرحين قضايا مجتمعك الانسانية . دام عطاؤك وابداعك وسطوعك الطاغي في المشهد الثقافي القصصي والروائي الفلسطيني في هذه الديار .