أشعّة الشمس هي المطهّر الأقوى
تاريخ النشر: 29/06/21 | 6:26حسن عبّادي/ حيفا
حين قرأت ما كتبه العزيز أحمد حرباوي مرفقًا لدعوة الندوة: “إن ما صدّره الكاتب حج محمد في “نسوة في المدينة” فإننا نجد أن الكاتب يريد أن يتطهر بهذه الاعترافات ويتخلص من وزرها بمكاشفته ودلقها دون أن يحسب حسابا لما ستتركه من أثر سلبي على متلقيه فما يهمه قبل ذلك وفي الدرجة الأولى سلامه الداخلي وانعتاقه مما يجيش في صدره وما يحمله على ظهر حقيقته من تجارب قاسية أودت بكل ساكن، وقلبت كل ثابت” جال في خاطري تعاملي مع مشروعي “أسرى يكتبون” وعلاقتي بهم؛ الفرضيّة التي ترافقني أنّ كلّ لقاءاتي وتحركّاتي واتصالاتي باتت مراقبة أمنيًّا ومكشوفة فلا أخجل أو أخاف من شيء أفعله.
“احتل الفيس بوك الافتراضي، أو ما أصبح يُسمّى بالعالم الأزرق، عالمنا وصار رفيق كلّ منّا وأدمنه الصغير والكبير، يدور عالمنا في فلكه، وأضحى الصديق والرفيق… والحبيب. عالم يَعِجُ بالزيف والغش والخداع، رغم ذلك وجد الكثيرون ضالّتهم هناك، صار “مربط خيلنا”، وملعب الأحداث حيث فرسان الفيس بوك ومشايخه يغازلون أميراته و”بوكلوا بعقولهن حلاوة”، يتكاتبون بأريحيّة عبر الماسينجر ويتحدّثون عبره بالصوت والصورة، يتسامرون ويتغازلون ويمارسون الجنس الافتراضي عبره، ليل نهار، فالكلّ متزامن ومُتاح كلّ الوقت.
فاجأني وصدمني كتاب “نسوة في المدينة” للكاتب فراس حج محمد، رغم أنّني أتفاجأ من المتفاجئين، لجرأته النادرة في محيطنا، وجدته يُزيح القناع ويكشف عري هذا العالم الافتراضي، كلّ يمثّل على كيفه ليحصل على مبتغاه، افتراضيًا، يعيش حلم الساعة ملبّيًا احتياجاته الآنيّة، رغباته ونزواته، ويوجّه صفعة مُدَوّية لكل أولئك الممثّلين على خشبة مسرحه ليقول لكلٍّ منهم: “اصحوا وأفيقوا من فيلمكم”.
أرفع لك القبعة يا فراس!!!”
هذا هو تظهيري تحت عنوان “كشف عُري العالم الأزرق” لكتاب “نِسْوَةٌ في المدينة” قصص وسرد للكاتب فراس حج محمد (329 صفحة، تصميم الغلاف لابنته ميسم فراس، إصدار الرعاة للدراسات والنشر وجسور ثقافية للنشر والتوزيع)، صدر للكاتب 20 كتابًا، منها: “الحب أن”، “شهرزاد ما زالت تروي”، “ما يشبه الرثاء” و”ملامح من السرد المعاصر”.
جاء الكتاب بقصص وسرد تتناول العلاقة بينهما؛ بين الرجل والمرأة، تلك العلاقة السريّة عبر الشاشة الزرقاء، بشفافيّة مطلقة دون رتوش وتمويه، اللهم إلّا التستّر على هويّتها هي، مرورًا بتبادل الرسائل العشقيّة والغراميّة، منها العذريّة، ومنها الإباحيّة، وتتخلّلها ممارسة الجنس والعلاقة الحميميّة بينهما، ما هو مباح وما هو مستباح، ما هو حلال وما هو محرّم حلّلاه، ما هو تقليديّ وما هو شاذّ حوّلاه لطبيعيّ إنسيابيّ سلس، وكأنّي به يحمل كاميرا خفيّة لمسلسل فكاهيّ ساخر دون علمها، أو حلقة من برنامج “الكاميرا الخفيّة” متعوب عليه، وهو الممثّل والمنتج والمخرج… والمصوّر.
وسم الكاتب الكتاب، كما جاء على الغلاف، بقصص وسرد؛ يسرد علينا مغامراته الشبقيّة مع نسوة المدينة (لوهلة ظننتها امرأة واحدة شبقيّة متعدّدة المواهب، تسرح وتمرح في مخيّلته، وكتبها بصريح العبارة: “كلّ الرّجال واحد كلّ النّساء واحدة. ص 62)، لإشباع غرائزهم عبر تبادل الصور العارية، وممارسة الجنس الافتراضي على ألوانه وأشكاله ووضعيّاته المختلفة والمتنوّعة، نتيجة الكبت العاطفي والمجتمعي، بالخفاء بعيدًا عن أعين الناس، وجاء الفضاء الأزرق وشاشته ليخلق لهم ملاذًا وخندقًا يحقّقون فيه أحلامهم وأوهامهم، كلّها محض خيال، أو كما تقول الجدّات: “كلّها حكي كتب!”.
يحاول الكاتب تعرية نسوة المدينة، يصوّر كلّاً منها ونزواتها ونشوتها الجنسيّة، وشبقها العارم من وراء تلك الشاشة الدفينة والدافئة ويجعلها تسرح وتمرح بأريحيّة، بجرأة خارقة وكأنّي بها تفرّغ ذاك المخزون من الحقد لتنتقم من إجحاف حلّ بها لتحلّق في حلم ووهم لتحقّق ذاتها.
كثيرًا ما سمعت نقاشات حول دور الفيسبوك وتحكّمه في تصرّفات أبناء شرقنا فيسرع أحدهم قائلًا: “المخفي أعظم”، وها هو فراس يكشف ذاك المخفيّ، ما دار بينهما في الخفاء خلف تلك الشاشة، على حبل غسيل كونيّ، يشرّع نوافذ وأبواب غرف الدردشة على مصراعيها بعفويّة وفوضويّة مدروسة، يسرّب خبايا وأسرار تلك العلاقة الحميميّة التي ربطته بها، دون علمها وموافقتها، ليحرّر ذاك الشيطان الذي كان ثالثهما، لعلّ أشعّة الشمس تطهّره من رجس تلك العلاقة وتحرّره من تلك القيود لأنّه بلغ الرُشد.
وجدت الكتاب عبوة ناسفة مفخّخة جعلتني أتساءل: هل فراس حج محمد كان كاتبًا انتحاريًا؟ هل يريد تفجيرها ليكون شهيد رسالته العشقيّة، ومن بعدي الطوفان؟ أم يريد أن يحوّلها لقنبلة صوتيّة لينبّه من حوله لظاهرة مستشرية في عالمنا تأكل الأخضر واليابس، ولا يستطيع أحد بعد الآن أن يقول: “أنا بريء من دم هذا المخلوق”؟ أم هي براءة ذمّة من إثمٍ كان شريكًا به وصحوة ضمير؟ أم هي هروب من عالم وهميّ وسراب يلاحقه؟
يتناول الكاتب ظاهرة مشايخ الفيسبوك، ويظهر جليًا من بَوْحِه أنّه يتربّع على عرش من عروشهم الافتراضيّة، ويريد أن يصحو من ذاك الحلم الوهميّ الذي يلاحقه ليصل إلى النتيجة الحتميّة بأنّ “الكتابة ليست شفاءً دائماً”(ص. 20) فيقول: “نحن ما نحن يا سيّدتي، فكلّ ما كتبناه وما سنكتبه لا يساوي جملة في أيّ كتاب مقدّس أو في أيّ نصٍّ لكاتب عظيم ممّن تشبّعنا بنصوصهم ورؤاهم. قد أصبحنا أعشاباً طفيلية، لا تتقن سوى مصّ الماء الآسن في حفرة طين التّكنولوجيا، تتعربش على الجذور وأغصان الشجر، وتنام مع الديدان والرخويات، وتلطّخ الفضاء الأزرق.” ممّا يجعله يفرّغ ما بجعبته ليتنقّى ويتطهّر من تلك الرذيلة والدنس.
تساءلت بعد إنهائي قراءة مخطوطة الكتاب: هل يريد الكاتب أن ينتقم منها و/أو منهن بنشره غسيلهم تحت عين الشمس الحارقة؟ وجاءني جوابه في نهاية الكتاب: “كيف لي أن أتخلّص من كلّ تلك النّساءِ العالقاتِ على جثّتي؟”. وجدته أنانيًا نرجسيًا عمل على “outing”، أي الفضفضة، إن صحّ التعبير، ليريح ضميره، يتخلّى عن تلك الأسرار وينقّي نفسه من تلك الخطيئة، لا أسرار بعد اليوم فلا خوف من أيّ ابتزاز، على أنواعه، ولا حاجة لطاقيّة الإخفاء بعد اليوم، ويعود ليلبس قبّعة المعلم/ المرشد/ الواعظ، كيفما كان قبل وقوعه في فخّ هذه التجربة، وكأنّي به يريد أن ينصح مُريديه ألّا يخوضوها؛ لأنّ عواقبها وخيمة وهناك من يتربّص لهم بالمرصاد ليفضحها، كلّ وأسبابه، ولذا يتوجّب الحذر.
هلوسَ فراس في البدء: “ثمّةَ أشياء ستحدث لي بعد نشر هذا الكتاب، سيشيع بين القرّاء شيوعا كبيرا، وسيُطبع عدة طبعات عربية ومحلية، وسيزوّره تجّار الكتب. أما أكثر الأحداث توقعا فهي ترجمة هذا الكتاب إلى أكثر من ثلاثين لغة، وسأجني منه مبلغا من المال يفوق الميلون دولار، وليس هذا وحسب، بل سأصبح كاتبا عالميا ومشهورا، وتستضيفني الفضائيات العربيّة وشبكات التلفزة العالميّة… أتوقّع أن يكون كتابًا عالميًا”(ص.13-4)؛ وبعد القراءة ومتابعة الزوبعة حوله حال صدوره، أجد كاتبه جريئاً رُغم نرجسيّته، أزاح الستائر، فتح شبابيك غرف الدردشات المعتمة وأبوابها الموصدة لتدخلها أشعّة الشمس عساها تحرقها… أو تطهّرها.
***مداخلتي في ندوة حول الكتاب، بوم السبت 26.06.2021 في مدينة الخليل، بمبادرة
مختبر السرديات الفلسطيني التابع لنادي الندوة الثقافي