الأغوارُ في مواجهةِ الزحفِ الإسرائيلي الصامتِ والتخطيطِ العنيدِ
تاريخ النشر: 10/07/21 | 13:23بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم تكن خربة الحمصة التي اجتاحها جيش العدو الإسرائيلي يوم أمس الخميس، هي القرية الفلسطينية الوحيدة أو التجمع والخربة الأولى التي يقتحمها ويستولي عليها، ويطرد أهلها منها ويحرمهم من حقوقهم فيها، ويجبرهم على الخروج منها في شاحناتٍ مع آثاثهم البسيط ومواشيهم التي يعتاشون عليها، دون مراعاةٍ لحقوقهم المشروعة في أرضهم التي ورثوها عن أجدادهم، وحافظوا عليها وآباؤهم، وعمروها بجهودهم رغم ممارسات الاحتلال القاسية بحقهم، ومعاناتهم الشديدة من قوانينهم الجائرة، وحرمانهم المتواصل من حقهم في الاستفادة من مياه الأغوار الجوفية، أو الاستفادة من خدمات البنى التحيتة التي يحتاج إليها المواطنون لتيسيير شؤون حياتهم، وتسهيل قيامهم بالخدمات الحيوية والضرورية.
فقد طرد جيش الاحتلال الإسرائيلي عنوةً وبالقوة، أكثر من 166 مواطناً فلسطينيناً، من قرية خربة الحمصة في الأغوار، وأجبرهم على الصعود إلى شاحناتٍ عسكريةٍ، أعدت خصيصاً لنقلهم وإخراجهم من مناطقهم، دون أن تحدد لهم مناطق بديلة أو أرضاً أخرى للإقامة فيها، وتركهم يهيمون على وجوههم بحثاً عن أرضٍ أو مكانٍ يُسمح لهم الإقامة فيها، والعمل وممارسة حرفتي الزراعة والرعي عليها، بينما قامت آلياتهم العسكرية بعملية تجريف واسعة وسريعة للقرية، فدمرت المتاع والممتلكات، وخربت البيوت والمنشآت، وسوت منازل الفلسطينيين بالأرض، متذرعةً بأن المنطقة عسكرية، وتجري فيها تدريبات ومناورات عسكرية، ولا يجوز للمدنيين الاقتراب منها أو الإقامة فيها، أسوةً بالكثير من مناطق الأغوار المخصصة لأعمال الجيش العسكرية، ومخازنه وثكناته ومطاراته ومعسكراته التدريبة وغيرها.
جرت عملية الاقتحام والطرد والترحيل والتجريف والتخريب، للسكان المدنيين ومعهم الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والمسنين، دون مراعاةٍ لحقوقهم المشروعة، ولا لحقوقهم الإنسانية، التي تم خرقها أمام أعين وسائل الإعلام والمراقبين الدوليين والإسرائيليين، وصمت الأمم المتحدة ومنظماتها، وذلك بعلم وموافقة الحكومة الإسرائيلية، التي وافقت وصادقت على قرارات الهدم والترحيل، التي تنفذ مخططاتها القديمة ومشاريعها العديدة، الهادفة إلى السيطرة التامة على أرض الأغوار كلها، وطرد كل الفلسطينيين منها، ومنعهم من الإقامة والعمل فيها، أو الاستفادة من خيراتها والتمتع بمميزاتها، وإن كانت حارقة الطقس ساخنة الأجواء، منخفضة الموقع جافة البيئة، إلا أنها تبقى أرضهم العزيزة، وبلادهم الأصيلة، التي تمتاز دون غيرها بطقسها الحار المرغوب، ومنتجاتها الصيفية المتعددة، وشمسها وبحرها الجاذب للسياح والرحلات الترفيهية.
لا ينفك الاحتلال الإسرائيلي يحاول السيطرة الكاملة على أرض الأغوار الفلسطينية، التي تشكل أكثر من 28% من المنطقة المصنفة إسرائيلياً بــــ “C”، بما يزيد عن 1.6 مليون دونم، أنشأ فيها منذ احتلاله لها 36 مستوطنة وعشرات التجمعات الاستيطانية، يقيم فيها أكثر من عشرة آلاف مستوطنٍ، يتمتعون بكامل الحقوق لجهة الحماية والتمكين، والتمليك وحق البناء والتعمير، وحق العمل والاستثمار والتغيير، حيث يستفيدون كلياً من مياه الأغوار التي يحرم منها أهلها وسكانها الفلسطينيون، بينما يحق للمستوطنين استجرار ما يشاؤون منها، واستخراج ما يستطيعون من مخزوناتها في الآبار الجوفية، ويتمتعون بكل الخدمات المدنية التي توفرها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لهم، كالكهرباء وخطوط الهاتف والشبكات الخلوية وخدمات المجاري والبنى التحتية، التي يحرم منها الفلسطينيون، ويمنعون من التأسيس لمثلها أو إنشاء البديل عنها.
يعتبر الاحتلال الإسرائيلي منطقة الأغوار الممتدة على طول الحدود الشرقية للضفة الغربية، من أهم المناطق العسكرية التي يصر على المحافظة عليها، كونها تفصله عن الأردن ذات الكثافة السكانية الفلسطينية العالية، مما يجعلها خاصرةً ضعيفةً يصعب عليه الدفاع عن كيانه بدونها، ولكن أطماعه فيها تتجاوز الأبعاد العسكرية والأمنية إلى الاقتصادية والسياحية، إذ تعتبر الأغوار بطقسها المميز وشمسها الحارقة وأرضها الواطئة، سلةَ فلسطين الغذائية، التي لا تتوقف خيراتها ولا تنضب نِعَمُها، ولا تجف أرضها ولا تتشقق عطشاً تربتها.
لم يبق الاحتلال الإسرائيلية بسياسته الاستيطانية، وبقوانينه العنصرية وممارساته العدوانية مكاناً للفلسطينيين في منطقة الأغوار الواسعة، فضيق عليهم فيها وشدد شروطه ضدهم، حتى لم يبق فيها أكثر من 30 قرية وتجمعاً فلسطينييناً، يعيش فيها قرابة 75- 90 ألف فلسطيني، يقل عددهم ولا يزداد، وتهدم بيوتهم ولا تعمر، ويطرد أهلها ولا يسمح لهم بالعودة إليها، وهم فيها محرومين من كل ما يلزمهم للعيش ويؤهلهم للبقاء، ذلك أن الكيان الصهيوني يرى في الأغوار التي تزداد مساحةً ضمن تعريفه على حساب محافظة طوباس، أنها النقب الثانية، التي لا يستغني عنها لأعمال الدفاع ومنافع الاقتصاد.
إنها ليست خربة فقط وليست قرية، وهي وإن كانت تسمى حمصة أو أنها كانت بقدر الحمصة حجماً ومساحةً، إلا أنها يجب أن تكون بحجم فلسطين كلها قدراً ومكانةً، وقيمةً ومنزلةً، فمن يفرط في حبة الرمل يفرط في الأرض، ومن يفرط في الحمصة الصغيرة بفرط في المدينة الكبيرة، ومن يدافع عن أبسط الحقوق وأقل الممتلكات، يحافظ على الوطن كله، ويصون الحقوق والممتلكات والمقدسات كلها، وإلا سنكون بحق كمن … “أكلتُ يومَ أُكلَ الثورُ الأبيض”.