غسانيّة فراسيّة
تاريخ النشر: 11/07/21 | 15:01المحامي حسن عبّادي/ حيفا
خلال زيارة الصديقة الزعتريّة إيفا (سميرة) حمد للوطن في أواخر نوفمبر 2018 زُرنا برفقة زوجها نستور النصب التذكاريّ الذي أقيم في حينه تخليدًا لذكرى الأديب الفلسطينيّ غسّان كنفاني، ابن مدينة عكا، في مدخل مقبرة النبي صالح في مدينة عكا، حيث تربطها علاقة بآني كنفاني ولكونها متطوّعة مع الجبهة الشعبيّة في حينه. التقطنا الصور التذكاريّة وشاركنا شريطًا مصوّرًا على صفحات الفيس بوك، وبعده بشهر فوجئت بمحادثة هاتفيّة من إيفا في ساعات الليل المتأخرة، مرتبكة ومتأثّرة متسائلة إزاء إزالة النصب، تلبية لنزوة وزير الداخليّة الإسرائيلي آنذاك أرييه درعي الذي توجّه بدوره إلى لجنة أمناء الوقف الإسلاميّ لإزالة النصب التذكاريّ بحجّة أنّ غسان “مخرّب وينتمي للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين”، رغم اغتياله يوم 08.07.1972!! وهل حدث ذلك إثر نشر الشريط؟ هدأت من روعها قائلًا: “لا، بل هو صوت غسّان وقلمه، ما زال بُعبُعًا يُقلق نومهم ولا يفارق أحلامهم!”
كتب غسّان كنفاني في مسرحيّة الباب أنّه لا بديل عن جنّة فلسطين وكل محاولة لبناء جنّة بديلة في المنفى ستبوء بالفشل: “لن أرتدّ حتّى أزرع في الأرض جنّتي… أو أنتزع من السماء جنّتها… أو أموت، أو نموت معًا”، وهو القائل: “إذا وقع نظركم على رجل طويل جدًا، لا أعرف اسمه، لكنّه يلبس بدلة خاكيّة عتيقة، ويبدو لأوّل وهلة كأنّه مجنون. محاط بشيء يشبه الغبار المضيء، فاتركوا كلّ شيء واتبعوه… إنّه غسّان كنفاني في طريقه إلى فلسطين”. لم يحقّق حلم العودة في حياته فأعيد بنصبٍ تذكاريّ في مسقط رأسه… في عكا. وليته لم يعد تلك العودة المبتورة الموءودة!
في كتابه “رجال في الشمس”- رحلة ثلاثة رجال فلسطينيين إلى الكويت وماتوا في الصهريج كتب مقولته السرمديّة: “لماذا لم يقرعوا جدار الخزّان”؟ سؤال ما زال يتداول على ألسنة جميعنا ليل نهار.
في “أرض البرتقال الحزين”: نجد لعنة المنفى – لاجئ بلا بلد، بلا عمل، بلا وطن، بلا نظام، بلا حقوق مدنيّة وسياسيّة… قهر المنفى … كيف يمكن محو العار؟ كيف نشقّ الطريق نحو المستقبل؟ يرى رب العائلة البرتقالة في طريقه فينفجر باكيًا. لم يستطع تحمّل خزي المنفى/ بطاقة التموين/كيس الطحين. يتمنّى الموت… يحتضر وإلى جانبه برتقالة جافّة.
في “أم السعد”: تقول البطلة التي تعيش في مخيّم البؤس “إن الثورة لا يصنعها البؤس بل وعي البؤس” كما قال فرانز فانون في كتابه “بشرة سوداء قناع أبيض”: “إنّ الحلّ لا يكمُن في الزنوجة. فالذي يمجّد الزنوج لا يقلّ مرضًا عن الذي يكرههم”!
في كتابه الأحبّ إلى قلبي “عائد إلى حيفا” نجد غسّان الذي امتازت نصوصه بسهولتها الممتنعة وبصورِه المستقاة من الواقع المعيش، لا يجمّلها ولا يضيف إليها مساحيق الكتابة، بل يتركها كما هي. شخوصه قاسية، فجّة، ذات واقعيّة تجعل القارئ يقول: هذا الشخص أنا أعرفه، أنا متأكد أنني لرأيته من قبل”. وهكذا تصل الرسالة الكنفانيّة.
تناول تجربة جرح الوطن وعذاب الفلسطيني الذي تشرّد من بيته ووطنه وعانى القهر والحرمان، إلا أنه يحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في وجدانه.
تدور أحداثها صبيحة الحادي والعشرين من شهر نيسان عام 1948، عام النكبة، وتبدأ بوابل من القنابل والرصاص وقذائف المدفعيّة تجاه أحياء حيفا العربية، وساعتئذ كانت صفيّة قد تركت رضيعها خلدون ابن الخمسة شهور في البيت وخرجت تبحث عن زوجها سعيد وسط حشود الناس المذعورين ساعة اضطرارهم للنزوح. تمر الأيام والسنون ويعودا؛ صفية وسعيد، بعد نكسة حزيران 1967 إلى بيتهم في حيفا ليتفاجأا بأن ابنهم خلدون أصبح شاباً يحمل اسم دوف، وهو مجند في جيش الاحتلال وقد تبنته أسرة يهودية من القادمين الجدد، استحوذت على البيت واستوطنته بعد نزوح 1948 وتبنّت خلدون، وتبلغ المأساة ذروتها بعد أن عرف دوڤ/ خلدون الحقيقة وأصر على الانحياز إلى جانب “الأم” اليهوديّة التي تبنته ولم يرغب بأية علاقة مع والديه الطبيعيين، وفي نفس الوقت كان سعيد/ الأب يعارض التحاق ابنه الثاني/ خالد بالعمل الفدائي وبعد أن رأى حالة ابنه البكر/ خلدون أعاد النظر بالأمر ووافق فعاد ليجد ابنه قد التحق بالعمل الفدائي، وهكذا نرى أن الإنسان موقف، فعلى الرغم من أن خلدون وخالد أخوة في الدم إلا أنهما نقيضان.
بعد زيارتهما لحيفا لخّص سعيد قائلًا :”كنت عَم بفتتش عن الوطن. وبالنسبة إلنا انا وانت، هذا مجرّد تفتيش عن شي تحت غبرة الذاكرة… وشو لاقينا تحت هالغبرة ….؟! كمان غبرة جديدة…!! غلطنا لمّا اعتبرنا إنه الوطن هو الماضي وبس. بالنسبة لخالد، الوطن هو المستقبل. عشرات الآلاف مثل خالد بنظروا للمستقبل، وراح يصحّحوا أخطاءنا وأخطاء العالم كلّه.”
أثار غسّان تساؤلات كثيرة حول التهجير والتشريد والغربة والحنين والوطن والإنسان والإنسانية حين يصير الإنسان قضية، وحول العودة وحق العودة، وما هو السبب والداعي لزيارة صفية وسعيد لحيفا وعلاقته بالعودة؟ هل فلسطين استعادة للذكريات أم هي صناعة المستقبل؟
سعيد يعبّر عن مشاعر السخط والمهانة التي يشعر بها في طريق “العودة” وحين يرى حيفا التي “يرونها” له وليس حيفاه، حيث أصبحت مُحتَلّة، وأصبحت كما يريدها الاحتلال، وليس كما يجب أن تكون، فيبدو السخط والغضب واضحًا في كلام سعيد وتعابيره لرفضه الاحتلال المُذل والمُهين ويعبّر عن معاناته المُرّة لما آلت إليه الحال وحسرته، ويزيد شعوره بأنه أخطأ في تركه لبيته أيًا كان السبب الذي دعا إلى ذلك.
بعد “زيارته” لحيفا يعيد سعيد النظر فيرجو أن يكون خالد قد التحق أثناء غياب والديه بركب المقاومة وهذه رؤية غسان كنفاني الواضحة ولا غبار عليها بأن ما أخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة لتكون العودة شريفة، بعزّ وكرامة وبدون مذلّة ومهانة.
أسمع هنا وهناك تساؤلات: “كمان مرّة كنفاني؟ بكفّي تقديس وتأليه!” ولكن الجواب على هذه الأسئلة وجدته في لقاءاتي مع “أسرى يكتبون” الذين ما زالوا يرونه البوصلة والمنارة نحو فلسطين؛
وصلتني رسالة من الصديق الأسير منذر مفلح عنونَها “من حيفا وغسان إلى حيفا وحسن.. “علاقة جدلية” كتب فيها: “يسارع كميل، وقلبه ينبض، وملامح وجهه تكاد تتقاسم فرحة العودة، يطلبني، ليتقاسم معي كعادته فرحته، بل ليقاسمني سر عودتنا إلى حيفا، يصرخ مبتهجًا: “إنه حسن، ابن حيفا، في وادي النسناس وهذه أم إلياس”.
أقاسم كميل، بكل جوارحي، ما تيسر لنا من حيفا متواطئين على سر، الـ (password) الخاص به، اسم “حسن”، يعيد رسم خارطة الوطن افتراضيًا رغم الاحتلال، رغم التعقيدات الجغرافية والحدود السياسية، يخلق مشروع وطن، يقول كميل.
أقول، لا ..
هي حيفا.. مدينةٌ تلبس ثوب الزفاف الدائم.
هي أجمل الفتيات، تطلب المحبين.
هي أجمل النساء، توقع بحبال جمالها كافة الرجال.
هي عروسٌ، وحسن أبيها يأخذ بيدها، يقدمها لأجمل فارس، يستحقها.
يذهب كميل أبعد..
ليؤكد أن حسن يشيد عاصمة القلب، حيفا، ويأخذنا كمواطنين إلى وطننا الجديد، كميل يفتخر بمملكته يقدمها لنا، كي نرى الفردوسَ الذي حاز عليه، بانغراسه في حيفا، حسن، الظاهر عمر الجديد، يشيّد مملكة ووطن فلسطيني، ويغرس فينا من جديد حب الوطن، وحب حيفا، ووادي النسناس، ينسج بقية حكاية غسان ليكمل الرواية، بأن العودة لا تكون إلاّ لحيفا، كي نصلي صلاة العائدين فوق الكرمل، وقبلتنا الوحيدة البحر الذي صلينا صلاته في موعدٍ سابق.
مساءً يهاتفنا، ليكمل لكميل حياكة المشهد، فحيفا وإن رحلت، ستبقى كقطرة ماءٍ في نقار قبرة محمود درويش، أو سنبقى نحن قبرةً تموت عطشًا، سيبقى طعم الجفاف في عروقنا بلا حيفا.
حسن صانع وطننا الافتراضي، إن حيفا تشكل نقطة التقاء القلب والروح، هي وطنٌ صنعه حسن في عالمنا الافتراضي جمع فيه ما بين الأمهات والأبناء، أم إلياس، أم عسكر، والأبناء كميل، منذر، ثائر، نادر، حكمت والآخرين، وما بين وصايا الشهداء والطريق إليها، ما بين الأزمنة والأمكنة، حتمًا سيعود هذا الوطن حين يحدث اللقاء حقًا مع خارطة الواقع، وحتمًا سيكون حسن هو من سيخرج المشهد الأخير، معلنًا انتصار حيفا، الوطن باللقاء قريبًا هناك تحت راية الحرية.
فإلى أن تهوي إلى حيفا من جبل الكرمل، أو نعلو إليها مع سراب الفجر، ستبقى حيفا، وحسن، سنديانًا كحقيقة راسخة في عمق رواية الآخر الذي قهره حسن برواية “حيفا الحديدية” عبر العالم الافتراضي، لنحتل المشهد، ويعيدنا من الهامش الذي أراده لنا الآخرون، كي يحتل صدر روايتهم شاء من شاء وأبى من أبى.
تزامنًا مع وصول رسالة منذر ونشرها وصلتني عبر البريد الإلكتروني مخطوطة فراسيّة تحمل عنوان “استعادة غسان كنفاني”(192 صفحة، تصميم الغلاف: الفنّانة ميسم فراس، إصدار الرعاة للدراسات والنشر – رام الله وجسور ثقافية للنشر والتوزيع – عمان) فتساءلت بيني وبيني: “هل يجترّ فراس ما كُتب وما قيل عن غسّان مكرّرًا فرسان “النقل واللصق” التي شاعت في زمن العولمة والقرصنة والغوغلة؟
قرأتها مثنى وثلاثًا ورباعًا، (أرى مسؤولية كبيرة تقع على كاهلي حين يُطلب منّي مراجعة مخطوطة وأقرأها بتأنّ حاملًا مبضع التشريح لأفحص كلّ شاردة وواردة دون مواربة ومجاملة) ووجدتها مغايرة لما قرأته وسمعته وغوغلته عن غسّان؛ وجدته يستعيد غسّان وكأنّي به حيّ يُرزق، يتمختر بيننا بريشته الواثقة اللاسعة، والكيبورد تحت إبطِه، يتأمل المشهد اليومي “سياسياً وثقافياً واجتماعياً في الحياة الفلسطينية وطناً وشتاتاً” كما جاء في التظهير.
ناقش فراس تحت عنوان “شيء عن الثقافة والمثقفين” علاقة المثقف الفلسطيني والعربي بالقضايا الراهنة، وخاصة فيما يتعلق بالتطبيع، وتدجين المثقفين، فوجدتني أتفق معه وغسان القائل في التطبيع: كم يخسر الفرد من هويته من خلال التطبيع! وهذه نبوءة غسّان سنين طويلة قبل التطبيع الأوسلويّ والخليجي والعربي الراهن، وكأنّي به شاهد على عصره سبق أوانه بعقود من الزمن.
حاول فراس تقصّي واقتفاء أثر مواقف غسان كنفاني وشخصيته من خلال كتاباته في حينه وربطها مع واقعنا اليومي الرديء، مواقفه السياسية والثقافية آنذاك مع الوضع الراهن وتطورات القضية الفلسطينية، وكأنّي به ما زال يقاوم كل المشاريع الصهيونية التي تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية، بقلمه الأشرس من البارود!
سلّط غسان كنفاني الأضواء على الأدب الفلسطيني المقاوم وروّاده وعلى أقلام واعدة في بداياتها ومسك بيدها موجّهًا، وها هو فراس حج محمد يتناول دوره النقديّ ومنهجه كما تجلّى في كتابه “فارس فارس”، لاحقًا أحمد دحبور وعلي الخليلي.
خصص الكاتب الفصل الثالث من كتابه ليتحدث عن علاقته مع غسان كنفاني، من خلال العلاقة بكتبه وقراءتها والتعلم من مواقفه الشجاعة ككاتب ومثقف ومناضل، ليختم كتابه مؤكدًا على علاقته وارتباطه الوجداني به كشخصية أثّرت فيه كثيراً كما أثّرت في غيره.
آن الأوان لتخليد ذكرى أبطال الحريّة دون خوف أو وجل أو تأتأة، ونقرع جدار الخزّان علّنا ننقذ أبطال غسّان في رجال في الشمس.
نعم، صدق غسان كنفاني حين قال مقولته الأبديّة: “ليس المهمّ أن يموت أحدنا، المهمّ أن تستمرّوا”!
كم كان غسّان محظوظًا لمغادرته عالمنا قبل سيطرة الشبكة العنكبوتيّة على مشهدنا الثقافي، سخر غسّان من الثقافة الموسميّة، المستأجَرة، السلعة وأطلق عليها “ثقافة التكسي” حين وصف بعض المنابر كسيارّة التكسي – من يدفع يركب!!! وكأنّي به ينظر لهذا المشهد الكفكائيّ ويبتسم ساخرًا.
غيابك يا غسّان يشتدّ حضورًا!
***مداخلتي في أمسية إطلاق الكتاب، بوم الخميس 08.07.2021 في مقهى حنظلة، دار الرعاة، رام الله