استشهادي أم انتحاري؟*
تاريخ النشر: 18/07/21 | 14:01حسن عبادي/ حيفا
مساء الخير؛
بدايةً اسمحوا لي أن أقدّم اعتذاري على عدم حضوري وزوجتي سميرة لأكون بينكم، جسديًا، برفقة أخي إبراهيم في هذا اللقاء المميّز، ولكن روحي ووجداني معكم؛
واكبت في السنتين الأخيرتين دار طباق وإصداراتها، ودعمها المتواصل لأسرانا وأدب السجون، وتزويدهم، مشكورة، بنسخ من إصداراتها من خلال مشروعي “لكلّ أسير كتاب”، ولها دور رياديّ في هذا المجال، وليس صدفة أن تصدر مسرحيّة “مُمَثِّل انتحاريّ” عن هذه الدار.
هاتفني في حينه زميل الدراسة إبراهيم خلايلة بخصوص نشر مسرحيّة “أساطير الإنس والجانِ في دولة برهان الزمانِ”، سألته عن موضوعها فأجابني: “العودة”. حاولت التشبيك بينه وبين جمعيّة أهليّة محليّة، ولكن تعذّر ذلك؛ ونظرًا لموضوع المسرحيّة لم يرد في الحسبان التوجّه للمؤسّسة الرسميّة.
قيل “أعطني مسرحًا أعطِك شعبًا عظيمًا”، فالمسرح هو الشرارة التي تلهم الإنسان العطاء وتدفعه نحو الرقيّ الفكري، ولكنّ المسرح المحلّي يعاني من التضييق والتهميش لشحّ الموارد وكونه بعيدًا عن الأجندة وسلّم الأفضليات رغم كونه محرّكًا أساسيًا للحياة الثقافيّة. ولا يوجد على أجندات أي جهة ثقافية رسمية أو شعبية أي مخططات لدعم المسرح والارتقاء به، ربما لأن للمسرح دورا أكبر من غيره في عملية بناء الوعي.
تناول إبراهيم موضوع “العودة” كموتيف مركزيّ، فالمنافي البعيدة ومخيّمات الشتات تزخر بجموع من تَرَكُوا روحهم وديعة على أرض الوطن، يعدّون الأيام والسنين، يعيشون هواجس العودة، عودة الروح إلى الجسد. إنّها الأمل الذي يحرّك المشاعر ويثير الشجون ويخفّف من مرارة الغربة… إنّها زيت المصباح الذي ينير الطريق نحو الوطن… إنّها الأمنية الحزينة التي يردّدها أهلنا في المنافي والشتات: “تصبحون على عودة”… و”بالعودة”.
لاقت تلك المسرحيّة اهتماما كبيرًا ممّا شجّعه على إخراج ما في جعبته من أفكار ومخطوطات؛ تشجع ليخرج إلى النور مسرحيّة “شجر وحجر”؛
يعشق إبراهيم الفن بالفطرة، كعشقه للأرض، فما زال يفلح أرضًا جليليّة ورثها عن أبائه وأجداده، في مسرحيّته خلط بينهما بتوليفة تصوّر بحدّة التجربة والمعاناة الحقيقيّة لشعب اقتلع من أرضه وأمسى لاجئًا! يعالج واقعنا المرير، على أطيافه المختلفة، بجرأة ودون مواربة وتأتأة، بعيدًا عن الأسطرة الشعاراتيّة ليعطي إحساسًا بالحياة والاستمراريّة.
وجدت في المسرحيّة رسالة تحدّ وانتماء… مسرحيّة ملتزمة؛ نعم، هناك فنّ ملتزم وليس فنّانًا ملتزمًا! وحكاية شعب، تحكي القضية بصوت فنّان ذي رؤية.. ورؤيا، مرتبط بأهله وبلده، مرهف الإحساس… مبدع.
هذه الأرض ليست للبيع أو المساومة مهما ضاقت الدنيا ومهما طال الزمن، علينا حراستها لأنّها أمانة في أعناقنا، الأرض هي الهويّة والكيان… وعنوان الكرامة، وكما غنّى شاعرنا محمود درويش: “من لا برّ له… لا بحر له”، هذي الأرض إلها صحاب، تنتظرهم بفارغ صبرها.
لإبراهيم مشروع مسرحيّ متكامل، في المدرسة الثانويّة كتب ومثّل وأخرج (كان لي حظّ المشاركة في تمثيل مسرحيّة له خلال دراستنا الثانويّة عام 1976!!)، ومن ثم في الجامعة ونشاطه في مسرح الحكواتي في البدايات لسنوات عديدة ليعود إلى معشوقته، المسرح، بعد انقطاع لسنوات طويلة.
أثبتت هبّة الكرامة أنّنا شعب واحد، والتواصل ضروري جدًا ومفيد، ولا بدّ منه ليؤكّد أنّ الشعب العربي الفلسطينيّ شعب واحد وموحّد في الداخل والشتات. ولا يمكن للوطن إلّا أن يحلّق بجناحيه، والتواصل المباشر يزيل الصورة النمطيّة عند البعض عن أهلنا في الداخل وفي الشتات.
وها هو المسرحيّ إبراهيم خلايلة يطبّقها فعلًا لا قولًا، آمن بالكلّ الفلسطيني لكونه صاحب رؤية ورؤيا، فبطل مسرحيّته ممثّل انتحاريّ اختار طريقه بمحض إرادته ورغبته رغم صراع الهويّة “أنا من أعالي الجليل، في الداخل، أنا من هناك وجئت إلى هنا”، ويصل إلى النتيجة الحتميّة؛ لا يهمّ لا هنا ولا هناك. يتناول فلسفيّة الوجود، عبر الاستعداد بالتضحية الروحيّة قبل الجسديّة.
وها هو يسير على خطاه ليقولها بصريح العبارة على لسان ممثّله الانتحاري: “سأخرج الآن من هنا.. لا أريد سلاحكم.. سأعود إلى هناك.. إلى بلدي وأرضي”.
كلمة لا بدّ منها، في لقائي بالأسير وليد دقة حدّثني عن ألمه وحسرته لاحتجاز السلطات حوالي ثلاثمائة جثّة فلسطينيّة ومنها جثمان الشهيد فارس بارود الذي توفيّ خلال فترة سجنه، وما زالت جثّته محتجَزة، وتساءل فارس محدّقًا بوجه سجّانه باستهجان: “هل ستحتفظ سلطة السجون بجثّتي حتّى تنتهي فترة محكوميّتي لتحريرها؟”، ومنها بدأنا التحضير لحملة دوليّة عنوانها “حرّروا الجثامين”، وتمّ تحضير ملصق الحملة وعنوانه “سيلفي الجثامين” وحين التشاور دار النقاش حول تسميته: “سيلفي الجثامين” أو “سيلفي الشهداء”؟ تمامًا كما كانت الحيرة في عنونَة المسرحيّة: “ممثِّل استشهاديّ” أم “ممثّل انتحاريّ”؟ ويبقى السؤال مفتوحًا: من هو الانتحاري؟ ومن هو الاستشهادي؟ وما هو تعريف “الشهيد” في سياق المشهد الفلسطيني، بعيدًا كلّ البعد عن السياق الديني، وها هو إبراهيم خلايلة يطرح التساؤل بجرأة يُحسد عليها.
أقولها بصريح العبارة: آن الأوان لنحترم “الشهادة”، ونتركها وسامًا على صدور أصحابها وألّا نستسهل في استعمالها ،كي لا نرخّصها حين يتداولها العباد.
نعم، ليس كلّ انتحاريّ شهيداً، وليس كلّ أمواتنا شهداء، فارحموا شهداءنا
وأخيرًا، كلّ التحايا للعزيز إبراهيم، زدنا فنًّا ومسرحًا والتزامًا.