رواية ” يــس ” : المذبحــــة المستمرة
تاريخ النشر: 25/07/21 | 9:00صالح حمدوني
فوتوغرافي وكاتب من الأردن
منذ أكثر من عقديْن عَمَد بعض الأدباء والفلسطينيون منهم خاصة إلى إنتاج أدب يقدّمون فيه فكرتين متلازمتين : الأولى أنسنة العدوّ والثانية ـتقديم الحالة الفلسطينية في إطارها الإنساني البحت .
في الأولى تمحورت الفكرة حول أن العدو بشر عاديّ و ليس قوة لا تقهر ، وأن حياتهم الطبيعية تستحق الإهتمام و بالتالي تستحق الحياة و الاعتراف بها ، ذهبت هذه الفكرة بالمحصلة إلى محاولة كسر الحاجز النفسي مع العدو الصهيوني . تجلّى ذلك لاحقًا في الانفتاح على الإذاعات الصهيونية مثلا ، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي الصهيونية و من ثم شاهدنا موجات التطبيع المتتالية .
في الثانية : تقديم الحالة الفلسطينية في إطارها الإنساني البحت . عمد هذا الأدب إلى التركيز على التفاصيل اليومية لحياة الفلسطيني وحقّه في الحياة الطبيعية بعيدًا عن مفاهيم الفعل اليومي المقاوم و ضرورة المواجهة و أصبح مفهوم الحقّ الفلسطيني يبتعد شيئًا فشيئًا .
رسم فنان الكاريكاتور الشهيد ناجي العلي لوحة فيها فاطمة تعلّم أبنائها :
الدجاجة لها بيت – اسم بيت الدجاجة القنّ
الأرنب له بيت – اسم بيت الأرنب الجُحر
الحصان له بيت – اسم بيت الحصان الإسطبل
الكتائب اللي ذبحوا ولادنا في المخيمات إلهم بيت اسمو بيت الكتائب امريكا اللي بتدعم اسرائيل إلها بيت اسمه البيت الأبيض الفلسطيني يسكن المخيمات و ما عندو بيت ، بيت الفلسطيني اسمه بيت المقدس كيف بيعود الفلسطيني لبيتو بالوعي و و . غسان كنفاني الشهيد و القائد ركّز على الوعي في كل نتاجه الأدبي و البحثي ، وعي الواقع و التاريخ ، وعي الهزيمة و الموقف . وعي الإنسان و القضية .
على النقيض من أدب ” الأنسنة التافهة ” ، يأتي أدب أحمد أبو سليم .
الواقع الذي نعيش فيه يُثير الغضب .
من لا يغضب منه هو متبلّد الإحساس ومشوّه الوعي و ” متَمْسِحْ ” .
وأحمد يغضب بوعي ، غاضب ويُصرّ على محاولة تفكيك هذا الواقع لفهمه ونقده ، للوصول إلى طريق الخلاص .
في رواياته السابقة ، ينظر أحمد الى الواقع في كلٍ منها من زاوية مختلفة ، بعيداً عن تقديس الواقع أو التاريخ أو التجربة الفلسطينية وشخصياتها .
يسأل أحمد أبو سليم¬¬¬¬ في بداية الرواية : ” هل يمكن للذاكرة أن تُصاب بالصدأ أو تهترئ ؟ ” . هذا السؤال هو الإجابة .
الذاكرة في معناها الفلسفي العميق هي محرّك الفعل ، أو لنقل هي صانعة ردّات الفعل . ماذا يعني أن تزخر الذاكرة بالمجزرة ؟ ، ذلك يعني بالضرورة العمل للتخلّص من أسبابها وآثارها ، من كلّ ما أدّى إليها وبها ومعها . وهذا يعني أيضا : كيف يمكن لذاكرة المجزرة أن تفهم أن العدوّ طبيعي ، ويمكن أن تتصالح معه ؟!
أبو سليم في سؤاله الأول يُؤسّس للحاضر عبر تقديم سردية المجزرة التي حدثت يوم 9 نيسان 1948 . وحين ينبش الذاكرة فإنّه يُؤكّـــــد حضورها المتواصل ، ” الذاكرة انتقائية تُخزّن أحداثاً بعينها ، تُراكمها ، لتُشكّل فيما بعد حقيقة هويّتنا ” ص9 .
في البوح والمكاشفة يحرر الراوي ذاته ، ويحرر أبطاله من هواجسهم التي تكبّل أفكارهم . مواجهة الحقيقة تحرر الذات وتضع العقل أمام حالة الوعي مباشرة . ” أنا تحررت من نفسي ، وما تبقّى الآن ، ربما ، أن تتحرر نفسي مني .” .
هذه المواجهة مع الوعي ، تثير سؤال : ” ماذا لو عادوا الآن وكسروا الباب ؟ ماذا لو تذكّر جنديّ ما أنه نسيَنا في خضم انشغاله بالقتل ، فعاد كي يُنجز تلك المهمة إلى هنا ، إلى المخيم ؟ ” ص12 .
استند أحمد أبو سليم في روايته على وقائع موثقة في عدد من المصادر ، مذكرات المناضل الكبير بهجت أبو غربية ، المؤرخ وليد الخالدي ، وعدد من الحكايات الشخصية لفلسطينيين ، إضافة إلى ما رشح من الأرشيف الصهيوني ، والذي للآن لم يُكشف عن جزء كبير منه .
في الفصل الأول من الرواية ، يُسيطر إيقاع الموت ، رائحة البارود ، صراخ الأطفال والنساء . كمّ هائل من الدم يُغرق الصفحات ، وربما ” يطَرْطِش ” على وجه القارئ .
ياســـين ، الشخصية الرئيــــسة في الرواية ، من يـــسرد ذاكرته ، ولد قبل المجزرة بثمانية أيام مع شــــقيقه التوأم أمين . أثناء المجزرة ، لاحظت مجندة الشبه بينهما ، ” فقرّرت تغيير قواعد اللعبة ، كان ذلك قبل رمـــي من تبقّى من الأطفال من فوق السور . سألت عن إسمينا ، ثم راحت تسأل أمي :
– كيف بوسعك أن تميّزي بينهما ؟
– رائحة الأمومة لا تُخطئ .
غطّــتا عينيها بعُصابة وأحكمتا ربطها . وضعتنا جميعاً أمامها ، ما تبقّى منا ، سبعة أطفال ، من منهم ياسين ؟
ربما اختارت واحداً غيري ، وقبل أن يفكّوا العصابة عن عينيها كانت أجساد الآخرين تطير في السماء وتهوي نحو الوادي ، وجبريل متعب وهو يقود الأرواح نحو الجنّة بلا توقف .
أمهلوها عشر ثوان لتحمل الناجي الوحيد – أنا – وتركض به . ” ص31-32
هنا ندخل في الإحتمالات ، في محاولة متكررة عند الروائي ، لإعادة صياغة مسار التاريخ والتجربة ، عبر اقتراح أسئلة “ماذا لو” …
في مصادفة نجاة ياسين : من هو ياسين ؟ ابن من ؟ . إنه ابن المجزرة ، احتمال واحد على 7 أو 10 أو ألف . ابن الذاكرة والصدفة . وبما أن المجزرة مستمرة ، فهو قد يكون أنا أو أنت أو أي أحد غيرنا .
حدثت المجزرة بعد استشهاد القائد عبد القادر الحسيني ، والذي بسقوطه سقطت القسطل ، وسقطت دير ياسين ، ومن ثم سقطت فلسطين كلها … واستشهاد عبد القادر جاء بعد رفض الزعامات العربية تزويده بالسلاح .
المشهد واضح ، والتاريخ واضح ، والمؤامرة واضحة .
تأسست ذاكرة ياسين ، ابن الثمانية أيام حين نجا من المجزرة ، عبر ذاكرة أمّـــه التي نجت بعد بتر ساقها في المجزرة برصاصة جندي ، وعبر سيرة خاله الذي نجا أيضا بعد قطع لسانه واغتصاب زوجته ياسمين بشكل متكرر ووحشي على يد 40 جندياً من العصابات الصهيونية .
” كانت المجزرة حكايتنا الليلية التي لا تنتهي أبداً ” .ص87
لأن المخيم ناتج عن المجزرة ، أو هو وجه من وجوه المجزرة ، فإن السارد يؤرّخ له بالحدث السياسي والإجتماعي :
– قبل وصول الكهرباء إلى المخيم .
– حين سقط أحد طلاب صفي في إحدى الحفر الإمتصاصية التي تقع آخر المخيم .
– حين جاء موظفو الأونروا ليحصوا الأسر ، لإصدار بطاقة المؤن . ” في تلك الأيام بالذات عاد أمين – شقيقي التوأم – إلى قيد الحياة ، وأصبحنا هو وأنا نفرَيْن مسجّلين في كرت المؤن .” ص92 ، ” من يدري ، ربما عادت دير ياسين كلّها في بطاقات المؤن ، ربما فرح الموتى قليلاً بعودتهم ” ص94 .
– حين كان الاستماع الى صوت العرب تهمة .
– حين أُعلِنَت الهزيمة ماتت أمي ، التي كانت قد جهّزت بقجة أمتعتها بإنتظار العودة بعد أن أعلن عبد الناصر ” حنحارب ” .
بعد الكرامة ، يقرر ياسين الإلتحاق بالعمل الفدائي ، ” فإن كان ثمّة ذكرى للمجزرة فعليّ أن أعمل جاهداً لتكون هناك كفّة أخرى ، كفة ذكرى محو المجزرة ” . ص135 .
ولمحو المجزرة أعاد التساؤلات التي ربما كان من المفترض أن مسار التاريخ :
هل كان بوسعنا تجنّب المجزرة ؟
هل كنا سنبذل جهداً كي لا يموت عبد القادر الحسيني ؟
هل سنحصّن دير ياسين جيداً أو نستعدّ للمواجهة جيداً ؟
هل كنا مخدوعين ، أم كنا عاجزين ؟
لماذا رفض جيش الإنقاذ أن يدخل ؟ وماذا لو تدخل ؟
هل كانت المجزرة قَدَر ؟
طردوا ياسين من المعسكر مرتين بسبب مرضه ، أو بسبب رؤيته الأكثر وضوحاً في مؤشرٍ إلى الهزيمة المستقبلية .
كان ياسين مريض بوَرَمٍ في الدماغ يؤدي إلى رؤيته الأشياء مقلوبة .
إن الصورة المقلوبة التي تتشكل في دماغه هي الصورة الرافضة لواقع مهزوم ، بدءً من استشهاد القائد عبد القادر الحسيني الذي ارتكبت المجزرة بعد يوم من استشهاده .
مقابل هذه الصورة ، يورد أحمد أبو سليم كل تفاصيل المجزرة وكأنه يحاول أن يبني في ذاكرتنا صورة التناقض بين من شُرّدوا من أرضهم ، ومن يسعى لبناء مدينة فاضلة قائمة على الموت والتنكيل والإستباحة . ” كنت افهم هذا وأعيه تماما ، فنحن على كل حال نقيضان مهما بدا الأمر غير ذلك ، إنهم يحتفلون بعيد استقلالهم يوم نكبتنا ” .ص209 .
” لماذا نُقيم كل عام نُصُباً للمجزرة ؟ لنعلم أبنائنا ؟
نحن لا نعلمهم ، نحن نعيد إشباعهم بها .
لا أحد يقيم مَلْطَمة كل عام إلا المهزوم . سنصبح ذات يوم مهزومين ، لأنني أرى صور الضحايا على الجدار كل عام . ولا أرى صور من قاوموا واستشهدوا وهم يدافعون عن القرية كي لا يصبح الضحايا ضحايا.
العالم لا يُعطي أوطاناً … حين أشفق علينا العالم عاملنا كضحايا وأعطانا طحيناً وخياماً .
ربما آن الأوان كي نخرج من البرواز ، من صورة المعركة إلى المعركة ، من صورة الوطن إلى الوطن .
المفتاح صورة مشوّهة للبيت .” ص232
في هذا الإحتجاج ، الذي جاء على لسان طالبة جامعية ، تحتجّ على معرض يستذكر النكبة والمجزرة ، يتجلّى وعي الهزيمة ، وعي الهوية ، والإيمان بحتمية الإنتصار .
لذا ، أعتقد أن العملية الجراحية الصعبة التي كانت مقترحة لياسين لتخلّصه من مرضه ، هي عملية مقترحة لنا نحن . نحن أبناء المذبحة المستمرة بكلّ الاشكال والوسائل والأوات ، علينا أن نعيد صياغة وعينا ، لنقول بوضوح وجديّة : إن هذا العدوّ الذي أسّس دولته على أشلاء شعبنا ، لا يمكن أن يكون طبيعياً بيننا .
قرار ياسين بالتخلّي عن كل ما يُثقل ذاكرته ليس تخلياً ، إنما وعياً بالهزيمة المستمرة ، ورفضاً لها .
إن عُرْيَـــــه إشارة إلى نزعِه كلّ الوعي الزائف الذي بُثّ في أذهاننا لنعيش المجزرة بسلام .
” رميتُ بكل شئ إلى الخارج بلا أسف .
وتركتُ البيت فارغاً ، وبقيت أنا الحقيقة الوحيدة فيه :
أنا وصورة خالي مع عبد القادر الحسيني وبهجت أبو غربية بسلاحهم ” . ص240