البحث عن الهويّة في عمق التاريخ العربيّ
تاريخ النشر: 27/07/21 | 17:12د. عايدة فحماوي وتد
محاضرة في الأدب العربيّ الحديث.
“أنتَ الْواقفُ أمامَ عتبةِ النّصِّ، عليْكَ الْآنَ، أنْ تَملُكَ حرارةَ الصّحراءِ في الْقلبِ، وكثيرًا مِنْ عشقِ الْمَجْدِ… / كيْ يستريحَ النّصُّ… بَيْنَ يديْكَ مِثلَ السّيفِ الْعائدِ مِنَ النّصرِ. ولكيْ تَجْتازَ الْعتبةَ، وتَدخلَ معي في سَفَري، عليْكَ أنْ تَتركَ هُنا كلَّ مَتَاعِ الدُّنيا… وتكونَ معي في سَفَرِ التّاريخِ إلى الْوراءِ.”
هكذا يقدّم الشاعر وهيب نديم وهبة لكتابه خطوات فوق جسد الصحراء مخاطبًا قارئ الديوان، ومصدّرًا لقصيدة طويلة يربط بين أجزائها سفر القمر في جسد القصيدة، فيصبح القمر معادلًا موضوعيًّا (objective correlative) لخطوات العربيّ ورحلته التاريخيّة فوق جسد الصحراء:
“قَمَرٌ
فوقَ ليلِ الْجَزيرةِ / ويداكَ مِنْ فِضّةٍ /
وجسمُكَ مِنْ تُرابٍ”
“قَمَرٌ
يَرسُمُ ظِلَّ الّلونِ / يَلعبُ في فُرشاةِ الضّوْءِ /
يَرسُمُ بَحرًا وجَزيرةً”
“كانَ الْقمرُ يتنزَّهُ في بُستانِ الْأرضِ
يُصْغي إلى أصواتِ أُغنياتِ الْمَاءِ”
[…]
“قَمَرٌ
يَرْسُمُ وخيالاتٌ بعيدةٌ…
دَخَلتْ مدائِنَ الرُّخامِ والْحريرِ”
“قَمَرٌ
يا بدرَ الْبُدورِ يُغطّي السّماءَ
يَفتَحُ سِفْرَ التّكوينِ وَرَسْمَ التّلوينِ”
ويمكن للقارئ أن يلحظ مركزيّة “القمر” على مسرح القصيدة؛ فتتعدّد صوره وتتلوّن معها تداعياته الوظيفيّة، ويتحوّل متّخذًا أقنعة متعدّدة لأصوات تاريخيّة متداخلة: يتنزّه في بستان الأرض، يرسم مدائن الرخام والحرير، وينتظر الفارس “الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم” القادم من صحراء الجزيرة:
“أسمعُ نشيدَ النّخيلِ في إنشادي / أسمعُ ملائكةً تَهْتِفُ باسْمكَ / وعِبادًا تشهَدُ أوْ تَستَشهِدُ باسْمِكَ /
في لحظةِ خلْقٍ أُلوهيّةٍ
فتحَتِ السّماءُ أبوابَ الْجنّةِ / وخَرجَتْ للعالمينَ رسولا
مِنْ أبوابِ سماءٍ عُلويّةٍ / هتفَ صوتُ جبريلَ في الْغارِ
“زَمِّلوني”/ هوَ صوتُ الْحقِّ يهدُرُ كالْعاصفةِ / هوَ أنتَ سيّدُ الْأرضِ / خرجْتَ رسولا / وأُنزِلَ عليكَ الْكتابُ * اقرأْ باسمِ ربِّكَ الّذي خَلَق”
ويبدو اختيار الشاعر للقمر كمعادل موضوعيّ للعربيّ الذي يجاور خطوات التاريخ متناغمًا مع دلالاته السياقيّة؛ فالقمر قبل كلّ شيء رفيق الصحراء العربيّة، هو ركن من أركان القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة، كما ويشير إلى التقويم الهجريّ، ولا ننسى أن القمر يشير إلى مركز العبادة الأولى، إذ أنّ الديانات القمريّة أقدم من الديانات الشمسيّة، بالإضافة إلى أنّ القمر يشير إلى التحوّل من خلال دورته وشكله المتغيّر تبعًا لذلك، لذا يختار الشاعر القمر ليسافر من خلاله في تاريخ العرب ويظهر تحوّلاته الفكريّة والعقائديّة والاجتماعيّة والأدبيّة. وحالما نبدأ بقراءة الصفحات الأولى من القصيدة نلاحظ دخول صوت المتكلّم إلى السياق الشعريّ حيث يعلن الصوت عن رغبته في مجاورة خطوات ذلك القمر، فيقول:
“حَنيني ليسَ على حَجَرٍ / على رَسْمٍ على الْقِفارِ /
حنيني لِمَنْ سكنَ الدِّيارَ…
خُذْني مَعكَ خُطْوتي في الْهواءِ / أضَاعَني قَدَري… والْأُفُقُ في مِعْصَمِي
كانَ يُشيرُ لي إلى الطّريقِ…
تَخاصَمَ في ليلِ الْأعاصيرِ معْ بَصَري
كانَ هواءً صارَ ريحًا / صارَ إعصارًا / أينَ مَوْطِنُ قَدَمي أينَ الطّريقُ؟”
حنين المتكلّم في القصيدة (persona-البرسونا) للماضي، للتراث، للتاريخ، للامتداد الطبيعيّ عبر الزمان ورغبته في السفر عبر الماضي، نراه ممتزجًا بشعوره بالغربة والضياع وفقدان الهويّة، ولهذا فإن الحنين يشير إلى محاولة البحث عن خارطة الهويّة من خلال تتبّع خطوات جماعيّة في الماضي، لذا فإن المتكلّم في القصيدة يصبح صوتًا جمعيًّا يعبّر عن رغبته في العودة للجذور حيث يشعر بالأمان، فالحاضر أصبح ضياعًا وغربة ومنفى:
“خُذْني معَكَ / أدْخُلُ خَيمةَ التّاريخِ /
عَباءَتي الشّمسُ والصّحراءُ يدي…
وأصابعي أَودِيةٌ دائمةُ الْجَرَيانِ بالْحِبرِ والْكِتابةِ.
خُذْني معَكَ / خُطْوتي في الْهواءِ /
أَضاعَني قَدَري وبَيْني وبَيْنَ مملكتي
يقِفُ الْغَريبُ وقاطِعُ الطَّريقِ
والسَّيفُ والجلّادُ وَالْمِقصَلَةُ
والطّريقُ إلى رِحابِ مَكّةَ طويلةٌ
ولَيْلٌ مِنَ الضّبابِ كثيفٌ…”
إن هذه القصيدة تؤكد ضرورة البحث في الماضي والنبش فيه لاستعادة معنى الحاضر المفقود، إنها ترى ضرورة قصوى في العودة إلى عزّة الماضي وإلى عبق الماضي، ونحن نشتمّ فيها رائحة الجزيرة العربّية، جاهليّة وإسلاميّة، وكأنّ الحضارة امتداد لا ينقطع، وممّا يؤكّد هذا التضمينات للآيات القرآنية التي تحفل بها القصيدة.
في نفس الوقت، يشعر القارئ بأن خشبة المسرح تهتزّ لوقع أقدام عنترة وبكائيّات مجنون ليلى، وأذان بلال. فيمزج الشاعر بين عناصر الحياة العربيّة والإسلاميّة: الحب، البطولة، وفيما بعد الإيمان الدينيّ العميق، إنّها العناصر الثلاثة التي تملأ شقوق الحياة العبثيّة التي عاشها الإنسان العربيّ، ويضيف إليها الشاعر عنصرًا رابعًا هو الحكمة، فالشاعر يضمّن أيضًا عناصر للفلسفة اليونانيّة بأشكالها المختلفة داخل القصيدة.
تبدو لنا رؤية الشاعر في أساسها تبحث عن الحاضر في شكل الماضي، وتبحث عن الهويّة المفقودة عن طريق هويّة السلف، وعن سؤالنا للشاعر حول صياغة التاريخ بهذا الشكل قال:
“إن صياغة التاريخ بهذا الشكل المستحدث هو تقريب بين النصّ التاريخي وبين عظمة الإنسان وقوّة الحضارة الإسلامّية التي كانت، لهذا فحين أعيد صياغة هذا التاريخ، تشعر بأنّك ليس فقط قريبًا منه بل أنتَ المحور العالميّ، فجميع الثقافات العالميّة اقتبست من الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وفي جميع العلوم في الكيمياء والفيزياء والرياضيات كان الغرب في ظلمة واخذ منا النور حتّى علم الفلك والفضاء، فالعالميّة هي الحضارة العربيّة والعودة للجذور بدون الأصل لا يمكن الوصول إلى العالميّة.”
ويضيف الشاعر عن تجربة مسرحة القصيدة فوق جسد الصحراء المحترق بأنّه “يعيد لهيب الحضارة الإسلامية الراقية التي سمت بخطوات الرسول صلعم حين كنّا عصبة واحدة وقوى مؤمنة بوحدانيّة الله والخير والعمل الصالح”. أو بكلماته الشعريّة:
“هيَ لحظةُ خلقٍ في التّكوينِ
أنْ تعودَ إلى مَكّةَ
وأنْ تكونَ «حجّةُ الْوداعِ»
لا إلهَ إلا اللهُ”
إشارة:
• هذه المقالة الواردة في /خطوات فوق جسد الصحراء/ الطبعة الثامنة 2021.