الرياضيون العربُ يسقطونَ التطبيعَ بالضربةِ القاضيةِ
تاريخ النشر: 28/07/21 | 11:56بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
إنهم الأقرب إلى شعوبهم، والأصدق مع معتقداتهم، والأبسط في حضورهم، والأشد ضجةً بانسحابهم، والأكثر تعبيراً عن نبض شارعهم، والأجرأ إعلاناً عن مواقف مواطنيهم، رغم أن الكثير منهم لم يسعفه الحظ لمواصلة الدراسة واستكمال التعليم، وليسوا خطباء وواعظين، ولا موجهين ومرشدين، بل هم من عامة الناس وبسطائهم، إلا أن فهمهم الدقيق لقضايا أمتهم وهموم شعوبهم، وأصالة تربيتهم ووطنية نشأتهم، واستقلالية قرارهم وشديد غيرتهم، يجعلهم الأكثر وعياً وإدراكاً للمخاطر التي تحدق بالأمة، وتهدد مستقبلها وتستهدف وجودها ومقدراتها، وتطمع في خيراتها وكنوزها.
إنهم الرياضيون العرب، أبناء الأمة الحية وطلائع العروبة الأصيلة، الذين يفرطون بالشهرة والمجد الرياضي، ويتخلون عن الميداليات والأوسمة، ويتنازلون عن المكاسب والأرباح، وعن الهدايا والأموال، والحوافز والهبات، رغم فقر أغلبهم وعوز أكثرهم، إلا أنهم يُغَلِّبون الوطن على الذات، وينتصرون لفلسطين على الأعداء، ويقدمون المبادئ على الأهواء، ويتقدمون للمشاركة في النضال والمساهمة في المقاومة، بالقدر الذي يستطيعون، وبالموقف الذي يقدرون، وبالرفض الذي يقررون، وبالانسحاب الذي يفرضون، ولعلهم يحوزون بمواقفهم الوطنية والقومية احترام شعوبهم وتأييد أهلهم، الذين يحفظون أسماءهم، ويرفعون صورهم، ويخلدون مواقفهم، ويتزاحمون في المطارات لاستقبالهم، ويتنافسون في زيارتهم والسلام عليهم.
لم يكن لاعبا الجودو الجزائري فتحي نورين والسوداني محمد عبد الرسول، هما أول لاعبين عربيين يرفضان الخضوع لقانون القرعة الأولمبي، ومنازلة خصومهم الإسرائيليين، وإن كانوا الأحدث في هذه السلسلة، بعد أن رفضوا في أولمبياد طوكيو 2021، مواصلة المباريات مع الرياضيين الإسرائيليين، فقد سبقهم كثيرٌ من العرب والمسلمين، الذين كان لموقفهم دويٌ كبير وأصداء واسعة، أشعرت الإسرائيليين بعمق مأساتهم وسوء سياستهم، وفحش احتلالهم ووحشية حكومتهم، وأشعرتهم بالخزي أمام زملائهم، وبالحرج أمام المضيفين والمنظمين، إذ يؤثر اللاعبون العرب الخسارة أمامهم على مصافحتهم، ويفضلون الانسحاب على الاعتراف بهم، ويقبلون بالعقوبة والحرمان لئلا “يوسخون أيديهم” ويلطخون شرفهم الرياضي بملاقاة الرياضيين الإسرائيليين.
الإسرائيليون غاضبون جداً مما يحدث، ومستاؤون كثيراً مما يلاقون، ويحزنهم أنهم يُقاطعون ويعزلون، وأن الرياضيين العرب الذين عولوا على حكوماتهم التي اعترفت بهم وطبعت معهم، وصالحتهم وعاهدتهم، يقاطعون رياضييها، ويرفضون مصافحة مواطنيها، ويعلنون أنهم لا يصافحون نجساً، ولا ينازلون عدواً، ولا يقبلون بقرعةٍ تفرض عليهم الوقوف أمام محتلين لبلادهم وغاصبين لحقوقهم، ويتذكرون اللاعب المصري إسلام الشهابي الذي رفض مصافحة نظيره الإسرائيلي في أولمبياد ريو 2016، ومواطنه محمد عبد العال في طوكيو، والكويتي محمد الفضلي في أمستردام، وغيرهم كثير ممن أثبتوا وطنيةً عاليةً، وانتماءً إلى عروبتهم كبيراً.
تصر إدارة الأولمبياد والمؤسسات والهيئات الرياضية الدولية على عدم تسيس الأنشطة الرياضية، وعدم إخضاعها للمعايير السياسية، وتحاول أن تفرض على الدول الأعضاء جميعها القبول بالشروط الرياضية وعدم الاعتراض على نظام القرعة، الذي يحدد هوية الرياضي المنافس، وتفرض عقوباتٍ قاسية على المخالفين لشروطها، فتقصي لاعبيها، وتحرم أنديتها، وتسحب اعترافاتها، وتلغي نتائجها وتستعيد ميدالياتها، وغير ذلك من الإجراءات التي تهدد بها وتتوعد، لكن الأندية الرياضية العربية، وأغلب الرياضيين العرب، يرفضون الخضوع لشروط الهيئات الرياضية الدولية، ويصرون على ممارسة قناعاتهم وعدم مخالفة ضمائرهم الوطنية والقومية، ولو كان ثمن ذلك الانسحاب من المباراة، التي قد يكون فوزهم فيها أحياناً مؤكداً.
يدرك الإسرائيليون أن الأنظمة العربية المطبعة أنظمةٌ مفلسة، وأنها لا تمثل شعوبها ولا تعبر عنهم، ولا تستطيع أن تقنعهم أو تفرض عليهم، وأن السلام معها باردٌ جداً وهزيلٌ للغاية، ولن تجعله الصور والابتسامات والزيارات والتهنئات دافئاً أبداً، ولن تحوله إلى حالة تطبيعٍ وقبولٍ شعبي بهم، وإنما هم أمام ظاهرة تتنامى وتكبر، وتتسع وتنتشر، ولا تشمل الرياضيين فحسب، بل تشمل كل الفعاليات والأنشطة الدولية، التي يشارك فيها عربٌ وإسرائيليون، فقد عانوا من مقاطعة الفنانين والفنانات، والصحفيين والصحافيات، الذين يرفضون جميعاً مصافحة الإسرائيليين والحديث معهم، بل إنهم يرفضون النظر إليهم والابتسام في وجوههم، ولا يقبلون أن يردوا التحية عليهم أو أن يلتقطوا صوراً معهم أو بالقرب منهم.
سيكبر حجر المقاطعة العربية يوماً بعد آخر، وسيفج به العربُ جميعاً رأس الكيان الصهيوني الذي ظن أن الأرض العربية أصبحت أمامه مفتوحة، وأن اختراقه لها ميسرٌ، وتطبيعه مع أهلها سهلٌ، وأنه يستطيع أن يسير فيها مطبعاً سير السكين في الزيد الطري، ولكنه أدرك أن أقدامه فيها تسوخُ، ووجه يسود، وصورته تتشوه، وأنه لا يستطيع أن يحقق مع الشعوب العربية ما حققه مع حكوماتها وأنظمتها، وأنه في كل يومٍ سيتلقى من أبناء أمتنا العربية لطمةً على وجهه وركلةً على قفاه، ولن يجد منهم بسمةً تريحه، ولا بشاشةً تطمئنه، ولا قبولاً يمكنه، مهما حاول أن يزين وجهه القبيح، أو أن يجمل صورته البشعة المقيتة.