عظمة الرجال:
تاريخ النشر: 30/07/21 | 9:38محمد سواعد- ابن الحميرة
تعرف عظمة الرجال وأقدارهم عند المنعطفات الوجودية التي تتعرض الأمة والتي تهدد واقع الأمة ومستقبلها، فيفزعون لإنقاذ الأمة من هذه المخاطر، وبهمتهم وجهدهم تكشف الغمة ويرتفع الكرب، بل ويغيرون عجلة التاريخ ويحفظون بوصلة الأمة من الانحراف والضياع، ومن هؤلاء الرجال كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهو أول من آمن الرجال واتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأنفق من ماله ونفسه في نصرة رسوله ودعوته حتى قال فيه رسول الله: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة، ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما علم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه.
وهو رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في أشد المواقف في يوم الهجرة حين لاحقتهم قريش بكل قوتها وجبروتها، فكان أبو بكر رضي الله عنه نعم الرفيق والصديق والحارس المفدى لنبيه حتى وصلا دار الهجرة بسلام وأمان، وهو اعمق الصحابة فهما وتدبرا في معاني القرآن حيث أنه بكى عندما سمع سورة النصر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه السورة خرج على أصحابه كالمودع لهم، فخطب فيهم فقال في خطبته: ان الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، وقال: فديناك بأنفسنا وآبائنا وأولادنا يا رسول الله. قال الراوي: فعجبنا لبكائه أيخبر الله عبداً من عباده، ويخبر عن الرسول فيبكي له أبو بكر فكان رسول الله هو المخير.
وأعظم مواقفه رضي الله عنه أنه وضع للأمة منهجية فكرية وعقلية لإدارة الأزمات والصراعات التي تتعرض، قال ابن رجب: “ولما توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهِش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل (حُبِسَ) لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية”. وظل الصحابة رضوان الله عليهم على هذه الحالة من الاضطراب والحيرة حتى جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله (بين عينيه)، قال: بأبي أنت وأمي طبتَ حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج فقال: ألا مَنْ كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر:30)، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144)، فنشج الناس يبكون) رواه البخاري.
والموقف الثاني الذي وقفه رضي الله عنه وخط فيه المنهجية الفكرية هو موقفه العظيم يوم الردة حيث ارتد بعض العرب عن الإسلام منهم من امتنع عن دفع الزكاة فكان موقف ولكن أبا بكر رأى في الامتناع عن دفع الزكاة هدْماَ لركن من أهم أركان الدين، فقال: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، واللّه لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، وهذا حَزْمٌ منه ثقة بنصر اللّه، بل هو منتهى الحزم، وسير الجيوش لقتال المرتدين حتى قاتلهم في معارك متعددة
إن هذه المواقف العظيمة المفصلية التي وقفها هذا الرجل أثناء خلافته التي لم تستمر طويلا، ولكنه رسم للأمة منهجية فكرية في التعامل مع الأحداث بعقل وروية وحكمة ونظر في عواقبها وليس تهييج العواطف والصراخ والنحيب، حتى قال علي بن المديني: “أعز الله الدين برجلين: أبو بكر الصديق في حروب الردة، وأحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن”.
فحياة الرجال وعظمتهم بمواقفهم الراسخة عند المنعطفات التي تعصف بالمجتمعات، ولنا في أبي بكر رضي الله عنه القدوة والأسوة الحسنة في ذلك.