سفر التنكيل قراءة في رواية ” أسرى وحكايات ” للأسير أيمن الشرباتي
تاريخ النشر: 01/08/21 | 11:45صالح حمدوني
كاتب وفوتوغرافي – الأردن
ينقطع الفعل الإنساني في حالتين : السجن والموت .
والفعل الإنساني في أسمى تجليّاته هو تأكيد الحضور ، إثبات الوجود ، مثل طبعة البصمة في ملف الحياة .
الموت هو حالة الغياب الكلّي ، غياب الجسد والروح ، الفعل والأثر ، غياب الزمن وانتفاء المكان ، ومعه ينتفي الجسد .
لكن الفلسفات الأرضية والسماوية أكدت أن الروح تنتقل إلى عوالم أخرى أو أجساد أخرى .
في الأسر ترفض الروح إلا تأكيد وجودها . لذا تتحوّل الكتابة إلى فعل تُقاوم الروح من خلاله لتأكيد حضورها ، وإصرار جسدها على البقاء من خلالها .
الكتابة ملاذ أخير ، وربما وحيد ، ليقول الأسير بعد 24 عاماً من الأسر ، أنه موجود وحيّ .
24 عام في حالة أيمن الشرباتي ، تُحيل السؤال عن ما هية الكتابة أو ما أهميّتها إلى سؤالٍ هزليّ . فهي والحالة هذه كل شيء .
أيمن الشرباتي ، أسير فلسطيني يقضي حكماً بالسجن المؤبد منذ عام 1998 ، يحكي في كتابه حكايات عن السجن ومن السجن .
بحسب ترتيب زمني للنصوص فيه ، نجد أن أوّلها كُتب في عام 2008 بعنوان ” عتمة الزنازين وضوء القناديل ” ، وفيه يعرض مفردات السجن ، أي المفردات التي تجعل أي مكان على هذه الأرض سجناً موغلاً في الوحشة والألم ، فيه ” استصلح السجّان أجسادنا وحوّلها إلى مزارع للوجع ” . ص18 من النسخة الإلكترونية
يتحدث فيه عن الليل والسكون والقيد والضجر ” المعلّق بين رئتين ” ص19 ، يحكي فيه عن الفجر الذي يتحوّل الى بحر هائج يبتلع السفن ، ويحكي عن اليأس والدموع مقابل دفء الروح . مفردات تحوّل السجن إلى غول يحاول أن يكسر الأسرى ويسلب أرواحهم وينكّل بأجسادهم .
هذا الفصل الذي كتبه أيمن الشرباتي في سجن هداريم حسب ما يؤرخ له ، هو نصّ ذاتيّ ، يعمد فيه (المواطن) أيمن حسب التسمية التي اشتهر بها في السجون ، إلى التداعي و البوح ليقول تفاصيل عن حياة الأسر و مفردات كوّنت له تجربته الخاصة .
يذهب أيمن الشرباتي إلى تدوين سيرة الأسر من خلال الفكاهة ، حيث يروي ” حكاية سجناء عقدوا العزم على مهاجمة قسوة السجن برقّة الابتسامة ، و كسر وحشة الحرمان من الأهل بمدّ جسور المحبة ، بعد أن أصبحوا يتحلّون بخبرة واسعة من خيبات الأمل من الحلول السياسية و عمليات تبادل الأسرى.” ص4
وينقلنا في الفصل الأول إلى حالة يعاني منها الأسرى ، حيث يحكي عن خبر وفاة شقيقه ، والحسرة والحزن والغضب لعدم قدرته على المشاركة في مراسم التشييع ، لكن قدرة أحد الأسرى على التقاط بثّ إذاعي من الخليل يتيح له مشاركة التشييع عبر الأثير ” فقد انضمت إليها عبر طريقة بريل التي يقرأ بها فاقد البصر .عبرتُ الشارع المذكور بإصبعي مُراعياً حركة المشيّعين وهي تسير بخطىً متسارعة .”ص15
وعبر الإبتسامة التي يلح أيمن على تدوينها ، يعرض ” سفر التنكيل” الذي يتعرض له الأسرى و كيف يتحول السجن إلى ” وحش يعتاش على موتك البطيْ ، و أنت أعزل إلا من صرخة ألم تُطلقها فترتطم بالجدار الإسمنتي و تهوي و تعاود اجترارها “. ص77
و كيف يتحول مجرد الإنتقال من زنزانة ضيقة معتمة إلى أخرى فيها شباك أكبر يُطل على سماء و أرض البلاد ، يتحول إلى احتفال و اكتشاف جديد .
لغة أيمن بسيطة و أليفة و تذهب إلى القلب مباشرة . مع ملاحظة أنه حاول في فقرات إبراز أسلوب خاص به ، في بعضها أبرز تأثره بلغة القرآن الكريم ” في الفصل الأخير تحديداً ” وفي بعضها تبدو الكتابة مُتكلّفة ومُصطنعة . وفي أخرى هناك استرسال في الحوار وعرض وجهات نظر المتحاورين ، تحديداً في فصل ” روح الجبل ” الذي ينسج فيه قصة مجموعة كشفية فلسطينية ، ويقدم فيها أسئلة مهمة تتعلق بوعي الجيل الجديد من الشباب ، وفهم طبيعة الصراع مع العدوّ ، والتردد بين قبول أو رفض تقديم المساعدة للعدوّ من منطلق إنساني . كما أكّد على فكرة الحوار الواعي والضروري لتوحيد الأفكار لإجتراح خطط العمل اللازمة .
في فصل ” تكنولوجيا الأساطير ” والذي كتبه في سجن نفحة الصحراوي ، يستعرض – وعبر الفكاهة أيضاً – قدرة الأسرى على تعلّم تكنولوجيا لم يعيشوا مراحل تطورها ، مثل الهاتف النقّال ، وكيف يتحول الهاتف الذي تمّ تهريبه إلى السجن لملاذ ومنقذ .
في هذا الفصل يعرض أيمن مشاعر وآمال الأسرى حين يتم الحديث عن قرب إنجاز مفاوضات تبادل الأسرى . وما يُعانيه الأسير من حزن وأمل حين يسمع ما يرشح من شروط واحتمالات شمول البعض فيها . كما يؤكّد غير مرّة على إنهاء الإنقسام الذي يؤثّر حتى على حالة الأسرة أنفسهم داخل المعتقلات .
المقاربة الأعلى في كتاب أيمن الشرباتي هي مقاربة حالة الأسير بحالة السيد المسيح ، فيقول :
” أنت أشبه بالمسيح، والذي شُبّه لبعض النّاس أنّ الرّومان صلبوه في القدس، وأنت مصلوب في هداريم . صليبه من خشب وصليبك من حديد .
ولائحة اتّهامه كانت باللّغة العبريّة وأنت كذلك .
المسيح اتُّهم بالهرطقة الدّينيّة، والمساس بأمن الهيكل، وأنت متّهم بالهرطقة القوميّة والتّشكيك بوجود الهيكل ،
وسيّدتنا مريم هزّت بجذع النّخلة لتأكل وتطعم ثمرة بطنها المباركة ، وكذلك أمّك رحمها الله هزّت غصن الزّيتون وهي تحملك جنيناً في بطنها لتأكل وتطعمك من ثمارها .
فهنيئاً لنا ظهورك بيننا في سجن هداريم ، فهذا يعني أنّنا سنكون تلاميذ “المسيح” العائد بعد ألفي عام من الغياب ليحارب الظّلم ويقيم العدل …. وهذا الطابور طابوره الأخير ” . ص98