محاولة لتفسير ما يجري من قمع غير مسبوق
تاريخ النشر: 24/08/21 | 9:39بقلم: هاني المصري
خططت منذ أسبوع لكتابة مقالي الأسبوعي حول أفغانستان، وما يجري فيها، ودلالات ذلك وآفاقه وانعكاساته المحتملة على حركة طالبان وأفغانستان، وعلى القضية الفلسطينية والمنطقة المجاورة لها، وعلى الولايات المتحدة التي لحق بها هزيمة، فما جرى ليس انسحابًا منظمًا، وإنما هروب مخزٍ، وكذلك على الصراع الأميركي الصيني الروسي.
ولكن، ما حدث من اعتقال لواحد وعشرين شخصًا، مساء السبت الماضي، وخمسة أشخاص، مساء الأحد، من ضمنهم رموز وطنية، وأسرى محررون، وقامات أدبية وثقافية وعلمية، مثل المثقف المتعدد الملتزم الصديق زكريا محمد؛ غير مخططاتي، وجعلني أكتب هذا المقال الذي أحاول فيه تفسير دوافع القمع غير المسبوق وأسبابه ومآلاته، الذي تصاعد بشكل كبير وخطير منذ جريمة اغتيال الشهيد نزار بنات.
لا أوافق على القول بأن القمع الحاصل في الأشهر الأخيرة استمرار للقمع الذي مارسته السلطة منذ تأسيسها. فعلى الرغم من أن الاعتقال السياسي مرفوض في كل الظروف والأحوال، ومهما كانت الأسباب، وسواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، إلا أن هناك فرقًا بين أن يكون له ما يفسره، أو يأتي بلا سياق أو كنوع من الجنون، أو أن يكون غامضًا حتى الآن.
لأوضح ما ذهبت إليه، أقول إن الاعتقالات التي نفذتها السلطة في عهد الشهيد الراحل ياسر عرفات، التي كانت تملك شرعية فلسطينية وخارجية، كانت ضمن عملية تهدف إلى الحفاظ على هيبة السلطة، وقدرتها على احترام التزاماتها في اتفاق أوسلو سيئ الصيت والسمعة، الذي شهد في تلك الفترة عملية سياسية تحكمها مفاوضات للمرحلتين الانتقالية والنهائية، تشمل القضايا الأساسية، والتزامات متبادلة ترتب عليها إعادة انتشار قوات الاحتلال من مناطق واسعة، وكان من المفترض أن تصل إلى 90% من الضفة والقطاع عشية المفاوضات النهائية لو تم تنفيذ ما اتفق عليه في اتفاق أوسلو. وأُقيمت سلطة على مناطق (أ) و(ب)، وحُظِر على قوات الاحتلال دخول مناطق (أ) إلا في حالة المطاردة الساخنة.
يكمن جذر الخلل في موت ما سمي “عملية السلام”، وتنكر الحكومات الإسرائيلية لالتزاماتها كليًا، واستمرار تطبيق الالتزامات الفلسطينية رغم الخرق الإسرائيلي للاتفاقيات منذ البداية، والتنكّر لها كليًا، وخصوصًا منذ العام 2002، عندما أعادت قوات الاحتلال احتلالها المباشر لمناطق السلطة، واستباحتها بشكل دائم، إذ تعتقل من تشاء وقتما تشاء، بحجة أن هذا يحقق المصلحة الفلسطينية، في حين أن هذا خطأ فادح كونه جاء في سياق تمديد الفترة الانتقالية التي انتهت منذ أكثر من عشرين عامًا حتى إشعار آخر، بدلًا من تغيير المسار، ما أدى إلى تآكل مصادر الشرعية، ما عدا شرعية القوة والقمع على يد الأجهزة الأمنية.
كانت الاعتقالات السياسية، سابقًا، في معظمها لأفراد أو قيادات تنتمي إلى حركة حماس، كونها تنفذ وتخطط لتنفيذ عمليات المقاومة، وخصوصًا العمليات الاستشهادية، وهذا اعتبر مهددًا للعملية السياسية التي كان هناك وهم بأنها ستؤدي إلى تجسيد الدولة الفلسطينية والاستقلال الوطني.
أما القمع والاعتقال بعد اغتيال ياسر عرفات فكان دفاعًا عن السلطة وتنسيقها الأمني مع الاحتلال رغم عدم وجود عملية سياسية، وإنما مخطط إسرائيلي لفرض الحل الإسرائيلي من خلال خلق الحقائق على الأرض التي تجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن والمطروح عمليًا، تحت تأثير وهم بأن الالتزام الفلسطيني من جانب واحد وإثبات الجدارة يمكن أن يحقق ما لم يتم تحقيقه، وما حدث العكس تمامًا، ولم يتم رغم ذلك تغيير المسار.
المتغير الجديد الآن أن الأفق السياسي المطروح واضح إلا لأعمى البصر والبصيرة، وهو السعي لتأبيد الوضع القائم، وفرض التعايش مع المخططات الإسرائيلية، كنتيجة أو بالتوافق مع أن السلطات والصلاحيات في السلطة والمنظمة تجمعت في يد شخص واحد وعدد من المساعدين، في ظل تجويف مختلف المؤسسات والسلطات، واستمرار تجميد منظمة التحرير، وحل المجلس التشريعي، وتغوّل السلطة التنفيذية، وخصوصًا الأجهزة الأمنية، على كل السلطات، لا سيما السلطة القضائية، وهذا كله قضى أو يكاد يقضي على مختلف أسس ومقومات المشروع الوطني والشراكة والجبهة الوطنية والإجماع الوطني.
هناك تفسير لما يجري بأن السلطة تشعر أو تروج بأن وجودها مهدد، وأن هناك مؤامرة إقليمية تريد السيطرة عليها لصالح أطراف أخرى، تارة تيار دحلان، وتارة أخرى “حماس”، من خلال تنفيذ انقلاب يمتطي صهوة هبة القدس وسيفها واغتيال الشهيد نزار بنات، وهذا يدلل عليه بما طرحته “حماس” بعد معركة سيف القدس من رؤية مثلت انقلابًا على الاتفاقات السابقة بخصوص المصالحة، وطرحت نفسها بديلًا وليس شريكًا.
هذا التفسير غير صحيح بالمرة، لأن رؤية “حماس” الخاطئة المبنية على تطورات مبالغ فيها، سرعان ما تم التراجع عنها أو سحبها من التداول، جاءت ردة فعل على الانفراد بالقرار الفلسطيني، والانقلاب على مقررات الفصائل الصادرة في اجتماعات القاهرة 2021 وما قبلها، وخصوصًا تأجيل الانتخابات بشكل انفرادي خشية من نتائجها، ولأن الاحتلال هو اللاعب الرئيسي والوضعين الإقليمي والدولي يدعمون بقاء السلطة وشرعية الرئيس، ويعارضون كليًا تبوء “حماس” أو غيرها قيادة السلطة والمنظمة، وهناك دلائل لا حصر لها على ذلك، وأكتفي بإبراز اثنتين منها:
الأولى: وجود تغطية إقليمية ودولية كبيرة، تكاد تكون شاملة، مع تشجيع كبير لعدد من الدول، على رأسها الولايات المتحدة، لقرار تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى.
الثانية: أن “حماس” بعد وقف إطلاق النار لم يتم الاعتراف بها، ولم يجر حوار أميركي أو أوروبي مباشر معها – كما راجت أخبار بعيد المعركة تبين أنها أوهام – وإنما أُغرقت بمفاوضات هدفها إعادة الأمور في قطاع غزة في الحد الأقصى إلى ما قبل سيف القدس، ما يفتح مختلف الاحتمالات، بما فيها مواجهة عسكرية أخرى عاجلًا أم آجلًا، وكسر الترابط الذي حصل بين صواريخ المقاومة وبين القدس والقضية الوطنية، وإعادتها إلى ما كانت عليه ضمن معادلة “هدوء مقابل تخفيف الحصار”.
وجدت السلطة نفسها عارية بعد فقدان مصادر الشرعية الداخلية (الشرعية الثورية، وشرعية المقاومة والتوافق الوطني، وشرعية صناديق الاقتراع، وشرعية الإنجاز)، إذ لم يبق لها سوى مصادر الشرعية الخارجية، وشرعية القوة والأمن، بعد أن فشل مشروعها السياسي، ولم تتبن مشروعًا جديدًا، وتخلّفت عن قيادة شعبها في انتفاضة القدس بكل تجلياتها، وشعرت بأن الأحداث تجاوزتها، وأرادت أن تمسك بزمام المبادرة مجددًا من خلال اعتقال أكثر من 120 شخصًا منذ أيار الماضي (يتم الإفراج عنهم تباعًا)، وإرسال رسالة قوية بأن لا أحد مهما كبر خارج سيف الاعتقال، سواء إذا كان أسيرًا محررًا مثل خضر عدنان وماهر الأخرس، أو قامة ثقافية وأدبية عالية، مثل زكريا محمد وخلدون بشارة، أو شخصية أكاديمية رفيعة المستوى، مثل عماد البرغوثي، أو شخصيات وطنية اعتبارية، مثل عمر عساف وتيسير الزابري ونادية حبش، وقيادات فصائلية مثل إبراهيم أبو حجلة، أو مدراء مؤسسات مثل أبي العامودي، ومدير المدرسة كوثر العبويني، أو نشطاء مثل فادي قرعان، وغيرهم من صحافيين وصحافيات ومحامين ومحاميات.
اللافت فيما يجري
· أن المطلب الرئيسي للمظاهرات هو إنجاز العدالة فيما يخص جريمة نزار بنات، والسلطة تراوح ولا تنهي هذا الملف، ما يدل على إمعان في عدم محاسبة الفاعلين، وهذا يؤجج الاحتجاج.
· أن الاعتقالات حدثت أكثر من مرة قبل بدء المظاهرة، رغم وجود أعداد من الشرطة والأمن كفيلة بمنع أي مظاهرة، وأن هناك سياسة متناقضة، إذ يسمح بالتظاهر مرة، ويمنع التظاهر بالقوة مرة أخرى، وتقمع المظاهرات مرة ثالثة إذا تحركت نحو مقر الرئيس في المقاطعة، هذا رغم أن عدد المتظاهرين لا يشكل تهديدًا حقيقيًا في ظل تمركز المظاهرات في رام الله دائمًا وبعض المدن في أحيان قليلة. فهل نقترب من نظام بوليسي يمنع حق إبداء الرأي وحق التظاهر السلمي الملتزم بالقانون.
· استخدام أسلوب الضرب المبرح والتعذيب – حسب روايات شهود عيان – ضد العديد من المعتقلين، لدرجة نقل بعضهم إلى المستشفيات رغم عدم وجود ما يتم التحقيق حوله، حتى بات التعذيب هدفًا بحد ذاته، ويهدف إلى إشاعة الخوف، ويرسل رسالة بأن لا كبير إلا الجمل.
· غياب الحوار بين الفصائل وممثلي المتظاهرين والسلطة، باستثناء محاولة يتيمة قام بها رئيس الوزراء من دون استكمالها، وهذا أمر غير مسبوق، فغياب التواصل يفتح أبواب السيناريوهات الأسوأ.
· لا يمكن تفسير ما يحدث من دون رؤية علاقته بالتنافس على المراكز والمناصب عشية التعديل الحكومي والتغييرات في السفراء والمحافظين وغيرهم، وهذا وثيق الارتباط بالصراع على الخلافة، وحمى الصراع لرسم خارطة موازين القوى للمرحلة القادمة، وما يتضمنه ذلك من تصفية حسابات وتغيير وتعزيز مواقع بين مراكز القوى، وسط معلومات عن مطالبة أميركية وعربية بضرورة وضع خطة للانتقال السلمي للسلطة استعدادًا لشغور منصب الرئيس نظرًا لتقدمه بالسن، وذلك من خلال طرح أفكار حول استحداث منصب نائب الرئيس، وتداول أفكار متناقضة، مثل تشكيل حكومة وحدة برئاسة الرئيس، وتعيين ثلاثة نواب له، وتشكيل مجلس تأسيسي للدولة الفلسطينية لتحويل السلطة إلى دولة، وعقد المجلس المركزي لسد الشواغر في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بعد وفاة د. صائب عريقات واستقالة د. حنان عشراوي. وكل هذه الأفكار إما غير جدية، أو غير معقولة، أو تنفيذها سيزيد الوضع سوءًا.
· لا يمكن رؤية ما يجري بمعزل عن خفض السقف السياسي الفلسطيني إلى مستوى خطة بناء الثقة، التي هي محاولة لإعادة إنتاج أوسلو بشكل أسوأ من دون عملية سياسية، وإنما خطة سلام اقتصادي وأمني وإنساني لمنع انهيار السلطتين في الضفة وغزة مع بقاء الانقسام، والعمل في أحسن الأحوال على إدارته وليس إنهاءه من خلال حكومة تغطي عليه أو من من دونها، وحتى تمر هذه الخطة لا بد من القمع العاري المجنون .
أخيرًا، نمر الآن أمام لحظة الحقيقة، والسلطة في حالة انفصال عن الشعب وإنكار للواقع، وهي إما ستسير – كما يبدو أنها اختارت – استمرار الارتهان لخيارها البائس الذي وصل إلى نهايته منذ زمن بعيد، وتأبى أن تعترف بذلك وتفتح الطريق لمسار جديد، وهذا سيكرس سلطة الحكم الذاتي المحدود تحت الاحتلال إلى إشعار آخر، بحيث تصبح السلطة أكثر وأكثر عبئًا على الشعب والمشروع الوطني؛ أو أن تبادر حركة فتح وتنقذ ذاتها والقضية الوطنية، وتصوّب المسار، وتعمل مع بقية القوى والفاعلين على بلورة وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني، وتغيير السلطة وإعادة بناء مؤسسات المنظمة على أسس وطنية ومشاركة حقيقية وديمقراطية توافقية، تتضمن إجراء الانتخابات الدورية على كل المستويات وفي كل القطاعات قبل فوات الأوان.