وضاعت الطّاسة
تاريخ النشر: 06/09/21 | 2:43زهير دعيم
امتلأت البلاد بالشعراء ، فكل من عرف الابجدية واجاد حبك خيوط بعض الجمل ، راح ” يخربش ” فوق صفحات القرطاس همسات صبيانية واخرى عبثية وثالثة رمزية غائصة في الرمزية لدرجة لو انت سألت جابل هذه القصيدة ومؤلفها لما استطاع ان يفيدك بشيء ، فهذه القصائد على حدّ زعم البعض ذات موسيقى داخلية وايحاءات كامنة ، ورموز تاريخية وميثولوجييه !!! فان غامرت يا صاحبي وابحرت اصطدمت بالكلمات المتناثرة والحروف السابحة في محيط من البياض ، وبأكثر من مصطلح يوناني او فينيقي او حتى اندلسي ، مرت في خاطر الشاعر او صادفها في مسيرة حياته التعليمية فلوَّن بها القصيدة العصماء واضفى عليها شيئا من غموض ومِسحة من عبثيّة !!!
فكلّ من عرف الحبّ اضحى شاعرًا ، فارتمى على بساط العشق يزركشه بالكلمات والنجاوى ” المقطّعة ” ” والموصّلة ” وفي نظره انها قصيدة القصائد يستأهل عليها وبها ان تعلق مع المعلقات السبع لا العشر !!!.
لقد اضحت كلمة شاعر ” مُبتذلَة ” هذه الايام تماما كما كلمة ” فنّان ” او ” فنّانة ” ، فكل طاؤوس او متطاوس او متطاوسة حباها الله ببعض جمال قَدٍّ دون صوت ، راحت تتلوى ” وتتفرّع ” ” وتتقزّع ” وتزفّ الينا مشاهد بينها وبين الذوق والفن والجمال وعبد الوهاب وفيروز مساحات شاسعة فوقها الطائرات النفاثة ، وكذا الامر في شعراء اليوم او قلْ في معظمهم ، فالواحد لم يسمع بالأخطل لا الصغير ولا الكبير ، ولم يعانق قصيدة واحدة لشوقي او لسعيد عقل ، يروح يدبج لك في لحظات قليلة قصيدة ، يرمي بها من فرنه الساخن الى المواقع الالكترونية او الصحف فتنشرها مزدانة بصورته البهية وطلعته الأخّاذة ..
سقى الله الايام الخوالي ، ايام كان زهير ابن ابي سلمى يملّس ويمّسد قصيدته ويدلّلها سنة كاملة حتى يتجرّأ فينشرها … ينشرها والترقّب يأكل منه الاعصاب والاحساس ، امّا اليوم ، عصر الحداثة والشيطنة الادبية السريعة والشعر الدفّاق فأنت يا صاحبي امام ظاهرة غريبة عجيبة ، يولد فيها الشعر هكذا بدون ان تحمّل نفسك عناء المطالعة والدراسة والتمحيص .
ضحك صديقي – القارئ المجتهد والمطالع الدائم – ضحك مرة من قصيدة نُشرتْ في احد المواقع الالكترونية فقرأها مثنى وثلاث خماس ولم يفهم منها شيئا ، وغاص في كلمتي ” افروديت ” و ” بطليموس ” اللتين زينتا القصيدة وظل في مكانه ، فجاءني طالبًا العوْن والمدَدَ فدفعته برفق قائلا : ” لقد سبقتك واعلنت عجزي وضعفي امام هذا الادب والذي لا جبرانية فيه ، تماما كما عجزت امام الرسومات التجريدية والمرسومة على حد الفكاهيين بذيل حصان ” .
فإن أنت اخي القارئ لم تفهم القصيدة ولم افهمها انا ولم يفهمها كاتبها ، فلمن يكتب اذًا هذا الشاعر العظيم !!!
حري بنا ان نقف لحظة بل لحظات ونعيد حساباتنا ، حسابات بَيْدرنا الادبيّ ، فالزؤان ملأ البيدر ، والحنطة المباركة اضحت ندرة لا نعثر عليها الا بعد الف جهد وبمصباح ديوجينيس .
اين النقّاد الاحرار ؟! واين الناقد الناقد الذي لا يجامل ولا يسمح ” بمسح الجوخ ” وانما يجري مبضعه في عصب الادب فيبرز مواطن الجمال ومواطن الضعف ، ويسدي النصيحة النصوحة ولا يبغي الا خدمة الادب والادباء الحقيقيين .
رحمك الله يا استاذ الكلّ وشيخ النقّاد مارون عبود ، رحمك الله وطيّب ثراك فما كنت تجامل احدًا وما كنت ترائي احدًا ، وانما ترنّحت طربًا عند كل فكرة هائمة وابداع يستحق الحياة ، وتأففت عند كل ادب حبا وزحف وأبى الانطلاق والقفز فوق السحاب .
ملّت نفوسنا المجاملة وملّت استعراض الصديق لكتاب صديقه ، فمثل هذه المداهنة ومثل هذا الاستعراض العجول والمعسول احيانًا بالسّمّ لا يفيد احدًا ، وانما يخدّر صاحب ” العطاء ” الادبي فيشرئب ويسمو سموًا اجوف لا معنى ولا طعم في كثير من ادبه .
حان الوقت ان نضع الفأس على اصل الشجرة التي لا تعطي ثمرًا ، وحان الوقت ان نقول للشِّعر الفاقد الملح … طعامك يا سيدي ” مائع ” ويفسد المعدة الفكرية والعقل والاحساس ، فارحمنا يا سيدي وعد الى رشدك ودع الادب لأصحابه وكفانا ما ذقنا من تصّنع واجترار واسفاف .