متنفَّس عبرَ القضبان (35)
تاريخ النشر: 13/09/21 | 10:12حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّب الروائي رشاد أبو شاور: “قلبي مع كل الأسيرات والأسرى. شكرا للأستاذ المحامي حسن عبادي على جهوده في التواصل مع الأسيرات والأسرى، والكتابة عن معاناتهن ومعاناتهم، وتعريفنا بما لا نعرف عن ظروف حبسهن وحبسهم” …
وعقّبت الصديقة صباح مصطفى: “كل مرة أقرأ ما تكتبه عن أسرانا وأسيراتنا أشعر بالقهر حينا وبالفخر في كثير من الأحيان. قدرتهم على التحمل وإصرارهم على التحلي بالصبر والأمل. الحرية لهم، ولك ألف تحية أستا ذ حسن”.
وعقّب جهاد فاخوري: “قضية فلسطين بهذا الجيل من الشباب العربي الفلسطيني المناضل الذي يرفع الرأس وأمام الإرادة الصلبة تسقط كل صفقات التطبيع والانبطاح مع الغازي والمجرم بكل أشكاله من المطبعين من العرب سواء كانوا أنظمة أو حركات أو أفراد. ألف ألف تحية لليان ورفاقها من أفراد شعبنا العربي الفلسطيني على صمودهم في معتقلات أولاد الأفاعي ومزوري التاريخ ومؤسسي وصنعة الإرهاب في العالم. الحرية لكل الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال والمستعمر الفاشي.”
“جاييتك يا سارة!”
غادرت حيفا الثامنة صباح الخميس 5 آب 2021 لزيارة أسيرات في سجن الدامون (مخزن للدخّان ولمبيت العمّال حتى عام 1948، صار سجنًا أمنيًا في زمن الانتفاضة، وما زالت رائحة الدخّان والرطوبة تعبق في جدرانه). انتظرت في غرفة المحامين فأطلّت عليّ الأسيرة ختام إسماعيل محمد خطيب السعافين مبتسمة، التقيتها للمرّة الأولى، ورغم حديثنا عبر السمّاعة العطبة كان جوّ اللقاء دافئًا.
أخبرتها أنّ اللقاء بتوصية من زميلتها تحرير جابر، فقالت بعفويّة “إحنا بشر بنتوجّع”، وحدّثتني عن وجع البعد والفراق، وجع الأمهات البعيدات عن أطفالهن، وجع البعد عن طالباتها وزميلاتها، وجع الحرمان من المشاركات في المناسبات من أفراح وأتراح، ووجع حرمانها من رؤية واحتضان وعناق حفيدتها سارة… وأختها جنى، كان من المفروض أن تتحرّر من الاعتقال الإداري يوم 01.03.2021 لتكون جانب ابنتها دينا ساعة الولادة، ولكنّها اعتقلت في بوابة السجن يوم تحرّرها لتُحرم تلك المتعة!
اعتقلت يوم 02.11.20، ذكرى تصريح بلفور المشئوم، وما زلنا هناك، يؤلمها طوشة الخليل ومصاري العطوة العشائريّة التي كان بإمكانها تمويل حواسيب لكلّ أطفال المخيّمات.
حدّثتني عن الأسيرات الصبايا، ونظرتها النسويّة البنيويّة حين قالت: “عندي بنتين وولد”، والصغيرات يمنحنها وزميلاتها الحيويّة، فالحياة تستمر، وتتوق لمجتمع ينمّي الثقافات، لا القمع.
لك عزيزتي ختام أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
“صورة الفوج”
حين انهيت لقائي بختام أطلّت عليّ الأسيرة شذى زياد سعيد الطويل بابتسامة عريضة منتفضة، بلفوريّة أخرى (اعتقلت يوم 02.11.20، ذكرى تصريح بلفور المشئوم)، طالبة برمجة حاسوب في جامعة بير زيت، اختطفت من مقاعد الدراسة وأروقة الجامعة إلى زنازين الاحتلال لتصير أمنيتها أن ترى شبابيك طبيعيّة، دون أسلكة وحديد وحماية، يا لها من أمنية!
حرمت أن تعيش شبابها، فهنا بإمكانها “التبضّع” مرّة في الأسبوع، عبر مسؤولة (الكنتينا) التي تجمع الطلبيّات وتشتريها، وحين أبدت رغبتها بالتعرّف على الكنتينا، “من كثر ما قرأت وسمعت عنها”، رافقت المسؤولة لتساعدها فشاهدتها عن بُعد.
تحب شذى رياضة المشي، كانت تمشي ساعة/ ساعتان يوميًّا في الهواء الطلق لتصير سبيّة الفورة، وزملاؤها تخرّجوا من الجامعة لتُحرم صورة الفوج، تسمع بتخرّجهم عبر الإذاعة وتتضايق لأنّها ليس بينهم وصورتها ناقصة.
الروتين وأنظمة السجن والسجّان قاتلة، وكم كانت “سعيدة” وزميلاتها يوم التطعيم؛ للمرّة الأولى يحملن بطاقات مع اسم كلّ منهن وصورتها، ولأوّل مرّة يمشين كمجوعة خارج الفورة، ولأوّل مرّة يخرجن من القسم في ساعات الليل.
في طريقها للمحكمة شافت البحر الحقيقي عبر طاقة البوسطة ولم تصدّق عيناها، أهو حلم أم حقيقة!
وطلبت أن أوصل تبريكاتها لصمود أحمد سعدات بمناسبة زواجها…
لك عزيزتي شذى أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
“بَقّ وصراصير وجرذان”
بُعيد لقائي بختام وشذى أطلّت عليّ الأسيرة ليان سامي وديع ناصر بابتسامة انتفاضة، لتوصل لي سلامات زميلاتها التي التقيتهنّ في الأشهر الأخيرة، لتحّدثني دون توقّف عن شعور الأسيرات وفرحتهن حين أخبرتهن عن الاهتمام بهن خارج السجن (معتقلة منذ 07.07.21) وطلبن منها أن تصف لهن كلّ شاردة وواردة، بتفاصيل التفاصيل.
ليان (مواليد 2000) طالبة تغذية وإدارة أعمال في جامعة بير زيت، اختطفت من مقاعد الدراسة إلى زنازين الشارون سيّئة الصيت، وآثار لسعات وقرصات البقّ والصراصير والجراذين ظاهرة جليّة على جسدها، وظروف الاعتقال هناك قاسية جدًا جدًا وصعبة.
تنظر لاعتقالها كمخيّم صيفي، ضريبة لا بدّ منها في بلد المليون أسير، تستغلّ الوقت بالقراءة والرياضة وتعلّم العبريّة والإسبانيّة.
أخبرتني عن الجولة للتعرّف على قلعة الدامون، فشاهدت غرفة الأحكام العالية (غرفة 11) حيث بالإمكان رؤية السماء عبر الطاقة في سقفها، سجن بلا بحر وسماء وطبيعة رغم وجوده في أحلى بقاع العالم.
بعيدة عن العالم لتسمع عنه عبر الإذاعة، رابطها الأوحد مع العالم الخارجي.
التفاصيل الصغيرة جدًا تصبح كبيرة ومهمّة جدًا جدًا في الأسر.
وطلبت أن أوصل تبريكاتها لصمود وعاصم بمناسبة زواجهما…
لك عزيزتي ليان أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
آب 2021