شبابة حامد
تاريخ النشر: 08/10/21 | 9:13أسمهان خلايلة
أيلول 2021
أم رشيد الداية أكدت لفطٌوم أن الله سيثبٌت حملها هذه المرة ، وسيبرد حزنها على سقوط مواليدها الثلاثة قبل ولادتهم. حدقٌت فطٌوم في السماء المشرعة أبوابها تسقي الأرض والبشر وتطفح مياه الآبار و الأجباب
كان ذلك في أيام المستقرضات السبعة ، أربعة من شباط اللباط وثلاثة من آذار الهدٌار.
لم تبخل فطٌوم بالأدعية ولا تقديم الصدقات والمساعدات بمساعدة زوجها حسين الذي قال والفرحة تقفز من عينيه : انت أقرضتِ الله ” قرضا حسنا ” يا فطوم وسيعوضنا الله ما أخذه منا.
في شهر سعد بلع .. خمسينية الشتاء ، والتي بدأت في آخر كانون الثاني والبرد بقص المسمار وتحول الماء المنهمر إلى حبات برَد ثم تغلب البْرد فأسقطت السماء ندف ثلج غدت كطبقة قطن تغطي الطرقات الموحلة غير المعبدة وأسطح البيوت الطينية البسيطة ، صعد الرجال والغلمان ومن النسوة أيضا اندفعن إلى حمل كل أداة قادرة على قحط الثلج عن السطح ومن أمام ابواب المنازل الخشبية ، كانت تلك سنة الثلجة في الخمسينات من القرن العشرين . وبات ذلك اليوم تأريخا لمرحلة الثلجة وما بعدها .. هذا ولد في سنة الثلجة وتلك ماتت في هذه السنة ..والكثير من الأحداث التي انزرعت في ذاكرة الناس . ومن أهم أحداث تلك السنة كان وفاة حسين زوج فطوم الذي لم يطبق وليده حامد أشهره الأربعة.
أصيب بنزلة برد حادة لم تمهله طويلا وكسرت قلب فطوم .. كانت قد حلمت بفرحٍ آتٍ بعد ان رزقا بوليدهما
جلست فطٌوم رهينة المنزل فالفصل شتاء وطفلها صغير وعليها انهاء أشهر عدتها .. اربعة وعشرة أيام في غاية القسوة مرٌت عليها بطيئة تنوء بها.
وما أن انتهت تلك الأيام حتى انطلقت فطٌوم تحمل طفلها حامد على ظهرها لتعتني بأرضها التي ورثها زوجها عن أهله وهي قطعة قريبة من البيادر ، فيها كرم زيتون والشجرات مثل العرايس كانت هي وزوجها حسين يبيعان ما يقارب المائة رطل عدا عن جرار المونة التي يتم تخزينها بعد صنع صابون الزيت وكبس الزيتون الأسود المملح والمرصوص الأخضر.
جن جنونها أكثر من مرة .. تارة يطلبون منها العناية ابنها حامد في غيابها . لكنها لن تسلّمه لأحد مهما كان قريبا منها ، والمرة الأخرى حين أتى مختار القرية حاملا أسلوب الغواية أولا ليستولي على أرضها فاعتذرت منه بشدة رافضة عرضه للزواج منها والثانية كادت تصفعه وهو يخبرها ان الأرض تحتاج رجالا يعتنون ويزرعون ويحصدون … _ أنا لها .. سأدفع ايجارا لعامل يعتني معي بأرضي.
شب حامد .. واقتنى شلعة ماعز .. قطيعا فاجئ الذين يكنون الحسد لشاب يتيم ويمتلك وأمه أرضا تكفي لاعالة عوائل كثيرة ..نظروا إليه بحسد وهو يتطور ويتسع رأس ماله وهو ابن امرأة أرملة ورجل مات فقيرا …
حامد يحمل وسامة والده مع إضافة الرقة وحب الغناء والعزف على الشبابة وقد تعلمه أثناء رعي القطيع متنقلا من هضبة إلى تلة ..إلى سهل صباحا يغدو ليحلب الماعز ويأخذها إلى الحقل يسرٌحها ويأخذ قيلولته فتتحلق حوله الماعز ويراسها الكبش ..الكرٌاز بقرنيه العظيمين . متباهيا بهما كما يتباهى الرجال بطول الشوارب ، يجلس أمام القطيع قبالة العازف حامد والكلب في الوصيد باسطا ذراعيه . يركز حركة الأذنين المصيختين إلى كل نأمة وصوت.
تلك الليلة نشر العتم عباءته فوق المروج والبيوت الوادعة المتلاصقة تنبعث منها بصٌات ضوء .. حامد لما يعد بعد..
فطٌوم تهرول من أول الزقاق إلى بداية ساحة العين وسط القرية ، تفرك يديها . تفك منديلها وتعيد ربطه وتكاد تسحق الوجنتين والصوت يقطر قلقا ورعبا : حامد . وليدي بعدو ما رجع..
انتشر أهالي البلد يبحثون في المساحة الصغيرة للسكن والشبان الشجعان القوية قلوبهم انتشروا في السهل وأطراف القرية بحثا ..يطلقون النداءات ويطيلون النداء .. وما من خبر …
طلع الصبح على القرية . على الصوت المفجوع يصرخ : يا اهل بلدنا .. حامد غرقان في البركة اللي في التين القبلي .. هرعوا ليشاهدوا الجسد الفارع يطوف على سطح الماء .. بركة عميقة نوعا ما فالمياه تبقى فيها حتى اواسط الربيع وتتحول في الصيف إلى معصرة يجمعون فيها العنب وينزلون بأرجلهم الحافية يمعسون العنب ويحولونه عصيرا.
أقسم احد رجال القرية انه رأى حامد عصر اليوم السابق وطرح عليه السلام ورد حامد بأحسن منه وهو يضحك ضحكته المجلجلة .. لكنه لمح أحد رجال المختار يمر من التلة المقابلة ومعه بقرتان.
رجل المختار انكر وجوده في تلك البقعة وانه قد يكون شبيها له في تلك الساعة.
وانتشلوا الجثة عائدين يجرجرون الأقدام ويحملون فطٌوم التي سقطت مغشيا عليها
نكٌسوا رؤوسهم وهم يدفنون حامد وألقت فطٌوم بشبابة حامد المكسورة نصفين ..وضعتهما إلى جانبه في لحده وتناولت مسبحة والده حسين .. مسبحة حباتها تلمع في العتمة
راحت السكرة واجت الفكرة … استفاقت فطْوم على تصميم أن تزف حامد.
وين أزفك يا حامد وين
على القلعة وظهور الخيل
قصدي أزفك عندار عمك …
وتنتحب حتى الانفجار.. ويبكي القلب بحرقة والعين تسكب دمعها..تنادي فلا يرد النداء ..الم الفقد سكاكين تحز الروح ، ولدها حامد الذي نجا في طفولته من الموت بعكس اخوته الذين خطفهم الموت صغارا ..اما هو فاختار القدر ان .يرحل يافعا شابا .انزوت فطٌوم الى جانب قبر حامد .. .. فأشعل قلبها وروحها بآمالٍ ذَبَحها من لم يطق رجولة حامد حين تحداه رافعا قبضته : إياك أن تقترب من أمي أو أرضنا.