متنفَّس عبرَ القضبان (39)
تاريخ النشر: 11/10/21 | 6:03حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛
عقّبت الكاتبة شوقيه عروق منصور: “الابتسامة في السجن مشنقة التحدي للسجن والسجان دمت يا صديقي وكل التحيات للأسيرات الشامخات”.
وعقّبت الأسيرة المحرّرة الكاتبة مي وليد الغصين: “أجمل ما في هذه السطور أننا نسمع أصوات الأسيرات وضحكاتهن وهمساتهن… ونرى أحلامهنّ المحلقة. الفرج القريب لجميع الأسرى والأسيرات، وكل التحية والتقدير لك أستاذ على إيصال تلك الأصوات لنا”.
“بائعة العطور”
وصلت سجن الدامون صباح الأربعاء 15.09.2021، زيارة أولى بعد عملية نفق الحريّة، انتظرت في باحة السجن فأطلّت عليّ الأسيرة أيام نمر الرجبي، يرافقها سجّان متعجرف، وليس سجّانة كما اعتدت في زياراتي السابقة، ونظرتها خجولة مرهقة.
اعتقلت يوم 16.06.21 على باب الحرم الإبراهيمي، بائعة عطور ومكياج متجوّلة في شوارع الخليل وحاراتها، اقتادوها إلى زنازين الاحتلال، لا تقرأ ولا تكتب، كئيبة حزينة، منزوية غالبيّة الوقت في زنزانتها ومنطوية على نفسها.
حدّثتني بحرقة عن العائلة، أمّها وإخوتها وشارع الشهداء الخليليّ، توقها للعائلة ورعايتها وحمايتها، ترافقها دموع طفوليّة، ولم تحظ بزيارة عائليّة أو قانونيّة (على حدّ قولها) منذ اعتقالها، شأنها شأن غالبيّة السجينات “المستقلّات”.
همّها تأهيلها ما بعد السجن، تفكّر في بضاعتها من عطور ومكياج وكيفيّة استردادها من سلطات الاحتلال التي “صادرتها” حين اعتقالها، وتحلم بدكّان صغير لبيع العطور في البلدة القديمة في الخليل لعلّه يكون عالمًا أجمل، ووعدتها بالتشبيك بينها وبين مبادرة “شدّ الرحال” الخليليّة (مبادرة من قبل الحركة الأسيرة من أجل إحياء البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي الشريف) لمساعدتها.
“ولاد شوارع”
بُعيد لقائي بأيام أطلّت عليّ الأسيرة المقدسيّة إيمان نعيم الأعور، ترافقها ابتسامة عريضة، موصلة لي بدايةً سلامات زميلاتها، وبالأخصّ عائشة التي تعبّر عن سعادتها بتكثيف زيارة المحامين لها في الفترة الأخيرة بعد أن كتبت التغريدة حول شحّ الزيارات للأسيرات “المستقلّات”.
اعتقلت يوم 17.06.20 وقلقة على حالة أمّها المريضة، ولا تواصل لها مع العالم الخارجي منذ ثلاثة شهور، لا زيارات أهل ولا محامين (على حدّ قولها)، حدّثتني عن اشتياقها لوالدتها وللعائلة، زوجها وثلاثة أولاد وثلاث بنات، وسبعة أحفاد؛ زوجها كان سجينًا وتحرّر وهي خلف القضبان، وكذلك ابنها محمد وأخوها موسى!! أضافت: “أنا وجوزي اولاد شوارع” فانتفضت لسماع هذه الكلمات، فهدأت من روعي موضّحة: “أنا وزوجي أبناء الانتفاضة الأولى، اللّي حمل أخوي الشهيد تجوّزني!!” وجاءني ما كتبه باسم خندقجي عن براءة جيل الانتفاضة الأولى.
حدّثتني عن الوضع داخل السجن، السجن مش بس قضبان، السجن نفوس. كذلك وضع الأورام السرطانيّة التي تعاني منها دون علاج، وناقشنا شأن الكتابة خلف القضبان وأهميّتها.
في غياب التواصل تزيد أهميّة سماع الأهل عبر الإذاعة؛ برنامج فلسطين، أجيال، النجاح ونابلس. اشتاقت لكلمة “أمّا” وتتوق لسماعها ولو عبر الإذاعة، وهذا أضعف الإيمان.
سمعت منها كم كانت سعيدة حين سمعت صوت حفيداتها ياسمين وأمّون عبر الإذاعة يغنّين لها :”يا مال الشام ويالله يا مالي طال المطال يا حلوة تعالي”، وكم كانت فخورة حين قرأت لها الحفيدة أمّون الفاتحة عبر الإذاعة.
“قصّة مدينتين”
بُعيد لقائي بأيام وإيمان، انتظرت في باحة سجن الدامون وسمعت أصواتًا مرحّبة بي ممّا أثار استغرابي، وإذ بهنّ خالدة ومرح وميسون في غرفة الانتظار بعد جولة التصوير وانضمّت إليهن إيمان وكان لنا لقاء عابر ومفاجئ، وتبادلنا التحايا وأطراف الحديث لدقائق في الساحة، وللمرّة الأولى ليس عبر الزجاج المقيت. مفاجأة سارّة أسعدتني بتلقائيّتها وعفويّتها.
بعدها مباشرة أطلّت الأسيرة المقدسيّة ياسمين محمد جابر، مبتسمة ابتسامة منتفضة شبابيّة، ابتسامة معارف، فشاهدتني في التلفزيون عدّة مرّات، حسب قولها، وراق لها ولزميلاتها ما سميّته “انتفاضة الابتسامة”.
حدّثتني عن دراستها الجامعيّة (اعتقلت من مقاعد الدراسة؛ بيولوجيا في الجامعة العبريّة في القدس) وعملها في “المكتبة الوطنيّة”(وهناك تعرّفتْ على نهب وسرقة الأرشيف الفلسطيني والمكتبات) وعملها في البرمجة، وفي السجن صارت مساعدة لميسون في إدارة مكتبة السجن، وبعد فترة التحقيق القاسية اشتاقت للقراءة ومن حظّها وجدت في المكتبة رواية “قصّة مدينتين” لتشارلز ديكنز لتقرأها ثانية، وللمفاجأة أخبرتها أنّه الكتاب الشهري في منتدى الكتاب الحيفاوي وأملَت عليّ مداخلة/ مشاركة لها في اللقاء!
اعتقلت يوم 04.08.20 ووجدت في القراءة داخل السجن نافذة على العالم الحقيقي، وبدأت تستوعب أهميّة مداعبة القطّة أو سماع صوت الأمواج أو الحيوانات في الرواية، فالرواية عالم بحد ذاته، وترى أنّ أدب السجون الحداثي قفزة نوعيّة مهمّة.. وبدأت تكتب.
لكن عزيزاتي أيام، وإيمان، وياسمين أحلى التحيّات، والحريّة لكن ولجميع أسرى الحريّة.
أيلول 2021