أبعاد التوافق على رفع نسبة الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص
تاريخ النشر: 14/10/21 | 15:41رابط هذه الورقة من موقع مسارات
تأتي هذه الورقة ضمن إنتاج المشاركين/ات في برنامج “التفكير الإستراتيجي وإعداد السياسات” – الدورة السابعة، الذي ينفذه مركز مسارات بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.
مقدّمة
أعلن نصري أبو جيش، وزير العمل الفلسطيني، في البيان الختامي للمؤتمر الوطني الأول للحوار الاجتماعي، أن أطراف الإنتاج الثلاثة قد توافقت على بنود عدة، من ضمنها رفع الحد الأدنى للأجور في فلسطين ليصبح 1880 شيقلًا شهريًا، بدلًا من 1450 شيقلًا.[1] فيما تم إقرار الاتفاق بصيغته النهائية في جلسة مجلس الوزراء رقم (121)، بتاريخ 23 آب/أغسطس 2021.[2] وأكد وزير العمل على أن القرار سيدخل حيز التنفيذ مطلع العام 2022، وذلك لاعتبارات ظروف بعض القطاعات الضعيفة والهشة والقطاعات التي تضررت من جائحة كورونا.[3]
يدعو الاتفاق على رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1880 شيقلًا إلى التساؤل حول ملاءمة هذا الحد من الأجور مع ما يعتبر الحد الأدنى والمقبول للمعيشة في فلسطين، إضافة إلى الآثار الاقتصادية المترتبة على تطبيق هذا الحد، وبخاصة تأثيره على كل من: الطلب الاستهلاكي، عرض العمل، الطلب الاستثماري، تنافسية القطاع الخاص.
يبدو أن تحديد الحد الأدنى للأجور بـ 1880 شيقلًا شهريًا لجميع مناطق السلطة الفلسطينية، لا يتعدى كونه صيغة توافقية لم تأخذ بعين الاعتبار التباينات الكبيرة في مستويات الأجور والدخول بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم يستند إلى معايير اقتصادية واضحة.
الأجور في القطاع الخاص
بعد صدور قانون العمل الفلسطيني العام 2000، الذي نصت إحدى مواده على ضرورة تحديد حد أدنى للأجور، بدأت اللجنة الوطنية للأجور التي شكلت بموجب قانون العمل، وضمت ممثلين عن الحكومة وأصحاب العمل والعمال[4] اجتماعاتها بهدف تحديد حد أدنى للأجور في الأراضي الفلسطينية. انتهت مباحثات اللجنة الوطنية بعرض توفيقي من قبل وزير العمل على أن يكون الحد الأدنى للأجور 1450 شيقلًا شهريًا، وحاز هذا العرض على موافقة ثلاثة عشر عضوًا (من أصل خمسة عشر عضوًا) في اللجنة الوطنية للأجور، وتم رفع توصية بهذا الشأن إلى مجلس الوزراء.[5]
وأقر مجلس الوزراء هذه التوصية بقرار رقم (11) لسنة 2012، الذي نص على أن يكون “الحد الأدنى للأجور الشهري في جميع مناطق السلطة الفلسطينية، وفي جميع القطاعات 1450 شيقلًا، وأن يكون الحد الأدنى للأجور لعمال المياومة، وبخاصة العاملين بشكل يومي غير منتظم إضافة إلى العمال الموسميين، 65 شيقلًا يوميًا، وأن يكون الحد الأدنى للأجور لساعة العمل الواحدة للعامل 8.5 شيقل”.[6]
بعد مرور حوالي تسع سنوات على هذا القرار، نجد أن الأجر الوسيط اليومي في الأراضي الفلسطينية قد بلغ 115.4 شيقل في العام 2020، وهو أجر مرتفع بالنسبة للحد المقر في القانون وهو 65 شيقلًا يوميًا. ولكن، إذا نظرنا للتقسيمات الجغرافية للأجر الوسيط، نجد أن الأجر الوسيط في قطاع غزة يبلغ 40 شيقلًا يوميًا، وفي الضفة الغربية 107.7 شيقل يوميًا، بينما بلغ الأجر الوسيط للعاملين في إسرائيل والمستوطنات 250 شيقلًا يوميًا.
وبالنظر إلى الاختلافات في الأجر الوسيط اليومي بين النشاطات الاقتصادية المختلفة، وربطها بالمناطق الجغرافية، نجد أن الأجر الوسيط في قطاع الخدمات هو الأعلى أجرًا (94 شيقلًا يوميًا)، وأن قطاع الزراعة والصيد هو الأدنى أجرًا (20 شيقلًا يوميًا) وذلك في قطاع غزة. أما في الضفة الغربية، فقد سجل قطاع الخدمات وقطاع النقل والتخزين الأجر الأعلى (115.4 شيقل يوميًا)، بينما سجل قطاع الزراعة والصيد الأجر الأدنى (83.3 شيقل يوميًا).[7]
أما الالتزام بتطبيق الحد الأدنى للأجور، فنجد أن 27.9% من المستخدمين بأجر في القطاع الخاص في العام 2020 يتقاضون أجرًا شهريًا أقل من الحد الأدنى المقر في فلسطين، بواقع 7.4% في الضفة الغربية، وبمعدل أجر شهري قدره 1078 شيقلًا، وفي قطاع غزة فقد بلغت هذه النسبة 81.1%، وبمعدل أجر شهري قدره 662 شيقلًا.[8] ومن هنا، يمكن القول إن نسبة الالتزام بهذا الحد تتفاوت حسب القطاعات الاقتصادية، وحسب المناطق الجغرافية، وبخاصة بين الضفة وقطاع غزة. وهذا الضعف بالالتزام بالحد الأدنى للأجور، يمكن عزوه إلى أسباب اقتصادية وسياسية ونقابية:
اقتصاديًا: هناك بعض القطاعات الاقتصادية موصوفة بأنها هشة وضعيفة، ولا تمتلك القدرة الاقتصادية على الالتزام بالحد الأدنى للأجر؛ مثل قطاعي النسيج ورياض الأطفال. إضافة إلى ذلك، فإن نسبة البطالة المرتفعة تدفع العاملين إلى القبول بأجور أقل من الحد الأدنى، لعدم توفر بدائل أخرى. أخيرًا، لم يراعِ الحد الأدنى للأجور التفاوت الكبير في مستويات الأجور والدخول والأسعار بين المناطق المختلفة؛ وهو ما يفسر جزئيًا النسبة العالية لعدم الالتزام بالحد الأدنى للأجور في قطاع غزة.[9]
سياسيًا: أدى الانقسام السياسي، وكون أي من الحكومتين لا تعترف بقرارات نظيرتها، إلى عدم تطبيق الحد الأدنى للأجور في قطاع غزة، كونه صادرًا عن الحكومة في رام الله.[10] إضافة إلى ذلك، يبدو جليًا غياب الإرادة السياسية لـدى السـلطة الفلسـطينية لتطبيـق هـذا القـرار فـي سـياق سياسـة حمايـة اجتماعية أوسع، وتظهر تجليات ذلك فـي غيـاب محـاكم عمّاليـة متخصصـة تمكـن العـاملين مـن ممارسـة حـق التقاضـي.[11]
نقابيًا: ضعف العمل النقابي، وتعدد الجهات التمثيلية للعمال، أضعفا قدرة العمال الفلسطينيين بالضغط على أصحاب العمل لتطبيق قرار الحد الأدنى للأجور.[12]
حوار قطاعات الإنتاج لرفع الحد الأدنى للأجور
سبق المؤتمر الأول للحوار المجتمعي مطالبات شعبية ونقابية ووقفات احتجاجية طالبت برفع الحد الأدنى للأجور، وذلك وفق معايير منظمة العمل الدولية،[13] حيث طالب الاتحاد العام لنقابات فلسطين الحكومة الفلسطينية برفع الحد الأدنى للأجور ليصل إلى 2450 شيقلًا شهريًا بدلًا من 1450شيقلًا، وذلك ليتماشى مع حدود خط الفقر الوطني في فلسطين.[14]
وخلال المؤتمر الأول للحوار المجتمعي، تمسك الاتحاد العام لنقابات فلسطين بحدود خط الفقر الوطني، ليكون هو المحدد للحد الأدنى للأجور، وطالب ممثلو القطاع الخاص بأقل من هذا الحد، بينما اقترحت وزارة العمل حدًا أدنى للأجور يبلغ 2000 شيقل شهريًا. في النهاية، تم التوافق على حد 1880 شيقلًا شهريًا ليكون هو الحد الأدنى للأجور في فلسطين.[15]
إقرار الحكومة برفع الحد الأدنى للأجور
تم إقرار التفاهمات التي خلص إليها المؤتمر الأول للحوار المجتمعي بصيغة رسمية في جلسة مجلس الوزراء رقم (121)، حيث نص القرار على أن يتم اعتماد الحد الأدنى للأجور في جميع مناطق دولة فلسطين على النحو التالي:[16]
يكون الحد الأدنى للأجر الشهري في جميع مناطق دولة فلسطين وفي جميع القطاعات (1880 شيقلًا) شهريًا.
يكون الحد الأدنى للأجر اليومي لعمال المياومة، وبخاصة العاملين بشكل يومي غير منتظم، إضافة إلى العمال الموسميين (85 شيقلًا).
الحد الأدنى لأجر ساعة العمل الواحدة للعمال المشمولين في الفقرة “2” (10.5 شيقل).
رحب أطراف الإنتاج الثلاثة بهذا القرار خلال مؤتمر صحافي، وأكدوا على بنود عدة من ضمنها: استمرار الحوار بهدف تمكين القطاعات الأكثر تضررًا والقطاعات الاقتصادية الضعيفة من تطبيق الحد الأدنى المقر، تفعيل لجان الأجور الفرعية واللجنة الوطنية للأجور بما يساهم تنفيذ القرار. أن تواصل الأطراف العمل على تطوير آليات الرقابة لإنفاذ القرار.
الواضح من قرار مجلس الوزراء ومن البنود التي تم الإعلان عنها خلال المؤتمر الصحافي، أن القرار الرسمي ملزم في تطبيق الحد الأدنى للأجور، ولكنه غير ملزم لأي تفاهمات أخرى حصلت بين الأطراف الثلاثة كما كان الحال في قرار مجلس الوزراء رقم (11) لسنة 2012 بشأن اعتماد الحد الأدنى للأجور (1450 شيقلًا) الذي نصت المادة الثانية فيه على اعتبار ما تم التوافق عليه من عناصر ومحددات بشأن الحد الأدنى للأجور ملزمًا لأطراف الحوار كافة.[17]
من أهم العناصر التي تم التوافق عليها وقتها: اعتماد غلاء المعيشة كما يصدر عن الجهاز المركزي للإحصاء كعلاوة مدفوعة لجميع العاملين في مناطق السلطة الفلسطينية في بداية كل سنة. أن يتم البحث في السبل الكفيلة بدعم بعض القطاعات من قبل الحكومة، بما يمكنها من الاستمرار في العمل في ظل تطبيق الحد الأدنى للأجور. أن يتم تفعيل اللجان الفرعية والمركزية للتأكد من تطبيق مواد القانون بشكل كامل، على أن يتم وضع الآليات الرقابية المناسبة لتطبيق الحد الأدنى للأجور. وأخيرًا، أن يتم تقييم أثر الحد الأدنى للأجور بشكل سنوي.[18]
على الرغم من إلزامية القرار بتنفيذ التفاهمات، فإنها بقيت غير مطبقة حتى تاريخ إقرار الحد الأدنى للأجور الجديد 1880 شيقلًا. وبالنظر إلى قرار مجلس الوزراء رقم (121) القاضي برفع الحد الأدنى للأجور إلى 1880 شيقلًا شهريًا، لا نجد أي مادة ملزمة بتطبيق أي تفاهمات حصلت بين أطراف الإنتاج الثلاثة كما هو الحال بقرار الحد الأدنى للأجور الأول، وهو ما يثير القلق حول جدية الحكومة بتطبيق حد أدني للأجور بصورة تضمن تنفيذه على أرض الواقع دون الإضرار بأرباب العمل أو العمال.
القرار في ضوء المعايير الدولية والمحددات المحلية
بحسب منظمة العمل الدولية، فإن المعايير التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند تحديد الحد الأدنى للأجور، تشمل: احتياجات الطبقة العاملة وعوائلهم، إنتاجية العمال، المستوى العام للأجور والدخول الفردية، متطلبات النمو الاقتصادي. ويجب العمل على الموازنة بين هذه المعايير المختلفة، وذلك لضمان تحقيق سياسة الحد الأدنى للأجور لأهدافها المرجوة.[19] وعند الأخذ بهذه المعايير ضمن مؤشرات الاقتصاد الفلسطيني يتضح ما يلي:
احتياجات الطبقة العاملة وعوائلهم
يعرّف الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني خط الفقر (العادي) لأسرة مكونة من خمسة أفراد (بالغان وثلاثة أطفال) بقيمة نقدية تعادل 2470 شيقلًا، وخط الفقر المدقع هو 1974 شيقلًا. والمقصود بالفقر المدقع هو مستوى الاستهلاك من الحاجات الأساسية: المأكل والمشرب والملبس فقط؛[20] أي مستوى دخل شهري دون هاتين القيمتين يعتبر صاحبه فقيرًا أو فقيرًا مدقعًا.
تبلغ نسبة الإعالة الاقتصادية في فلسطين 4.33 (الفرد العامل يعيل 4.33 أفراد غير عاملين)؛ أي إن العائلة الفلسطينية المكونة من خمسة أفراد لديها معيل واحد. وبفرض حصول الفرد المعيل على الحد الأدنى للأجور المقر من قبل الحكومة، فإن هذا يعني حتمًا أن العائلة ستكون تحت خط الفقر المدقع.[21]
المستوى العام للأجور والدخول الفردية
تعد نسبة الحد الأدنى للأجور إلى معدل الأجور في الدولة، أحد المؤشرات المهمّة والمستخدمة عالميًا لتحديد القيمة المناسبة للحد الأدنى للأجور. وتكون نسبة الحد الأدنى للأجور لمعدل الأجور من 35-60% في الدول المتقدمة، أما في الدول النامية، فتكون هذه النسبة أعلى، وذلك بسبب انخفاض معدلات الأجور في هذه الدول.[22] وبتطبيق القرار في الضفة الغربية، نجد أن نسبة الحد الأدنى للأجور الجديد إلى الأجر الوسيط الشهري تصل إلى 77.5%، أما في قطاع غزة فتصل هذه النسبة إلى 214%، ما يعني استحالة تطبيق هذا الحد في قطاع غزة.
إنتاجية الطبقة العاملة
يستخدم عادة مؤشر (GDP per hour worked) للدلالة على إنتاجية الطبقة العاملة في الدول، ويقيس إنتاجية ساعة العمل الواحدة. وفي السياق الفلسطيني؛ بلغت إنتاجية ساعة العمل الواحدة حوالي 7.84 دولار،[23] وهو يشكل ما يزيد على ضعفي الحد الأدنى للأجر للساعة الواحدة المنصوص عليها بالقرار الجديد (10.5 شيقل)، وهذا السعر لا يأخذ بعين الاعتبار فروق إنتاجية العمال في القطاعات الاقتصادية المختلفة، ولكنه يحمل دلالة واضحة على أن الحد الأدنى للأجور المقر لم يأخذ بعين الاعتبار ضرورة الربط بين إنتاجية العامل والأجر الذي يستحق الحصول عليه.
الآثار المتوقعة لإقرار رفع نسبة الأجور
بناءً على نظريات اقتصاد العمل، يؤثر رفع الحد الأدنى للأجور على الاقتصاد ككل عن طريق تأثيره على جانبي العرض والطلب في سوق العمالة، وكذلك سوق السلع والخدمات. وبالنظر إلى آثار إقرار قانون الحد الأدنى للأجور الأول العام 2012، نجد أن الطلب الاستهلاكي (الإنفاق الاستهلاكي النهائي للأسر المعيشية) قد ارتفع فعليًا بنسبة 16.8% بين العامين 2013 و2018. وفيما يخص الطلب الاستثماري (التكوين الرأسمالي الإجمالي)، نجد أنه قد ارتفع بنسبة 33.4% بين العامين 2013 و2018. أما من حيث تأثيره على سوق العمل، فنجد أن نسبة البطالة قد انخفضت بواقع 3.7% بين العامين 2014 و2020.[24]
لا يمكن الجزم بتأثير إقرار الحد الأدنى للأجور الأول (1450 شيقلًا) على هذه المتغيرات، لأن القرار لم يطبق بشكل فعلي في قطاع غزة الذي ترتفع فيه نسب البطالة والفقر عن مثيلتها في الضفة الغربية، وهو ما يستوجب دراسة معمقة تأخذ بعين الاعتبار جميع جوانب التأثير المحتملة لإقرار حد أدني للأجور.
خاتمة
بشكل عام، يمكن القول إن قرار رفع الحد الأدنى للأجور هو قرار إيجابي، ولكن إصرار الحكومة على توحيد الحد الأدنى للأجور بين جميع المناطق الفلسطينية، وبين جميع القطاعات الاقتصادية، على الرغم من التباينات الواضحة في مستويات التشغيل ومستويات المعيشة ومعدلات الأجور، وغيرها الكثير من التباينات، يدل على عدم جدية الحكومة بفرض حد أدنى عادل للأجور يراعي متطلبات الطبقة العاملة في فلسطين، ويراعي الفروق الاقتصادية البنيوية بين المناطق المختلفة.
حتى إذا كان الأمر صحيحًا، يبدو جليًا أن قرار رفع الحد الأدنى للأجور إلى (1880 شيقلًا) شهريًا، لم يستند إلى معايير اقتصادية واضحة، ولم يُبنَ على أساس دراسات تقييمية للأثر المتوقع من رفع الحد الأدنى للأجور، أو حتى على الآثار التي ترتبت على إقرار الحد الأدنى للأجور الأول (1450 شيقلًا).