“العبـــــــــــــــور ” قصة نبيل عودة
تاريخ النشر: 15/10/21 | 8:58كتبت بمناسبة الذكرى الميلادية الاولى لحرب رمضان والغفران
(1)
لا تعرف ماذا حدث بالضبط. ولا الطريقة التي جرى بها الحادث. وهل كان يمكن ان تختلف الامور؟ وما هي علاقة الاشياء ومؤثراتها؟ وكيف وصلت الى هنا؟ تحاول ان تكون صورة او فكرة. ربما تهذي.. وليس ما يمر في ذهنك الا صحوة الموت؟ يقولون ان للموت صحوة يستعيد بها الانسان كامل وعيه للحظات. مجرد التفكير بصحوة الموت يطمئنك. الذي يواجه الموت لا يمكن ان يعرف او يفكر بشيء كصحوة الموت. ليندا قد تكون هي السبب؟ لو اخرتك قربها للحظات لاختلفت تطورات حياتك. وليندا هي الشيء الذي تفتقده. وربما تفتقد أشياء اخرى لم تتذكرها بعد؟ كم من الوقت مضى على وجودك بهذه الحالة؟ لو أنك تستطيع فقط ان تحل العقد الصغيرة…؟ كل ما تذكره أنك كنت مع ليندا امرأة في جيل أمك. لكنها كلحم العلب المحفوظ. لا يطولها التغيير بسهولة. تركتها قبل ساعات. عن اي يوم تتحدث؟ وما هو تاريخ هذا اليوم؟ هل مضت عليك ايام هنا؟ وهنا ماذا تعني؟ ما هو مضمونها؟ ما هو إطارها؟ هذه المجاهيل الصغيرة والبسيطة تضع سدا بينك وبين الحقيقة. الحقيقة هي ما يجيء بعد تعميرة مضبوطة. عندها تظهر الاشياء على بساطتها وحقيقتها. ابدا البساطة والحقيقة شيئآن لا ينفردان، على شرط ان يكون الإنسطال قاعدة مشتركة لهما. سيجارة ملغومة قد تساعدك على التفكير. استنباط الواقع له اصوله. تسطيلة كيف درجة اخيرة تحل لك كل أسئلتك. وعلى ابسط وجه. الان انت متأكد أنك تعود الى وعيك. بدأت تفهم الحقائق الأساسية. ما زلت مؤهلاً لمواصلة الحياة. حتى وانت في وعيك لا تبعد عن الحقائق التي تكتشفها اثناء انسطالك. ليندا لا يكفها عشرة رجال، وانت بعد تعميرة على الاصول أفضل من عشرة رجال.
لماذا انت هنا؟ وهل حدث تطور ما دفع بك الى هذا المكان؟ القاسم المشترك الأعظم لحالات الوعي او الانسطال التي تمر بها هو علامات السؤال المحلقة بك من كل اتجاه. مضت فترة استسلمت بها لإغراء النوم. ربما لزمن طويل. ربما ليوم؟ او ليومين…؟ او لأكثر…؟ تغمض عينيك مرة اخرى. ان حساسيتك القوية لما يدور حولك، وعجزك عن التعبير عن موقفك.. بل خوفك، ضعفك النفسي، ضعفك العصبي، انهيار حبك الاول، النكسة، القلق المتصاعد، اليأس، مرارة أيامك والفراغ القاتل، كل ذلك تجمع عليك في لحظة واحدة فلم تجد بدا من اختيار اسلوب التسطيل. من يستطيع ان يتهمك باللامبالاة؟ لو وجدت الى اللامبالاة سبيلا لتغير نهج حياتك. هل حقا تود لو تغير نهج حياتك؟ وهل تستطيع ان تبتعد عن جلسات الكيف المجنونة؟ هل لديك القدرة على التغير؟ حتى وانت تستطلع مستقبلك لا تكف عن طرح الأسئلة. لو أنك قادر على تحليل واقعك ومستقبلك بدون اسئلة؟ ربما تخرج بنتيجة…؟ كل الاحداث التي تهز عالمك الفوقي تثيرك. حتى وانت في عز الانسطال. بل كثيرا ما دفعتك الاحداث المؤلمة الى نوبات عصبية لا علاج لها الا سيجارة ملغومة. وبعدها كنت تشعر بالسعادة وتطرح القلق جانبا. بدأت التحشيش بعد نكسة العرب الكبرى في العصر الحديث. ومن لا يعرفها؟ دمرت كل ما بقي في نفسك من كبرياء. مزقت ظلالك الانسانية. حبست نفسك لأشهر طويلة في منزلك. تبكي عربك. وتبكي حبك الضائع. ولم يخرجك من سجنك الا سيجارة ملغومة على الاصول، اشعرتك بنوع من الراحة لم تعهدها منذ وقت طويل. ووجدت الطريق سهلا. دفنت كل ما بقي في نفسك من قلق في غرفة يكسو سقفها دخان ابيض ذو رائحة رائعة كالبخور. وارتبط مصيرك بشيء، أصبح لواقعك تبرير كاف في نظرك، وجدت شيئا يسوى ان تعيش من اجله. وعندما حننت الى امرأة، بعثت بك الجماعة ممثلا وسفير شرف فوق العادة عنها.. والتقيت بليندا. انتظرتها في نفس غرفة التسطيل.. اسمها الأصلي بحبوحة، اسم غريب. ولوضع الامور في نصابها، او بمعنى اوضح. لإعطاء صفة عصرية للجنس، اختارت لها الجماعة اسم ليندا.. وبحبوحة هذه امرأة فقيرة.. دفع بها الفقر الى احضان عجوز نصف عاجز، فقست منه ذكرين.. وهبط كليا.. وانطلقت هي وراء اللقمة لها ولزوجها ولولديهما.
فتلقفتها الجماعة، وجرى العرض والطلب، بكل حرية، سوق رأسمالية حرة، لا احتكار من أحد، واصبحت الغرفة غرفة عمليات تجارية، ترتفع فيها الاسعار وتنخفض، بورصة من نوع خاص، تكثر البضائع وتقل، حسب ميزانية الزبون، المهم ان لا يحتكر البضاعة أحد. ان يتمتع الجميع. والدين ممنوع والرزق على الله. !! هل توجد ابسط من هذه الحكاية؟ انها تشبه حكايته إذا اخذناها من جانب آخر. هذه التفاصيل لا تقودك الى حقيقة وضعك. المهم ان تعرف اين انت وما الذي جاء بك الى هنا، وما حدث لك بالضبط؟
(2)
أخذت مجددا تحاول تدريج الاحداث في ذهنك. ما هو الأساسي وما هو غير الأساسي؟ انت الان متأكد ان الموت بعيد عنك. البداية يجب ان تبدأ بشيء آخر. يحسن بك ان تتمهل قبل صياغة تسلسل الحدث الذي أوصلك الى هذا المكان المجهول شكلا ومضمونا. هل تبدأ من نكسة العرب الكبرى في العصر الحديث؟ أنت بهذا الشكل لن تصل الى الحقيقة. التفاصيل من ذلك التاريخ حتى يومنا هذا معدومة من ذهنك. آلام جدية تعيق عليك تفكيرك. لو أنك تتمكن من العودة الى الوعي الكامل لفهمت كل الامور على حقيقتها. ربما غيابك المزمن عن الوعي جعل لغياب وعيك قوة استمرار ساحقة. هذه مأساة ان تحققت. قد ترغب يوما بأن تبدأ حياتك من جديد، بعيدا عن الغرفة والبخور وليندا. ان تعبر هذه الفترة وتصل مستقبلك بالماضي الذي تعشقه. كما تعشق اليوم سيجارة ملغومة. او حقنة من مادة غير مغشوشة. انت لم تعد تميز بين الافضليات. فكرك يموت وذهنك يتحجر. أنت بقية من العصر الحجري… شبيه بالإنسان. ربما لست بشرا…؟
كيف تطورت الاحداث حتى وصلت الى هنا؟ وهنا ماذا تعني؟ ما هي مميزاتها؟ ما الذي حدث لك؟ لو أنك تملك جوابا على هذه المسائل البسيطة لانحلت العقدة الكبيرة. هل تستطيع ان تسلسل الاحداث قبل ان تكتشف حقيقة المكان الذي انت فيه؟ ربما انت ميت، وما يمر بذهنك هو بعينه ما يواجهه الاموات؟ لكن لا يمكن للميت ان يشعر بالأشياء التي حوله. وربما يشعر؟! انت مثلا تشعر بما حولك. تشعر بأنفاس أخرى. بحركة دائمة. وهذه الحقيقة لا تساعدك على فهم اي شيء!!. كل ما هنالك أنك تهذي وتعذب نفسك. ورغم ذلك لا تستطيع الكف عن التساؤلات او الاسترسال وراء الصور الماضية.
هناك حقيقة واحدة تتذكرها، ربما لاختلافها عن بقية أحداث حياتك. لكن من التجني على الحقيقة أن ندمج كلمة أحداث بحياتك، حياتك هي حدث واحد لا يتغير. انسطال ليمتد محدود الضمان، برأسمال قدره كتلة بحجم حبة الزيتون، تلغم بها السجائر، او تعمر بها الجوزة، او قنينة مكسورة العنق، او حقنة من مادة مضمونة. حسب النفسيات والظروف والطلب.
ونعود الى الحدث الذي بدأ يداعب ذهنك. قبل أن تفقد من جديد طرف الخيط. رغم كثرة الضباب المحيط بالحدث نفسه، الا أنك ترى الصورة الأساسية… البلد كلها خرجت عن بكرة ابيها. منظر لم يشهده في حياته. لأول مرة منذ نكسة العرب الكبرى في العصر الحديث يشعر بسموه. كان قد اخذ نفسين من زميل له. لا اكثر، وعيه نصف نصف، ولكن الحدث كان اقوى حتى من الانسطال الكامل. شعر بإنسانيته بشكل صعب على التصديق. لأول مرة منذ سنوات يشعر انه كائن بشري. حدث معه أمر عجيب. نزل عليه شيء من الفضاء. السعادة دغدغت كل اطرافه وهو يندمج بالسيل البشري الجارف. سعادة ودموع وقوة. تمنى ان يستمر هذا التدفق البشري الى ما لا نهاية. شعر بمعنى ان يكون المخلوق انسانا. بح صوته وهو يهتف من اعماق اعماق نفسه، كان يبكي بشكل يشعره بارتياح عظيم، شعر بنظافة نفسية. نظافة طال حنينه اليها. منذ النكسة لم يحلم بلحظات كهذه.
الآن تبدو له الاشياء مختلفة. العرب خرجوا من كل مكان وفي كل مكان. تبدو وكأنها مسيرة واحدة عبر المدن والدول والقارات. كان وداعا لرجل واحد. رغم النكسة، كان المعبر الوحيد عن الجديد والنظيف في حياة الملايين، هو الطريق الذي خرجوا لتأكيده في ظل العتمة والخوف.
يومها هاجم البوليس التيار الجارف من جميع الاتجاهات. على امل ان يحصر المتظاهرين في منطقة صغيرة خوفا من وصولهم الى اكوام الحجارة، او مخازن الاسلحة كما تسمى، وهي، لمن لا يعلم، السلاح الوحيد المرخص به طبيعيا للعرب، والوحيد الصالح للاستعمال في كل الظروف، لا يطوله الفساد، ولا يحتاج لصيانة، ولا يمكن حجزه في مخازن الأسلحة، والاهم انه السلاح الوحيد الذي يستطيعون، ان ارادت السلطة او لم ترد، التعلم على استعماله، ونقصه الوحيد انه لا ينفع في اسقاط الطائرات.
اشتد يومها حصار الشرطة وبطشها لتفريق المسيرة العاصفة. والمحاصرون، المصرون على التظاهر، لا يملكون الا ذخائر قليلة لا تفي بكسر الحصار. ويومها تفتق عقله عن حل. هل كان مسطولا؟ أبدا. وجد الحل. هل يكون العكاويون اقل حذاقة من النصراويين الذين عملوها في ايار المشهور عام 1958؟
وماذا فعل أهل الناصرة؟
الحكاية ان الناصرة تزفتت شوارعها الرئيسية، وشوارع بعض الاحياء أيضا، بعد اول ايار 1958.. والسبب بسيط، استعمل يومها المتظاهرون في الناصرة بلاط الشوارع.. كانت فرق تقتلعه بمساعدة المفكات وقطع الحديد المختلفة، وفرق تكسرة الى قطع ملائمة، ويسلم جاهزا للاستعمال الى الشباب في المقدمة حيث يرشقون به كل ما يشتبه ان بوليسي… وخوفا من تكرار الحوادث المشابهة، ولتقليل كمية الذخائر المتوفرة للعرب، بحيث تصبح غير كافية لخوض حرب حجرية – عصرية، قررت السلطات يومها تقليع كل البلاط الذي رصف به الاتراك شوارع الناصرة، وتعبيد الطرق. وهكذا، كما تسجل في التاريخ. تبدل بلاط شوارع الناصرة بالأسفلت الاسود العصري، اما الاتربة فلا خطر منها، فبقيت كما هي.
هذا هو قانون التطور الذي خدم العرب في اسرائيل في العديد من اتجاهاته. اذن لماذا لا يفعلها العكاويون بعد 12 سنة، والبلاط متوفر والحصار شديد؟
يا عرب.
(3)
وكان ما كان. خذوا الحكمة من افواه المساطيل. الفرق صغير جدا بين المجانين والمساطيل. كلهم يبتعدون عن الوعي. ما يميز المساطيل هو عودتهم للوعي بين وقت وآخر.
عقلك أصبح ثخينا. والبرهان أنك لا تستطيع معرفة ماذا حدث لك…؟ وكيف وقع الحادث؟؟ تشعر بألم ودوخان وضيق في التنفس… اعصابك مشدودة بتوتر شديد. تريد سيجارة. ولكنك لا تعرف كيف تحصل عليها. تريد ترويقة. شمة عابرة. شيء يريح اعصابك.
لا لم يجر لك شيء في تلك المعركة. عدت تسطل بعد نصف يوم. المهم أنك صمدت هذه المدة الطويلة. بشارة خير فائدتها لم تجن. متى بدأت تفكر في العودة الى عالم الواقع؟ هذا السؤال الوحيد الذي تستطيع ان تحدد له جوابا واضحا على نحو ما. حدث ذلك بعد ان “لمك” البوليس في مساء ذلك اليوم. جاء الى الغرفة “التجارية”. قلوبكم تجمدت، ولكنه لم يكترث للرائحة الطيبة المنبعثة في فضاء الغرفة. وللعيون نصف المغلقة. سحبوك الى مركز الشرطة بكامل وعيك. وبكامل اعصابك. فتعميرتك لم تكن قد حضرت بعد.
ساد الاعتقاد بان المخدرات هي السبب. لذلك اسرعت جماعتك، كما علمت فيما بعد، بتنظيف الغرفة من الذخائر. وفتح النوافذ للتهوية، وتعليق صور زعماء الدولة والحكومة على حيطان الغرفة، استعدادا لما قد يأتي في اعقاب اعتقالك. والاستعداد لمواجهة الموقف ببراءة يعجز عنها الاطفال.
رموك في غرفة قذرة، وتركوك تتعذب حتى فجر اليوم التالي. لم يغمض لك جفن. تعترف أنك ارهقت وارتعبت. اولا، انت حشاش قبض عليه متلبسا بالجرم، وكنت تظن ان الشرطة جمعت الأدلة الموجودة في الغرفة. واعتقلت بقية الشلة. وثانيا، وهذا الابلى، اشتراكك الفعال في مظاهرة الأمس. ودورك الطليعي في الوصول الى سلاح فعال لم يؤخذ من جانب البوليس بالحسبان. حقا هو سلاح قديم، سلاح الفقراء والمظلومين. سلاح حجري في عصر الفضاء، ضم اليه بلاط الشوارع، الذي لم يفكر فيه بوليس عكا من قبل، على اعتبار ان عكا بعيدة عن الناصرة.
في الفجر قادك شرطيان الى غرفة الشاويش. كل ما استحوذ على ذهنك هو شيء تسكن به اعصابك. سيجارة بنت اصول. مهدئات. المهم ان تعود لهدوئك. كل ما تتذكره ان الشاويش قدم لك سيجارة لم تستطع ان ترفضها. ثم وضع علبته تحت تصرفك. كان وجهه ضحوكا، ينظر اليك من فوق أنفه، وكرشه الكبيرة تتكئ على الطاولة. وأنفه الافطس قليلا ضخم وأحمر للغاية. يلوح من بين عينية كالبيرق. او كتمت ابتسامة كادت تفضحك، اذ ذكرك الأنف الافطس بشيء يحمله الجحش، فكدت تضحك. كان يتكلم العربية بثقة، رغم انه يشوهها بأخطائه التي لا تحصى، ومما قاله تتذكر:
– نحن لا نريد ان نسبب لك المشاكل.. لا نريد ان نؤخرك عن أصحابك. نحن نعرف كل شيء عنك وعنهم. لا تنكر. كن معنا نكن معك يا حبيبي. انت انسان واع (كدت تضحك مرة أخرى). لماذا اشتركت مع الشيوعيين في رمينا بالحجارة؟ هذه اجرتنا لأننا لا نتدخل في شؤونك؟ انت تفهم ما أعنى. اريدك ان تبقى عاقلا. ان تعاوننا. من الذي حرضك على الاشتراك بالمظاهرة؟ من قال لك ان ترمي الحجارة؟ ومن هم المنظمون؟ ومن اعتدى على الشرطي شمعون؟ من حشرة داخل برميل الزبالة؟ تكلم يا حبيبي. ساعدنا لنساعدك.
بعد ان استعصى فك لسانك ضربت بالعصي حتى الاغماء. ثم حررت. وفهمت ان اعتقالك لا جدوى منه لأنك لا تتعامل بالسياسة. انجرفت مع “القطيع”. وهي حالة نادرة مع امثالك. والدرس الذي لقنوك اياه مع وسائل الايضاح التي كسرت اضلاعك ولونت جسدك بالكدمات الكحيلة، ستبقى ماثلة ان شاء الله لكل العمر. الحساب معك انتهى!!
وعدت الى الاصحاب. حدثتهم بما حصل فاطمأنوا الى وضعهم وأمنهم. أما أنت فشعرت بتفاهتك وحقارة حياتك. وتنامى حقدك وغثيانك من واقعك. حقا لم ينجحوا بفك عقدة لسانك. مما يشعرك ببعض الكرامة والزهو، ولكن حالتك لا تبعث على الزهو، ولا شيء من الكرامة فيما تمارسه. لا شيء انساني في حياتك التافهة، تعرف ذلك، تثور نفسك، وتدخل الى متاهات لا نهاية لها. وتتخلص من عذابك بالانسطلال. المهرب المضمون من وعيك ومتاهات نفسك. كنت تتذكر حالة التجلي مع الجماهير. تطمع بالتخلص من واقعك، فلا تجد الجرأة، وفي لحظات وعيك القليلة تبكي حنينا الى حياة نظيفة. ثم تتخلص من وجع فكرك بالانسطال من جديد. ربما كان يجب ان يحدث ما هو أكبر، ما هو أخطر. حتى تستطيع العودة الى اصولك الانسانية. يجب ان تعود. حقيقة تكبر في داخلك، تشتد في ضغطها على ذهنك… تستعيد لحظات التكاتف مع الرجال. الصوت الواحد. القدم الواحدة. الساعد الواحد. للآلاف. للملايين. كيف لا تصير من هذا التيار؟ كيف لا تعود. الى انسانيتك؟ فقط ان تضع قدمك على اول الطريق. وستواصل وحدك؟ حقا؟!
(4)
وسرعان ما عدت الى الاستسلام. وعادت الايام الى طبيعتها الخاملة. تقضيها غائبا عن عالمك، او بين احضان ليندا.
الجديد الذي حصل هو كثرة العودة لصراع افكارك بين الدفع للعبور فوق واقع التسطيل، لربط مستقبلك بما انقطع من ماضيك، وبين الاستمرار فيما أنت فيه. أما أفضل جواب لديك، فبقي كما كان. رغبات تدفنها عميقا في نفسك. افكار تقمعها بالسموم. نوايا تعذبك فتهرب منها الى احضان ليندا…
(5)
تشعر الان أنك تسيطر على افكارك بصورة أفضل، أصبح هناك تسلسل منطقي، لكن ليتك تستطيع ان تسلسل الأحداث الأخيرة التي قادتك الى هنا. يبدو ان بعض الظلال تخترق فكرك المتحجر. المخدرات تركت أثرها عليك، ومع ذلك لم تستطع فراقها. هي الحبيبة، هي الحياة، هي الخبز، لو أخرتك ليندا لما حدث لك هذا. ولكن لماذا حدث؟ الآن تلمس جيدا، او هذا ما تريد ان تتصوره، ان هذه الاسئلة تقودك الى سيل الرجال الجارف. الى الحجارة والبلاط المقتلع. الى الانعتاق الانساني. الانعتاق الذاتي. التحرر من الخوف. امتلاك الارادة. الرؤية الضميرية. والتصرف بما يمليه الضمير. الى التفجر الذي يجيء بعد الكبت الطويل. الى التنفس بحرية من الهواء الطلق. الهواء المعطر بعرق الرجال الى الارتباط بشيء له معنى، له واقع، له إطار، له مضمون. الى شيء ربطك وانت في مطلع شبابك بقضية كبيرة احببتها ولكنك خفت ان تجاهر بها. خاف والدك على وظيفته، وخافت أمك على وظيفة زوجها. وخافت عائلتك عليك. الخوف هو الذي جعلك مسطولا حتى في وعيك. مجتمعك كله كان مسطولا.. لولا الخوف لكنت شيئا آخر. وفي نفس الوقت انت لا تريد الابتعاد عن غرفة المواهب وليندا.. والصراع هو بين لذة الوعي والعمل في سبيل شيء واضح، وبين لذة الانسطال والتحليق في فضاءات واسعة ممتدة. لو تأخرت قرب ليندا لتغير وضعك الآن.
شيء غريب شد أفكارك ووعيك. يبدو أنك اكتشفت طرف الخيط. كنت نصف نصف.. ليندا كانت خائفة وتريد العودة الى ولديها. قالت ان الحرب اشتعلت. لم تفهم شيئا.
– العرب هجموا..
– وانا سأهجم عليك..
– اريد ان ارجع الى الاولاد.. سيرتعبون.. انا خائفة عليهم.
هل تتحدث هذه المرأة بعقل؟ حرب؟ حتى ليندا تفكر وتخاف على شيء تملكه.. اولادها؟ من أجلهم هي هنا؟!. وأنتم؟ كلكم.. حيوانات.. كيف لم تكتشفوا ذلك من قبل؟ كيف لم تفكر انها انسانة الا الآن؟ والقلق الذي يعلو وجهها…؟ والرجاء المنطلق من عينيها. تخاف ان تخسر رزقها. رزقها المجبول بنذالتكم. انها أشرف منك. أشرف منكم. أشرف من عائلتك. أشرف من مجتمعك. تعطي نفسها حتى لا يجوع ولديها. يا لهول ما يعتريك. هل هي صحوة ضمير؟ صحوة الانسان المخبول في داخلك؟
بردت كل اعصابك بشكل فجائي لم تعهده من قبل. وسألتها ان كانت قصة الحرب جدية؟ قالت امورا صعبة على التصديق. لم تستوعب كل ما قالته. هل يعقل ان يتعلم العرب الهجوم؟ خافت منك. لا تعرفك الا مسطولا.. اما ان تطرح سؤالا جديا. ان تهتم بمسألة فوقية كهذه؟ هذا تغيير مقلق. بل مرعب بالنسبة لها.
تراجعت خوفا منك واخذت تتعرى بيأس وخوف، وطبقة من الدموع تطلي عينيها.
– ارتدي ثيابك.
أمرتها بشكل جعلها تطمئن قليلا. امرأة لا مورد لها. تعيل طفلين وزوجا مقعدا. والحيوانات أمثالك تستغلها…؟ وأنت بالذات كيف قبلت؟ اين كان ضميرك؟ سؤال مضحك عن الضمير. الضمير هو اول من ينسطل.. حتى بدون مخدرات. وبعد ذلك تجيء التطورات. فينسطل ما بقي من فكر ووعي. وكلها اسماء لشيء واحد هو العقل. وصحوات العقل كثيرة، ولكنه مسطول من كثرة الراحة والخمول. وهو قليلا ما يصلح للاستعمال. ولكنه أحيانا يرتكب نوادر غريبة. ينشط ويثير أسئلة وأجوبة. ويعذبك حتى تنسطل وتسطله معك. حكاية معروفة تتكرر. والآن تشعر ان صحوته لن تمر على خير. ربما في اعماق نفسك لا تريده ان يعود الى خموله. وهناك سبب كاف. القرف والجريمة والنذالة التي تنكشف امامك. استمتاعكم بمآسي غيركم. وحنينك لان تصبح وتبقى ابدا واحدا من الرجال الذين عرفتهم في أعظم مسيرة في التاريخين القديم والحديث. ان يكون لك إطار ومضمون. انت بحاجة فقط الى المساعدة. لا تعرف كيف تحصل عليها. هل انت مسطول الآن ام في قمة وعيك؟ وما هو التطور الذي جعلك ترقد هنا؟ والآلام العنيفة التي تجتاحك؟ والعرق الذي يغمرك؟ وأعصابك المشدودة المتوترة؟ الان تتكون في ذهنك تفاصيل أكثر وضوحا. ما مضى من وقت هو اقل من ساعتين. ومن اين لك ذلك؟ ربما مضت عليك ايام. فالصدمة كانت من القوة بحيث دحرجتك عدة أمتار فوق الاسفلت الاسود. الان تعرف سبب الألم. انت لست بخائف. المهم أنك بدأت. وعليك ان تواصل. ان تصمد !! هل ستفعلها؟؟
(6)
لم تكن قد كونت فكرة كاملة عن الخبر الذي نقلته لك ليندا. ولكنه جعلك متسمرا، متعلقا بين الخوف من الماضي الذي لا يزال يعذبك، ومتعشق للجديد الذي ان حدث كما تريد فقد ينقذك. ربما تتعلق بالأوهام. انت تقر بضعفك. اذ لولا ضعفك ما وصلت الى المخدرات. تركت ليندا وخرجت. الان تعلم انه لا ذنب لها بما حدث. عند اول مقهى وقفت تلتقط السمع. وجوه الناس متغيرة، شيء جديد توحي به الوجوه. او ربما نظرتك بوعي الى الوجوه هي سبب التغير الذي تلاحظه وتحس به؟ الهدوء غريب، ولكن الاغرب هي الثقة التي يتحدث بها الناس. هل حدث كل هذا في لحظات؟ اين كنت انت؟ في اي كهف اعتزلت؟
كان جهاز الراديو يبث من كل موجاته ومحطاته موسيقى عسكرية واناشيد. والناس ملؤهم الهدوء والثقة. هل أصبحوا مساطيل بعد ان عدت انت الى وعيك؟ غريب ما يحدث. الجو مشحون بخبر لم تعه على حقيقته بعد سمعته مقطعا من مصدر غير مؤهل. من ليندا…. تنتظر كلمة من المذياع لتفهم ما يجري. تتذكر الاجواء بعد النكسة، ايام ذل لا تنسى، تتذكر الاحباط الشامل والشعور بالضياع، تتذكر العار الذي اغرقك وأغرق الناس، تتذكر الالم غير الانساني الذي مزقكم ومزق احلامكم وقهركم واحالكم الى اشخاص بلا قيمة. هل نسي الناس النكسة؟ هل حقا تكفي سنوات ست لتغيير الحال من ضياع الى أمل؟ من عار الى فخر؟ الثقة التي تملأ وجوه الناس، ونظراتها التي تلمع بصمت، مشاعر غريبة وتبعث على الرهبة. أمر جلل قد وقع. وترامى اليك صوت المذيع. حتى الصوت يختلف عما تعودت على سماعه منذ النكسة. والقوة بالتعابير عبر الأثير لها طعم لم تعهده من قبل. هل نمت كل هذه المدة، فلم تلحظ التغيير من اوله؟ ام ان التغيير كان فجائيا؟ الجميع يتصرفون وكأن شيئا لم يحدث. وكأن ما يذاع هي مجرد تمثيلية. وها هم يقفون تحت الشمس لتكشفهم. يخرجون الى الضوء باعتزاز. وسمعت أحدهم يهمس في اذن زميله ضاحكا:
– لم اعد شقفة عربي.. اصبحت من اليوم عربيا كاملا!!
تريد ان تقول له كلمة. ولكنك تخاف ان تقولها. لم تتعود ان تتكلم وانت في وعيك. ويقطع صوت المذيع ما انت فيه من حيرة وشوق للفهم:
– عبرت قواتنا قنال السويس واحتلت خط بارليف..
شيء يجعلك تقفز كالمجنون داخل المقهى. تنظر بانبهار للناس. تشعر بالأنفاس المتهدجة حولك. تشعر بانسطال حقيقي لم تعهده من قبل ابدا. انت الان تحلق.. العيون ترميك بنظرات الريبة. كل تلك السنين لم تعلمك اصول التصرف؟ السؤال واضح. بل هو مكتوب على ثنيات الوجوه. وفي نظرات الاعين. وعلى الشفاه التي تحبس الابتسامات. اثارك جمودهم. ربما ما يسمى بالعقل عندك لم يعد سليما؟ نظرت إليهم تريد ان تعانقهم فردا فردا. ربما لم يفهموا الحدث. الا يذكرون العار الذي خردقهم قبل ست سنوات؟ لقد عبرناه. وبدون وعي تعالى صراخك:
– عبروا!!
انت الذي عبرت واقعك ويأسك. وانطلقت في الشارع. لا شك ان الانسطال المزمن ترك أثره على تفكيرك وتصرفاتك. كنت تصرخ بفرح. أشياء مفهومة وأشياء لا معنى لها. كانت السعادة أكبر من حجمك ومن عقلك ومن طاقتك. حتى عندما رأيت سيارة الشرطة لم يهتز لك رمش. صرخت بهم:
– عبروا..
واندفعت أمامهم. طاردوك. ركضت. واجهدك العرق وبح صوتك وانت تصرخ:
– عبروا..
وغمرتك الراحة والسعادة. وشعرت بإنسانيتك تتجلى. تسمو الى الآفاق.
– عبروا…
لم تلتفت للخلف. واصلت الصراخ بفرح. فرح تحررك من واقعك. فرح العودة الى اصولك. فرحة الانسان الذي وصل بر الامان بعد معاناة مع البحر الهائج المائج. انت الان تعبر معهم. انت تحلق بعيدا بعيدا في الفضاء.
وبعد.. صدمتك سيارة. على الاغلب سيارة الشرطة. فتدحرجت على الاسفلت، انت وافكارك وصراخك، يجمعكم رابط الفرح والألم.
وها انت تستعيد وعيك. كم مضى عليك هنا؟ هل هذا مستشفى؟ سجن..؟ او كلاهما معا…؟
ولكن هل ستصمد؟ وارتسمت ابتسامة كبيرة فوق شفتيك. ورفعت قبضتك. وصحت من اعماق روحك:
– عبروا !!