د. سامي الكيلاني -قصص قصيرة جدا
تاريخ النشر: 16/10/21 | 11:17(1) بحر أخضر يفتح صدره
قوة ما تحركت في داخله وأمرته بالتوقف عن السير في الاتجاه الذي كان يسلكه وأمرته أن ينعطف إلى اليمين في الطريق الفرعي غير المعبد الذي يخترق كروم الزيتون. امتثل للأمر وسار حتى انتهى جزء الطريق الذي تحف به أشجار الزيتون المعمرة. حقل القمح الأخضر يمتد أمامه كبحر لامتناهي الحدود. يبدو المرج له أكبر من المعتاد من موقعه على الربوة التي وصلها. كان المرج بحراً أخضر بمعنى الكلمة، وقف على شاطئه يتأمل قبّرة تحلّق فوق المرج بحركة تنسجم مع الأمواج الخضراء التي يصنعها النسيم الذي يهب فوق البحر الأخضر. المرج يفتح صدره أمامه ويناديه، يغريه، يخرج من جوفه أرانب برية صغيرة تتقافز أمامه وكأنها تدعوه لمطاردتها. يستجيب لدعوتها فيخرج من صدره صبياً، يعرفه، يعرف وجهه، وميّزه أكثر عندما استدار فظهر بنطاله المرتوق بقطعة كبيرة على المؤخرة مخيطة بخيوط لا يتناسب لونها الغامق مع اللون الفاتح للبنطال، فبدت كبذور حبة البركة السوداء المنثورة على وجه رغيف أبيض. اقترب من المرج ممسكاً بيد الصبي وتعمّقا قليلاً في البحر الأخضر، ثم أطلق الصبي وقال له: اركض مع الأرانب، انطلق ولا تخش الغرق في هذا البحر، ابحث فيه عن لآلئ البرّيد والصيبعة، أخرِجْ قميصك من البنطال واجعل منه “حَرجاً” ولا تعد دون أن تملأه بالخيرات، لا تُغضب الحقل، كن حنوناً خفيفاً ولا تؤذِ كائناته. الصبي يتعمق في البحر الأخضر وهو يتابعه بعين الفرح، لم يساوره الخوف رغم اختفاء الصبي في عمق البحر الأخضر. جلس على حجر عند طرف الحقل منتظراً عودة الصبي بصيد ثمين.
(2) أبو سعد والجوع
طيور اللقلق تبدو نقاطاً صغيرة قادمة من الأفق الشمالي وهو يراقبها عند طرف الحارة في ساحة “البير الشمالي”. سرب الطيور يقترب والأولاد يهتفون له “أبو سعد دق الرعد باب دار الشيخ”. السرب يقترب والنقاط الصغيرة تكبر لتصبح طيوراً من الريش الأبيض والأسود رقابها مندفعة إلى الأمام وسيقانها مندفعة إلى الخلف. الأولاد جميعاً يرددون هتافهم بنغمة قوية، وهو يحاول أن يرفع صوته قدر استطاعته ليجاري النغمة المطلوبة، ولكن صوته واهن بسبب الخنة الناتجة عن الرشح الذي أصابه بالأمس وبسبب الجوع. لم يكن بانتظار أسراب اللقالق، كان مع الأولاد على ساحة البئر الشمالية يراقب عودة أمه من الحقل. تأخرت، فاندمج مع جوقة الأولاد المحتفلين بقدوم الطيور وموكبها المهيب، شاركهم دون أن يتوقف عن مراقبة طريق الحقل بانتظار وصولها ليذهب معها إلى الدار. لقد تأخرت في الحقل والجوع يقرص معدته فيمنعه من الاندماج مع الجوقة بصوت عالٍ مثلهم.
بوده أن يقول للطيور “يا طيور طايرة، أنا جوعان، أمي لم ترجع من الحقل، استعجلوها”، فلا يعنيه الرعد ولا تعنيه دار الشيخ، يود لو يقول لها وتسمعه، كما قالت جبينة في الحكاية التي سمعها من أمه عشرات المرات “يا طيور طايرة، يا وحوش سايرة، خبّرن أمي وأبوي جبينة راعية، …”.
(3) جموح
حاول مرة أخرى بكل ما أوتي من قوة أن يشد رسن الحمار عسى أن يخفف من اندفاعه الجنوني الجامح إلاّ أن كل محاولاته لم تثمر. ليس بإمكانه أن يقفز عن ظهره، فقرر أن يتمسك بجسم الدابة حتى لا تطيح به أرضاً بدلاً عن ذلك، سنواته العشر لم تجعل منه بعد فارساً للحمير، وثقله غير كافٍ لأن يثبت نفسه بقوة أكبر بواسطة الساقين الضاغطتين على جنبي الحمار. قرر أن يجرب صوته عسى أن يفعل الصوت ما لم يستطع الجسد الخفيف فعله، صاح بأعلى صوته مكرراً “هِشْ، هِشْ، هيييش”، إلاّ أن الدابة العنيدة ظلت تسابق الريح. استسلم وتمسك بيديه الصغيرتين برقبة الدابة ممداً جسمه على ظهرها منتظراً فرج هدوئها.
حتى الطريق الصاعد لم يخفف من جموح الدابة اللعينة، كان أمله أن يعبر الطريق المنبسطة التي ربما أغرت الدابة بهذا الطيران لتهدأ وتسير ككل الدواب المحترمة. ضاع هذا الأمل، وفجأة جاء الأسوأ، اتجهت الدابة اللعينة نحو سرب الشجر الشوكي الذي يشكل حدود قطعة الأرض التي تقع على يمين الطريق، دبّ الرعب فيه، سياج الشجر الشوكي غير مرتفع وإن مرت تحته فتلك الطامة الكبرى، التصق أكثر بظهر الدابة وشد الرسن بكل ما أوتي من قوة باتجاه اليسار. كانت الحركة مفيدة بعض الشيء، انحرفت قليلاً، ولكن اندفاعها بقي ومرت تحت الأغصان الشوكية الخارجية. بقي صامداً ملتصقاً بظهرها مسافة قليلة ثم أطاحت به الأغصان على الأرض. تحسس بيده اليمنى بعض الخدوش على وجهه وعلى ظهر كفه اليسرى. حاول تحريك يده اليسرى، كان الألم شديداً. فطن إلى الدابة اللعينة، كانت على مقربة منه واقفة هادئة، تمالك نفسه، وقف وجرها بالرسن بيده اليمنى إلى البيت القريب، لم يكن بإمكانه ركوبها ولم يرغب في ذلك. طلب من أصحاب البيت مساعدته، حمله صاحب البيت ووضعه على الدابة وركب معه ليمسك به وأوصله بيت أهله.
في اليوم التالي كان يشرح لأصدقائه في المدرسة تفاصيل الحادث بإشارات توضيحية من يده اليمنى بينما يده اليسرى معلقة برقبته بقطعة قماش تحتضن الجبيرة التي صنعها “المُجَبِّر” من البيض ومبروش الصابون.