مداخلة د. غانية ملحيس في برنامج “بدائل وخيارات”
تاريخ النشر: 17/10/21 | 16:49كل الشكر والتقدير لمركز مسارات ومديره العام الأستاذ هاني المصري على الدعوة الكريمة، والتحية أيضا لمدير الجلسة الدكتور عماد أبو رحمة، وللمشاركات والمشاركين جميعا.
لا أدعي أنني أمتلك رؤية وتصورا ناضجا للخروج من المأزق الفلسطيني، فذلك يفوق قدرة الأفراد، ويحتاج لجهد مؤسسي وفريق عمل متكامل متنوع الاختصاصات.
لكنني سأحاول التفكير بصوت عال، ومشاركتكم نتائج مراجعتي للواقع الفلسطيني، والمعايير التي استخدمتها في استخلاص تلك النتائج. فالتوافق حولها يسهل استشراف الحلول.
يرجع كثيرون أسباب المأزق الفلسطيني الراهن إلى اتفاق أوسلو قبل ثلاثة عقود. ويرى البعض الآخر أنه يعود إلى انقلاب إسرائيل على الاتفاق بعد اغتيال رابين عام 1995 وصعود اليمين الإسرائيلي إلى الحكم، وإعادة اجتياح مناطق الحكم الذاتي عام 2002. وينسبه آخرون إلى انقلاب حماس عام 2007، وانقسام النظام السياسي الفلسطيني منذ ذلك الحين، ويحددون عناصر المأزق الراهن، بأزمة قيادة، واهتراء منظمة التحرير الفلسطينية، وغياب التكامل بين الفعل المقاوم والسياسي، والانقسام المزمن والمستعصي على الحل، وغياب الديموقراطية، وانعدام سيادة القانون، وغياب الحوكمة.
ويرون الخلاص بتشكيل قيادة موحدة (بالتوافق أو بالانتخاب)، وإنهاء الانقسام، مع تباين أولوية التنفيذ، ويتفقون على تأجيل الاتفاق على البرنامج السياسي، لما بعد تشكيل القيادة الموحدة وإنهاء الانقسام.
وبرأيي أن المأزق الفلسطيني الراهن، ناجم في الأساس عن مأزق مزمن تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدء الغزوة الاستعمارية الصهيونية لبلادنا قبل أكثر من قرن، تتابع حلقاته وتتباين أشكاله وتتنوع مظاهره وتزداد حدته بمرور الزمن.
وأن تحميل اتفاق أوسلو والتطورات التي أعقبته المسؤولية عن المأزق الراهن غير صحيح، رغم إسهامه الكبير في تسارع تدهور الوضع الفلسطيني.
وللتذكير فقط، فقد تم تبرير توقيع اتفاق أوسلو باعتباره مخرجا من مأزق فشل مفاوضات واشنطن التي جرت في إطار عملية التسوية السياسية الأميركية التي أطلقها مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، والتي جاء الانخراط الفلسطيني بها آنذاك، بدعوى التقاط الفرصة التي أتاحتها الانتفاضة الشعبية الفلسطينية وتنامي الاهتمام الدولي بها، للخروج من الأزمة الخانقة بفعل العزلة العربية والدولية والحصار السياسي والمالي المحكم الذي فرض على منظمة التحرير الفلسطينية بعد اجتياح العراق للكويت.
ورغم توصية مركز مسارات بتجاوز التشخيص والتحليل للتاريخ والحاضر، الذي يرى أنهما قد أشبعا بحثا، والتركيز في مداخلتي على استشراف سبل تغيير الواقع القائم بمقترحات عملية تتعامل مع مشكلاته الملحة.
إلا أنني أعتقد بتعذر إمكانية التعامل مع المأزق الراهن خارج السياق التاريخي، فالحاضر ما هو إلا حلقة وسطى بين الماضي والمستقبل. وحقائقه القائمة لم تكن قدرا محتوما، وإنما تشكلت نتيجة لتفاعل منظومة متكاملة يتوجب علينا التمعن في بنيتها، والبحث في أسبابِ وعوامل وظروف تشكلها، والتعرف على مكنوناتها الفكرية، وتركيبة القوى الرئيسية فيها. وتبين أهدافها وتشابكات مصالحها. وفهم صيغ وآليات تفاعلها داخليًا وخارجيًا.
ذلك أن تغيير الواقع المأزوم يستوجب حكما التعرف على طرق ومستلزمات تفكيك المنظومة التي أفضت إليه وشكلت وقائعه. وتحديد سبل ووسائل إعادة تركيب منظومة مؤهلة تخلق وقائع جديدة مستهدفة، وتفتح الآفاق للتأسيس لمستقبل أفضل.
وأرى أن حالة الاستعصاء الفلسطيني الراهنة، ما هي إلا نتاج تراكمي للعجز الفلسطيني المستدام عن إدراك طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه وتشابكاته المحلية والعربية والإقليمية والدولية. والعجز المزمن بسبب ذلك في بلورة مشروع نهضوي تحرري إنساني نقيض مؤهل لهزيمته.
نقطة الانطلاق في بلورة الوعي المعرفي الفلسطيني بطبيعة العدو الصهيوني الذي فرض علينا خوض الصراع معه، تستوجب الإدراك بأن استعمار فلسطين واستبدالها بإسرائيل، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالمستوطنين اليهود الأجانب ليس مشروعا استعماريا قائما بذاته، وإنما جزء من مشروع استعماري للقوى الدولية المتنفذة للسيطرة على عموم المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة، التي تلعب السيطرة عليها دورا مركزيا في ترجيح موازين القوى الدولية.
حيث تتمركز فلسطين في نقطة الوصل والفصل الجغرافي والديمغرافي، وتنفرد بقداستها لأتباع الديانات السماوية الثلاث، ما يسهل توظيف الدين اليهودي لاستعمارها، فيحل المسألة اليهودية المتفاقمة بفعل تنامي العنصرية الأوروبية عبر تهجير يهودها إلى فلسطين وتوطينهم فيها. ومن جهة أخرى يمكن القوى الاستعمارية من تجنيد المستوطنين اليهود المقتلعين من أوطانهم الأوروبية لإقامة حاجز جغرافي وديمغرافي يشكل امتدادا للحضارة الغربية، وتأهيله للاطلاع بدور وظيفي كوكيل مؤتمن وقاعدة متقدمة، يناط بها إخضاع المنطقة عبر تكريس تجزئتها وتفريق شعوبها وتعطيل نهوضهم، ومنعهم من استعادة وحدتهم.
أردت بهذه المقدمة التي قد تبدو للبعض خارج السياق، الإشارة إلى قضايا ثلاث:
الأولى: أن غياب الفهم الشمولي لطبيعة العدو الذي نواجهه وتشابكاته العربية والإقليمية والدولية، وإغفال الموجبات والمستلزمات الضرورية للانتصار عليه، زمنا وجاهزية وموارد وتحالفات، كان وما يزال السبب الرئيسي في المآزق الفلسطينية المتتابعة.
الثانية: أن الكفاح الفلسطيني والتضحيات الجسيمة التي لم تكف الأجيال المتتالية عن تقديمها طوال أكثر من قرن، غير كافية وحدها للانتصار عليه. وان الاستهداف الوجودي للشعب الفلسطيني يحتم عليه أن يكون في طليعة المواجهة، وأن يشكل رأس الحربة لمقاومته.
لكن هزيمة إسرائيل تفوق قدرة الشعب الفلسطيني، وتحتاج إلى تحالف واسع تشترك فيه قوى التحرر العربية والإقليمية والدولية، بما في ذلك اليهود المعادين للصهيونية.
الثالثة: أن تواصل الإخفاق والتراجع الفلسطيني على مدى أكثر من قرن رغم جسامة التضحيات، ناجم عن استمرار التعامل الجزئي مع مظاهر الأزمات التي يتتابع انفجارها، بمنهج ارتجالي وردود أفعال على أحداث يبادر العدو وحلفاؤه إليها. والاستمرار في البحث عن حلول آنية للخروج من المآزق المتتالية، بالقفز بين الخيارات والبدائل التي يلقى بها إلينا لتضليلنا،
يجمع خبراء السياسة على أن القضايا الكبرى تتراجع تحت ضغوط المشاكل الملحة. ويقول المثل العربي “صاحب الحاجة أرعن”، بمعنى أن الضغوط توجه التفكير وتحرفه باتجاه البحث في سبل تخفيف وطأتها، وهذا رد فعل طبيعي للبشر جميعا. فالمهدد بالقتل يبحث عن فرصة للنجاة، ويمسك بأي طوق يلقى إليه دون التبصر في أهداف من يقدمه. والجائع يبحث عن قوت يبقيه على قيد الحياة ولا يفرق بين الطعم والطعام.
لا أحتاج لأمثلة لإثبات ما أقول، فالتاريخ الفلسطيني والعربي قديمه وحديثه مليء بالشواهد.
ومراجعة عاجلة لحصاد كفاحنا الوطني الفلسطيني، منذ الهبة الأولى عام 1921، وحتى هبة القدس الأخيرة عام 2021، وما بينهما من هبات وثورات وحروب خاضها شعبنا ببسالة لافتة على مدى أجياله الخمس. ولا يخلو بيت فلسطيني من شهيد أو جريح أو أسير. بمعنى أن شعبنا لم يبخل يوما بالتضحية من أجل بلوغ حقوقه الوطنية الثابتة في الحرية والعودة وتقرير المصير. لكن المحصلة أننا في كل جيل نزداد ابتعادا عنها.
ولا تعود أسباب هذا التراجع المتواصل كما اعتدنا التبرير لضخامة وحدة التآمر الخارجي فقط، دون إغفال دوره الرئيسي. وإنما، أساسا، لتخلف وضعف بنيوي في الحركة الوطنية الفلسطينية، على صعيد الفكر والرؤى والتخطيط والتنفيذ والقيادة، يوازي في خطورة تداعياته تأثير التآمر الخارجي، بل وربما يفوقه. واللافت أننا لم نتعلم بعد، وما نزال بعد أكثر من قرن نراوح في ذات المكان، وما تزال الحركة الوطنية الفلسطينية تتحسس طريقها وتتعثر لافتقارها إلى مرجعية توجه البوصلة النضالية.
نقطة الانطلاق للتغيير تبدأ من ضرورة التوافق على أن مرجعية الهدف الإستراتيجي الفلسطيني تحدده الحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني في أرض وطنه، ومرتكزها الحرية والعودة وتقرير المصير. وأن لا أحدا يملك حق تغيير الهدف الإستراتيجي ببلوغها، أو اختزاله بدعوى العقلانية والواقعية السياسية.
النقطة الثانية: ضرورة التوافق فلسطينيا على أن حل الصراعات مع المشاريع الاستعمارية الاستيطانية العنصرية ذات الطبيعة الإجلائية – الإحلالية كالمشروع الصهيوني ينحصر في نماذج ثلاثة:
انتصار حاسم للشعب الأصيل يفضي إلى إنهائه.
انتصار حاسم للغزاة المستوطنين وإبادة غالبية السكان الأصليين واستسلام من يبقى منهم على قيد الحياة.
تفكيك بنية النظام الاستعماري الاستيطاني العنصري وتوافق الشعب الأصيل مع المستوطنتين الوافدين على التعايش كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات في إطار دولة ديموقراطية تحت سيادة القانون ولم يسجل التاريخ الإنساني المدون حالة نجاح واحدة لحل الصراع عبر تقاسم الوطن بين الشعب الأصيل الخاضع للاستعمار والمستهدف بالاقتلاع، وبين الغزاة المستوطنين الأجانب الساعين للحلول مكانه والعيش فوق أنقاضه.
النقطة الثالثة: أننا ونحن نخطط لبلوغ حقوقنا الوطنية وتحديد أهدافنا الإستراتيجية، يتوجب علينا الانطلاق من الوقائع الديمغرافية التي أفرزها المشروع الصهيوني وأسفرت عن وجود نحو 7 مليون يهودي على أرض فلسطين. أكثر من ثلثيهم ولدوا هم وآباءهم في فلسطين ولا يعرفون وطنا غيرها.
وحقيقة أنهم نتاج ولادة غير شرعية، لا تنتقص من حقوقهم الإنسانية الأساسية في الحياة والحرية والعيش الكريم في موطنهم الجديد، شريطة التزامهم بمستلزمات التعايش مع أصحابه الأصليين، ووفائهم بشروطه.
بمعنى أن الواقع الذي ننطلق منه لتغيير المستقبل، يحتم علينا عند تحديد هدفنا الإستراتيجي الأخذ بالاعتبار حل مسألة يهود إسرائيل. وعدم اعتماد المعادلة الصفرية التي قام عليها المشروع الصهيوني، برهن حياة طرف بإبادة الطرف الآخر.
ولأن إنهاء التماهي بين الصهيونية وبين اليهود عموما، ويهود إسرائيل خصوصا، شرط لا غنى عنه لهزيمة المشروع الصهيوني. وتتوفر مؤشرات مشجعة على اتجاه متنام لدى الشباب اليهودي الأميركي خصوصا، والغربي عموما لكسر التماهي بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل.
النقطة الرابعة ذات علاقة بمنهج التفكير، والتحديد الدقيق للمصطلحات ودلالاتها وتجنب الخلط بينها. فالهدف الإستراتيجي يتسم بالثبات ولا يمكن تغييره وفقا للتطورات. فيما البدائل والخيارات ذات طبيعة متغيرة لارتباطها بالتطورات الميدانية، الذاتية والموضوعية، وبسياسات وإستراتيجيات تعظيم الفرص ودرء المخاطر للتقدم بثبات نحو تحقيق الهدف الإستراتيجي.
والهدف القابل للتحقق، كما يعرفه علماء السياسة بأنه “النهاية العملية لرؤية نظرية لتحقيق الغاية المبتغاة”، ما يستوجب حكما تحديد النتيجة النهائية المراد تحقيقها منذ البداية، ويؤكدون أن تحقيق الهدف الإستراتيجي – شخصيا كان أم عاما – يتم بالتدرج والتراكم.
ولا يعترف العلم بهدف لا يرتبط بموعد زمني لبلوغه. يتحدد وفقا لتقدير موضوعي للمسافة الزمنية التي تفصل بين نقطة الانطلاق ونقطة الوصول، ولهذا يميز العلم بين الأهداف تبعا للاعتبارات الزمنية اللازمة لتحققها، ويشترط إلزامية التتابع والتراكم لبلوغ الغاية النهائية، وذلك يسري على الأهداف الخاصة والعامة التي ترتبط بعمر الإنسان. والأهداف الوطنية العابرة للأجيال.
ويقسم العلماء الأهداف إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أهداف إستراتيجية بعيدة المدى تحدد النتيجة النهائية المطلوب تحقيقها وتتسم بالثبات. والأهداف التحررية للأمم والشعوب تحتاج عادة لعدة أجيال كي يكتمل بلوغها.
النوع الثاني: أهداف متوسطة المدى تستوجب التحقق في المدى المنظور – أي ما يمكن إنجازه خلال جيل واحد.
النوع الثالث: أهداف قصيرة المدى تمليها أولويات التعامل مع تطورات الواقع، لخلق وقائع صغيرة تتراكم مفاعيلها وتسهم في الاقتراب بثبات من الغاية المبتغاة.
وبالاسترشاد بالمعايير، حاولت فهم أسباب إخفاق الشعب الفلسطيني في الحفاظ على وطنه، واستمرار تراجعه رغم جسامة تضحيات أجياله المتعاقبة، وصولا إلى المأزق الخطير الذي نحاول تلمس سبل الخروج منه.
وخلصت إلى النتائج التالية:
النتيجة الأولى: أن الحركة الوطنية الفلسطينية أخفقت، وما تزال، في تحويل الحلم الفلسطيني بالحرية والعودة وتقرير المصير إلى هدف قابل للتحقق، عبر إستراتيجيات بعيدة ومتوسطة وقصيرة المدى يتتابع تنفيذها.
بمعنى أنها سارت عبر المراحل المختلفة بلا بوصلة توجهها. فتاهت وجهتها لاحتكامها في استشراف الخيارات والبدائل إلى موازين القوى المتغيرة عوضا عن الحقوق الثابتة، فغيرت أهدافها وفقا لتطوراتها وتعمق اختلالاتها. ما أوقعها في شرك أعدائها. وأفقدها ذلك القدرة على خلق حقائق تقربها من تحقيق تطلعاتها للحرية والعودة وتقرير المصير. ولم تتمكن بسبب ذلك من وقف التراجع أمام العدو الذي يمتلك زمام المبادرة.
لا أقصد بذلك التنكر للتاريخ النضالي للحركة الوطنية الفلسطينية، ولا أنكر التضحيات الجسيمة التي قدمتها على مدى الأجيال المتتابعة. ولكني أردت الإشارة إلى أن غياب الهدف الإستراتيجي وعدم اعتماده كمرجعية لقياس كفاءة البدائل والخيارات التي تنتهجها الحركة الوطنية الفلسطينية، كلفة وسرعة، لبلوغه. واستبداله بمعايير قياس تتصل بمدى النجاح في إفشال الهدف النهائي للعدو الصهيوني.
فأصبحنا نفاخر بعدد الشهداء للتأكيد على قوة العزيمة. وبتنا نقيس الانتصارات بمعايير مضللة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر. اعتبار مجرد بقائنا واستعصائنا على الاستسلام بعد اقتلاع المقاومة الفلسطينية من مناطق ارتكازها الأساسية في الأردن ولبنان إنجازا، لأن العدو كان يستهدف إبادتنا وكسر إرادتنا. واعتبار صمودنا وعدم استسلامنا بعد أربعة حروب مدمرة على قطاع غزة انتصارا.
لا أقلل من أهمية انتصار الإرادة الفلسطينية في صراع البقاء، وأفهم كاقتصادية أن الربح يقاس أحيانا بتقليص الخسائر ووقفها، وليس باحتساب الفائض. لكن ذلك المعيار مؤقت لوقف الانهيار وفهم أسبابه ومعالجتها وتلافي تكرار الأخطاء، والتهيؤ للانطلاق لتحقيق الأرباح.
ولا يمكن للحركة الوطنية الفلسطينية مواصلة تقييم أدائها وفقا لصراع الإرادات فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار محصلة الأداء ومدى إسهامه في تقريبنا من بلوغ حقوقنا في الحرية والعودة وتقرير المصير، أو في ابتعادنا عنه.
النتيجة الثانية: أن الحركة الوطنية الفلسطينية تجاهلت دلالات التاريخ الإنساني المدون لتجارب الشعوب التي انتصرت فيحسم صراعات مشابهة. ولم تستعن بها للتعرف على موجبات ومستلزمات بلوغ النصر، والمدى الزمني الذي قد يستغرقه حسم الصراع لصالح الشعب الفلسطيني. فأخطأت في خياراتها السياسية، وفي بناء تحالفاتها الداخلية والعربية والإقليمية والدولية، ما فاقم الصعوبات وقوض العديد من المنجزات التي حققها النضال الفلسطيني بتضحيات جسيمة. وأحدث مثل على ذلك ما آل إليه الوضع الفلسطيني بعد هبة القدس الأخيرة التي شكلت علامة فارقة، تكامل وتزامن فيها نضال الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه للتصدي للتغول الإسرائيلي، ما بشر بنهوض وطني، أخره طرفي النظام السياسي الفلسطيني بتنافسهم البيني على السلطة والنفوذ.
النتيجة الثالثة: أن الشعب الفلسطيني لم يمتلك عبر أجياله المتعاقبة وما يزال، القيادة المؤهلة التي يستحقها، والمعارضة الجادة المسؤولة التي يحتاجها لمواجهة التحديات الوجودية، دون إنكار وجود فوارق جوهرية بين القادة، أفرادا وجماعات، على صعيد الخيارات والنهج والأداء، يعكسها بوضوح التقدير الشعبي العالي لقادة عظام، لعبوا دورا مهما في تطور التاريخ الفلسطيني، وحققوا إنجازات مهمة على صعيد الحفاظ على الهوية الوطنية والتلاحم الوطني، وأبقوا على جذوة النضال التحرري مشتعلة، ودفعوا حياتهم ثمنا لاستعصائهم على الإذعان، فاستقروا في الذاكرة الجمعية كأبطال ورموز وطنية.
وخلافا لتجارب الشعوب التي انتصرت، كان الشعب الفلسطيني، وما يزال، يتقدم على قادته في ميادين النضال والفعل. ولا أغالي بالقول بأن القيادة الفلسطينية في الموالاة والمعارضة على السواء. قد شكلت بنقص الوعي المعرفي، والفردية وسوء الاجتهاد، والنهج الارتجالي، ومحدودية الكفاءة، وتدني مستوى الأداء، وغياب المساءلة، عبئا على الشعب الفلسطيني عوضا عن أن تكون عونا له. فأبعدته بذلك عن بلوغ حلمه في الحرية والعودة وتقرير المصير.
يعكس تراكم هذا الإخفاق سوء أداء النظام السياسي الفلسطيني الذي تشكل بعد أوسلو، وفقا لمبدأ الأرض مقابل السلام ومقايضة الجزء المحتل عام 1967 بالجزء المحتل عام 1948 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وحل مشكلة اللاجئين بعد مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات.
فأسفر بعد ثلاثة عقود من إبرام الاتفاق ودخوله حيز التنفيذ عن فصل قطاع غزة ومحاصرته وتدميره عبر أربعة حروب متتالية. وعن تهويد القدس، وتمدد الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية جغرافيا وديموغرافيا ومحاصرة سكانها داخل جيوب ومعازل تحيط بها المستعمرات الاستيطانية.
وعن تراجع بالغ في القدرة الذاتية الإنتاجية والتشغيلية للاقتصاد الفلسطيني، أضعف المناعة الفلسطينية، وعمق الارتهان المعيشي لسكان الضفة والقطاع لإسرائيل وللممولين الخارجيين.
فمكن ذلك إسرائيل وحلفاءها من تحقيق غايتهم من الانخراط في عملية التسوية، باستبدال مبدأ الأرض مقابل السلام الذي ارتكزت عليه، بمبدأ الاقتصاد مقابل السلام، الذي بات الناظم الرئيس للعلاقة بين المستعمرة الصهيونية والشعب الفلسطيني في جيب غزة المحاصر وكانتونات الضفة الغربية.
لا أتهم أحدا بالتواطؤ، غير أن الأمور تقاس بنتائجها، وليس بالنوايا. فالطريق إلى جهنم مليء بذوي النوايا الحسنة. وأرى أنه لا جدوى من مواصلة العبث عبر تبادل الاتهامات بشأن مسؤوليات الأطراف المختلفة. فالخلاصة بينة يعكسها الحصاد الحقيقي للزرع الذي قام به طرفي النظام السياسي الفلسطيني خلال العقود الثلاثة الماضية، المسالم والمقاوم على السواء. فكلاهما أخفق في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني. وكلاهما فشل في إدارة شؤون الشعب الفلسطينيين مناطق سيطرته.
النتيجة الرابعة وهي الأهم: أن مراهنة الحركة الوطنية الفلسطينية على النظام الدولي الذي يحتكم لموازين القوى وليس الحقوق، والتعويل عليه لإنصاف الشعب الفلسطيني وسعيها الدؤوب خلال العقود الستة الماضية للالتحاق به عبر التساوق مع شروطه تارة، وعبر الضغط عليه بمواجهات محسوبة تارة أخرى لتحسين الشروط، لن يؤدي إلى بلوغ الشعب الفلسطيني حقوقه.
وهذا ما بات يدركه الشباب الفلسطيني الفتي أمثال باسل الأعرج وأبطال نفق الحرية، وأبطال المقاومة في قطاع غزة ومخيم جنين، والمناضلين في حي الشيخ جراح، وباب العامود، وسلوان، والقدس، والخليل، وبيتا، والنقب، والجليل، ويافا، وحيفا، وعكا والمثلث، وفي مخيمات الشتات، ورواد حركة المقاطعة BDS والنشطاء على امتداد الوجود الفلسطيني في العالم. فأحدثوا فرقا جوهريا عندما خرجوا من تحت عباءة الجيل القديم، وأدركوا أن فرض الحضور الفلسطيني الفاعل فميادين النضال داخل الوطن وخارجه، والتواصل والتفاعل مع أحرار العالم والمناضلين ضد الاستعمار والاستبداد والعنصرية والمدافعين عن حقوق الإنسان، هو السبيل الوحيد للخروج من المأزق، والتقدم بثبات وبلوغ الحقوق الوطنية الفلسطينية في الحرية والعودة وتقرير المصير. فالحقوق تفرض وتنتزع، ولا تستجدى.