لوْ لمْ أكنْ معلّمًا ومربِّيًا لوددتُ أنْ أكون!
تاريخ النشر: 24/10/21 | 11:45د. محمود ابو فنه
(من سيرتي الذاتيّة)
رغم تقاعدي عن مهنة التدريس والتربية، ما زلتُ أتابع باهتمام ما يُنشر في الموضوع، سواء في المراجع الورقيّة أو في المواقع الإلكترونية، كذلك أسهم، من حينٍ لآخر، بالكتابة والنشر أو المحاضرة في الموضوع، ويسرّني أن أعرض في هذا المقال موجزًا لتجربتي في مجال التربية والتعليم.
التعليم رافعةٌ للتغيير والتقدّم
التربية والتعليم هي أهمّ سلاح لتحقيق التقدّم والرقي لدى الأفراد والشعوب، والمعرفة لا حدود لها، واكتسابها لا يقتصر على مرحلة عمريّة معيّنة بل يمتدّ على طول حياة الإنسان.
قال تعالى في كتابه المبين:
“وقل ربّي زدني علمًا” – (طه:114)
وقال تعالى: “قُل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنّما يتذكّر أولو الألباب” – (الزّمر:9)
وقال عليه الصلاة والسلام: “طلبُ العلم فريضةٌ على كلّ مسلمٍ”
وقال: “اطلبوا العلمَ من المهدِ إلى اللحدِ”.
وقال: “إنّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء”.
ويقال: المعرفة قوّة.
وجاءت الدراسات والبحوث الكثيرة لتؤكّد أهمية التعليم ودوره كرافعة لإحداث نقلة نوعيّة في حياة الأفراد والشعوب والأمم، وبهذا السياق نذكر ما كتبه الباحث المصري د. حسن شحاته:
“التعليم يرفع مستوى معيشة الإنسان، ويحقّق أهدافه في الحِراك الاجتماعيّ والاقتصاديّ، ويساعد في تكافؤ الفرص” (د. حسن شحاته في كتابه: “رؤى تربويّة وتعليميّة متجدّدة بين العولمة والعوربة” – ص 42).
ونقرأ كذلك: “إنّ التعليم هو الآليّة الرئيسة لصنع ثقافة التغيير” (م. ن ص 96)
من هنا نرى أنّ طلب العلم واجبٌ دينيّ وغاية أساسيّة في حياتنا.
تجربتي في حقل التربية والتعليم
عملتُ أكثر من أربعة عقود – قبل أن أخرج للتقاعد – معلّمًا ونائبَ مدير في المدارس الثانويّة، ومفتّشًا مُركِّزًا لموضوع اللغة العربيّة وآدابها، ومفتّشا مُشرفًا على إعداد مناهج وكتب التدريس في موضوع اللغة العربيّة وآدابها والأدب العالميّ لجميع المراحل التعليميّة (الابتدائيّة، الإعداديّة والثانويّة)، بالإضافة إلى ذلك مارستُ خلال هذه السنوات العملَ محاضرًا في كليّات إعداد المعلّمين.
لماذا أحببتُ العمل في التدريس والتربية؟
مهنة التدريس والتربية رسالة سامية: كنتُ – وما أزال – أعتبر هذه المهنة رسالة سامية، وكم يحلو لي أن أردّد ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته المشهورة:
قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا – كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ مِن الذي – يبني وينشئُ أنفـسًا وعقولا
وقد ذكرتُ كيف عزّز الإسلام مكانة المعلّمين والعلماء، وكيف حثّ على طلب العلم والمعرفة بدون تقيّد بالمكان أو الزمان/العمر.
صحيح أنّ ممارسة هذه المهنة محفوفة بالصعاب والعراقيل، خاصّة إذا لم يجد المعلّم طلابًا يتجاوبون معه، ويبادلونه التقدير والاحترام، ولا أنسى قصيدة الشاعر إبراهيم طوقان الذي عارض قصيدة أحمد شوقي فذمّ هذه المهنة واعتبرها قمّة العناء، حيث يقول فيها:
لَوْ جَرَّبَ التَّعْلِيمَ شَوْقِي سَاعَةً – لَقَضَى الْحَيَاةَ شَقَاوَةً وَخُمُولا
يَا مَنْ يُرِيدُ الانْتِحَارَ وَجَدْتـهُ – إنَّ الْمُعَلِّمَ لاَ يَعِيشُ طَويلا
فأنا لا أتّفق مع إبراهيم طوقان في رأيه، وأعتبر أنّ ذلك الرأي نبع من تجربته الذاتيّة الفاشلة، وأكرّر رأيي في حبّ هذه المهنة خاصّة أنّي درّستُ موضوعًا أعشقه!
حبّ الموضوع: مع بداية عملي في هذه المهنة الشريفة، حرصتُ على تدريس موضوع اللغة العربيّة وآدابها، لأنّني عشقتُ لغتنا الجميلة منذ نعومة أظفاري، ولا زلتُ أذكر تلك الأويقات العذبة،؛ فمع انبلاج خيوط الفجر الأولى، ومع صياح الديك، اعتاد المرحوم والدي – طيّب الله ثراه – النهوض من نومه، فيبدأ يردّد الأدعية، ثم يتوضأ للصلاة، وما أن يسمع صوت المؤذّن، حتى يهرع فيفرش سجادة الصلاة، ويشرع في تأدية صلاة الفجر، فأصغي بكلّ جوارحي– وأنا تحت اللحاف – لصوت أبي يتلو بخشوع ما تيسّر من آي الذكر الحكيم، فيمتلئ قلبي بحبّ الله وسحر آيات كتابه العزيز!
وأذكر، بعد أن تعلّمتُ القراءة والكتابة، دروس المحفوظات الممتعة التي كنّا نتعلّم فيها النصوص النثريّة والشعريّة، تلك النصوص الجميلة التي سمعناها وحفظناها رسّخت في نفوسنا عشق اللغة العربيّة وحفّزتنا على طلب المزيد منها!
يبدو، أنّ ما اختزنتْهُ ذاكرتي من هذه التجارب والفعاليّات زرعت في نفسي الغضّة بدايةَ العشق للكلمة الجميلة والمفيدة والممتعة – المكتوبة والشفويّة – هذا العشق الذي ظلّ يلازمني ويرافقني حتّى يومنا هذا!
حبّ الطلاب: بالإضافة إلى حبّ الموضوع أحببتُ طلابي وآمنتُ بقدراتهم وطاقاتهم، واحترمتُ التباين والتمايز في ميولهم ومستوياتهم، وكنتُ عندما أدخل الصفّ أشعر براحة نفسيّة وسعادة غامرة، فتنعكس حالتي النفسيّة على طلابي فيقابلونني بالمثل، وألقى منهم المشاركة والتفاعل، وكم مرّة فوجئ الطلاب – وأنا كذلك – بانتهاء الحصّة دون أن يفقدوا حماسهم واندماجهم.
لم أشعر بالملل ولا الضجر من تكرار تدريس نفس الموضوع أو النصّ لأنّي دائمًا كنتُ أجد – في كلّ سنة – طلابًا جددًا يشاركون ويسألون ويبدون
آراءهم ومواقفهم بحرية وبلا خوفٍ أو خجل!
والحمد لله، كم يسعدني طلابي الذين ألتقي بهم بعد سنوات من تخرّجهم فيعربون لي عن ذكرياتهم الجميلة ومدى استمتاعهم بدروسي، وتقديرهم لجهودي.
التجدّد والنماء المستمرّ: إنّ عملي في التدريس حفّزني على مواصلة الدراسة والاستكمال، لإيماني أنّ المعلّم الذي لا يتجدّد يصبح كالمياه الراكدة الآسنة التي تضرّ ولا تنفع.
فأثناء عملي في التدريس التحقتُ بالجامعات ولم أكتفِ بشهادة البكالوريوس B.A)) وبشهادة التدريس، بل واصلتُ الدراسة وحصلت على شهادة الماجستير والدكتوراه، فأثريتُ نفسي وطلابي، وعزّزتُ مكانتي، فتدرجتُ في المناصب والوظائف، ممّا مكنّني من تحقيق طموحاتي، وزاد من راحتي وسعادتي!
العلاقات الإنسانيّة: حرصتُ على بناء علاقات إنسانيّة دافئة مع الطلاب والأهالي والزملاء والمسؤولين في العمل، وقوبلت بالاحترام والتقدير منهم، ولا زالت – حتى اليوم وبعد التقاعد – تربطني وشائج متينة مع الجميع مبنيّة على الصدق والإخلاص، وبعيدة عن المجاملة المفرطة المزيّفة!
التفاؤل والثقة والتعاون: حباني الله بصفات وخصال رافقتني – ولا تزال – في عملي في هذه المهنة الشريفة، فأنا بطبعي متفائل أثق وأحسن الظنّ بطلابي وزملائي من المربّين، وأحرص على التعاون معهم، وتشجيع عمل الفريق/الطاقم؛ والعديد من الإنجازات التي حقّقتها أو حقّقها طلابي ترجع لهذا التوجّه الإيجابيّ، وهذا الأسلوب في التعامل والعمل.
وأختتم مقالي باقتباس بعض العبارات – التي تعكس هذه الروح الإيجابيّة – من الكلمة التي ألقيتُها في الحفل الذي أقامه لي الزملاء عند التقاعد:
“أنا في طبعي متفائل، أرى نصفَ الكأس الممتلئَ، وأردّد دائمًا العبارة: ” النبوءة التي تحقّقُ
ذاتَها”… لذلك، أنا على ثقة أنّ مسيرةَ العطاء والنماء والتميّز ستتواصل، وسيتحقّق المزيدُ من
الإنجازات والتقدّم.. فلدى أبنائنا ومربّينا الطاقاتُ والمواهب والاستعدادُ للعمل الجادّ الدؤوب!”