جاوزَ الحِزامُ الطبـيـيـن

تاريخ النشر: 23/10/11 | 1:33

لقَدْ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى والماء الرُبى وَجَاوَزَ الْحِزَامُ الطُّبْيَيْنِ وطَفَحَ الكيلُ وَبَلَغَ الأَمْرُ فَوْقَ قَدْرِهِ.   وإذا وصل السيل الزُبى فهذا يعني انه وصل إلى غاية الارتفاع وهذا يعني بأنه طفح الكيل والزُبى جمع زُبية وهي الرابية التي لا يعلوها الماء وقيل : إنما أراد الحفرة التي تحفر للأسد ولا تحفر إلا في مكان عال من الأرض .

أما إذا جاوز الحزام الطبيين , والطبي (بضم الطاء أو كسرها) تعني حلمة الضرع ، فهذا كناية عن المبالغة في تجاوز حد الشر والأذى ويُضرَبُ عند بُلوغِ الشّدّة منْتَهاها لأن الحزام إذا انتهى إلى الطبيين فقد انتهى إلى أبعد غاياته فكيف إذا جاوزه !

وكان قد كتب عثمان إلى علي ، رضي الله عنهما , لما حوصر عثمان : أما بعد فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقبل إلي ، علي كنت أم لي ، يضرب مثلا للأمر يتفاقم أو يتجاوز الحد حتى لا يتلافى .

لقد تفاقم بنا الأمر وجاوز الحزام الطبيين ووقعنا في شراك الفرقة والخلافات والفتنة في وقت نحن فيه بأمسِّ الحاجة إلى التكاتف والوحدة والتعاون ( وتعاونوا على البر والتقوى) (المائدة:الآية 2 )(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )(آل عمران: من الآية103)(وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)(الأنفال الآية 46)

وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا تقتلوا شيخا ولا امرأة ولا صبيا ولا عابدا في محرابه ولا راهبا في صومعته ولا شابا ما دام لا يحمل السلاح ولا تقطعوا شجرة ولا تعفروا -‏ تردموا – بئرا ،‏ ولا تجهزوا على جريح ولا تمثلوا بقتيل (.‏ تلك هي وصايا الرسول -‏ صلوات الله وسلامه عليه -‏ ووصايا الراشدين من بعده لقادة جيوشهم الذاهبين إلى مواقف البأساء والعنف وتعريض الأرواح للخطر أمام عدو لا يرحم , ومع هذا تقال لهم هذه التعليمات ذات الطابع الأخلاقي النبيل التي يستشف منها ومن باب أولى أن تكون في ما بيننا وأكثر من ذلك بكوننا تجمعنا راية الإسلام والتوحيد وأخوّة الإيمان والعقيدة .

فكيف بنا وقد صرنا إلى ما صرنا إليه ؟!

لا نتوانى عن أي شيء وكل شيء وتجاوزنا الخطوط الحمراء وكل الألوان وطمسنا كل إشعاع نور وضياء ورمسنا كل خير ومودة وتسامح وحسنى في ما بيننا.

علينا أنْ نقف كثيراً عند قوله تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) ( سورة محمد : الآية 22 ) .

وحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة ، بل من الدنيا أجمع . وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا) وهذا الحديث وحده يكفي لبيان عظيم حرمة دم المسلم ، وماذا وكيف سيكون الموقف عند الله يوم القيامة إنْ وقعنا في دم حرام .

وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (سورة النساء : الآية 93).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا” وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، “بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ”.

لله درنا كيف صرنا إلى ذلك , تفتك بنا كل الأمم ونستطيع أن نفهم ونعلل ذلك فهي عداوة بغيضة للعروبة والإسلام .

أما أن نترك كل ذلك وندع الضرورة الملحة للوقوف جنباً إلى جنب لمواجهة ما يحل بنا ونتكاتف كالبنيان المرصوص يشد ويؤازر ويدعم بعضنا بعضا فإننا نختار أن نشتغل ببعضنا البعض ونختلف ونعادي ونتخاصم على أمور بيننا في الوقت الذي فيه نُضطهد ونُفتن ونُظلم ونُحرم ونُجهَّل ونُسبى ونُستحيى ونُعتقل ونُحتل ونُذبح ونُؤكل ونُقتل ونُباد ولا نحرك ساكناً .

فلله در من قال :- أسدٌ عليَّ وفي الحروبِ نعامة رَبـداء تجـفـل مـن صـفـير الصـافرِ

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” سباب المسلم فسوق وقتاله كفر”.

وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:” من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب في جبهته: آيس من رحمة الله”.

وقد حذَّر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم من الدخول في الفتن ، حتى لا يقع المسلم في دماء المسلمين ؛ لخطورة الأمر وشدته ، فالفتن مظنة لأنْ يكون هناك قاتل ومقتول ، فالفتن إذا سعرت وابتدأت صعب على الناس إطفاؤها . فنبينا صلوات الله وسلامه عليه قد حذّر أمته من الفتن ، وبيّن أنَّها ستحدث وستكون في هذه الأمة فقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم قال : (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي من تَشرّف لها تستشرفه ، ومن وجد فيها ملجئاً أو معاذاً فليعذ به) هكذا بيّن لنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ المخلَص من الفتن أنْ يهرب منها المسلم قدر الاستطاعة .

علينا أن نحذر من الوقوع في الفتن ، فالفتنةُ قد تُريكَ الحقَ باطلاً والباطلَ حقاً . وقد تعميك وتصمك وأنت لا تشعر ، وقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الفتن ستقع في أمته فقال :

( إذا وضع السيف في أمتي لم يرتفع عنها إلى يوم القيامة) وأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه ستأتي فتن في آخر الزمان يكثر فيها القتل وتكثر فيها الفتن حتى أنه من شدة الفتن يمر الرجل على القبر ويتمرّغ عليه ويقول : يا ليتني صاحب هذا القبر ، من شدة ما يرى من الفتن والأمور العظيمة ؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيقول : يا ليتني مكانه ) .

قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : ( إنَّ بعدكم فتناً القاعد خير من الساعي ، حتى ذكر الراكب ، فكونوا فيها أحلاس بيوتكم ) .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال : ( يَتقاربُ الزمانُ ويُقبَضُ العلمُ ويُلقَى الشحُّ ويَكثرُ الهرجُ ، فقيل : وما الهرجُ ؟ قال : القتل ) وقال أيضاً : ( إنَّ بين يدي الساعة لهرجاً ) ، قال : قلت : يا رسول الله ما الهرج ؟ قال : ( القتل ) ، فقال بعض المسلمين : يا رسول الله ، إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس بقتل المشركين ، ولكن يقتل بعضكم بعضاً ، حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته ) فقال بعض القوم : يا رسول الله ، ومعنا عقولنا ذلك اليوم فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا ، تنـزع عقول أكثر ذلك الزمان ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم ).

فعلى المسلم أن يبتعد عن الفتن كل الابتعاد ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إذا أدركوا الفتن أو أحسوا بالفتن أنْ يبتعدوا عنها كل الابتعاد ، وأنْ يهربوا منها كل الهرب ؛ لأنَّ الفرار من الفتنة من الدين .

ينبغي أنْ نحذر من الدخول في الفتن ، وأنْ نستعيذ بالله تعالى منها – فقد كان عمار بن ياسر يستعيذ من الفتن – وأنْ يحذر أنْ يشارك فيها بقول أو فعل أو رأي أو بغير ذلك ؛ فإنَّ الفتن إذا صارت لم يسلم منها أحد إلا مَن رَحِمَ اللهُ .

لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم تخويف المسلم أو ترويعه، ونهى عن إدخال الرعب عليه بأي وسيلة، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسيرون مرة معه في سفر، فاستراحوا ونام رجل منهم، فقام بعضهم إلى حبل معه فأخذه، وأمرره على جسد أخيه النائم ففزع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً) رواه أبو داود. وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أخاف مؤمناً كان حقاً على الله أن لا يؤمنه من افزاع يوم القيامة) رواه الطبراني.

بل لقد نهى صلى الله عليه وسلم حتى عن الإشارة بالسلاح وقال: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه) رواه مسلم. فهذا تحذير من الإشارة بأي آلة مؤذية قد تؤدي الإشارة بها إلى القتل، كالسكين والآلات الأخرى الحادة، حتى لو كانت الإشارة مجرد مزاح، وفى هذا تأكيد على حرمة المسلم، والنهى الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه.

وصحّ أنَّه صلى الله عليه وسلم نهى أنْ يُتعاطَى السيف مسلولاً ، وكل هذا الاحتراز لشدة حرمة المسلم على المسلم , فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك خشية أنْ يكون هناك خطأ فيقع السيف ويجرح أو يؤذي أو يقع على أخيك ، وإذا كان ذلك في الأسلحة القديمة فهو في الأسلحة الحديثة أشد تأكيداً , لأنَّ الضرر أعظم ، والخطر أكبر ، والعلة تدور مع الحكم وجوداً وعدماً .

المتفائلون والأخيار وحدهم هم الذين يصنعون التاريخ، ويسودون الأمم، ويقودون الأجيال,أما اليائسون والمتشائمون والأشرار، فهم لم يستطيعوا أن يبنوا الحياة السوية والسعادة الحقيقية في داخل ذواتهم، فكيف يصنعونها لغيرهم، أو يبشّرون بها سواهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.

لهذا علينا أن ندع كل شيء جانباً ونعمل على إعادة الأمن والاطمئنان إلى ربوعنا من خلال دروب التفاؤل والخير ولتقم منا طائفة يدعون إلى الخير والوفاق والوحدة واللحمة وإصلاح الأوضاع واجتياز الأزمة لتعود البسمة بدلاً من توسيع الهوة وترسيخ الفرقة فمدارك الشر لا تأتي بالنفع علينا جميعاً وتفشلنا وتهلكنا وتذهب ريحنا .

(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) .

يا أمة الحق إن الجرح متسع فهل تُرى من نزيف الجرح نعتبر

يا أمة الحق ماذا بعدُ هل قُتلت فينا المروءات واستشرى بنا الخور

يا أمة الحق إنا رغم محنتنا إيماننا ثابت بالله نصطبر

فقد يلين زمانٌ بعد قسوته وقد تعود إلى أوراقها الشجرُ

ماذا سوى عودة لله صادقةٌ عسى تُبدل هذا الحال والصور

عسى يعود لما ماضٍ به ازدهرت كل الدُنا واهتدى من نوره البشر

في النهاية ونحن بأمس الحاجة إلى احتواء أزماتنا وتفكيك وتحطيم أسوار خلافاتنا وقلع جذور فرقتنا ونبذ العنف ودرء الانقسام وردع الظلم والشر ورفض الفساد ومحاربة الفتنة أنادي وأصرخ وأقـول :- آهِ لــوْ يبلغُ صـوتي سـمعكمْ فاستفيقـوا لقـد بلـغَ الســيلُ الزبى ! أليس فينا أو منا رجل رشيد ؟!

قال تعالى :- (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)(الرعد الآية 17 ).

‫2 تعليقات

  1. تحياتي لك اخ يوسف من القلب وبارك الله بك واسال الله العلي العظيم ان يهدينا واياكم الى سبل الحق ونتبع ما اتانا به الرسول وما انزل عليه من الله عز وجل اخ يوسف حقيقة نحن بحاجه ماسه لاساتذه مثلك لتوعيه الشباب وتوجيههم الى الطريق الصحيح ولك مني جزيل الشكر

  2. مقالتك جوهرية الافكار والمعاني..دعوة الى السلوكيات الايجابية ..والتحلي بمكارم

    الاخلاق..

    نحن بحاجة ماسة الى الوحدة..التجمع والتاخي..والعيش الكريم..بحيث يعم مجتمعنا الخير

    والتطور والازدهار والرقي الروحاني والاجنماعي..

    عزيزي الكاتب..تحية شكر وامتنان لشخصك الفاضل على عطائك الدائم..

    اتمنى لك دوام الصحة والعافية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة