قرار إرهابي إسرائيلي
تاريخ النشر: 28/10/21 | 14:33د. جمال زحالقة
يندرج قرار وزير أمن الاحتلال الإسرائيلي الجنرال بيني غانتس، بتصنيف ست منظمات حقوقية فلسطينية، كمنظمات إرهابية، ضمن حملة مسعورة تقوم بها إسرائيل لخنق عمل المدافعين عن حقوق الإنسان الفلسطيني، وإسكات صوتهم، الذي وصل العالم كلّه وصار يشكّل إزعاجا لإسرائيل، لا يقل عن تأثير العمل المسلّح. والقرار بحد ذاته هو دليل على الأهمية القصوى، التي توليها إسرائيل للمعركة الحقوقية والسياسية على الساحة الدولية.
كل ما يفعله وما يقوم به القائمون والقائمات على هذه المؤسسات الأهلية هو ضمن نطاق القانون الدولي الإنساني، وسقف وحدود مطالبهم وعملهم هو هذا القانون، الذي يسري مفعوله في مناطق محتلة، كما تحدّدها الشرعية الدولية المتعارف عليها. هذه مجموعة من المنظمات مطلبها الوحيد هو تنفيذ القانون الدولي في قضايا حقوق الإنسان وحقوق الطفل، وحقوق الأسير وحقوق المرأة، والحقوق الاقتصادية الاجتماعية والحقوق السياسية. من هنا فنشاطها شرعي ليس من وجهة النظر الفلسطينية فحسب، بل بمعايير عالمية صارمة.
آن الأوان ليستفيق حماة حقوق الإنسان في العالم من سباتهم، وأن يضاعفوا جهودهم لحماية حقوق الإنسان الفلسطيني
المعادلة هنا أن المنظمات الأهلية الفلسطينية، تدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني في الإطار الشرعي، مقابل إسرائيل التي «تدافع عن حقّها» في خرق القانون، وانتهاك حقوق الإنسان والتنكيل بالأطفال واعتقالهم وقتلهم، والدوس على حقوق المرأة، وسرقة أرض وقوت المزارع، وسلب حقوق الأسرى. الأمر واضح وضوح الشمس، هي معركة الحق ضد الباطل، معركة النور ضد الظلم والظلام. ولكنّنا نعيش في عالم مقلوب، يقوم به جنرال إرهابي ومجرم حرب، بالإعلان عن جمعيات تدافع عن حقوق الإنسان والمرأة والطفل والأسير والمزارع والباحث، كمنظمات إرهابية، ولكن ما كان لهذا العالم أن ينقلب هذا الانقلاب لولا الوهن الفلسطيني والتواطؤ العربي والتلوّن الدولي.
تاريخ إجرامي
حين تفتتح محكمة الجنايات الدولية في لاهاي التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، سيكون الجنرال المتقاعد بيني غانتس من أوائل المدعوين للمثول أمامها، للرد على تهم من الوزن الثقيل. فغانتس شارك في جرائم حرب لبنان، وكان قائدا في الضفة الغربية عند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 وقاد ودبّر ارتكاب الفظائع الإجرامية، في قمعها، وكان غانتس رئيسا للأركان في حربي 2012 و2014 على غزّة، اللتين استشهد فيهما 2400 فلسطيني منهم، أكثر من 500 طفل. وفقط في إطار ما يسمّى بالديمقراطية الإسرائيلية، يمكن أن يقوم قاتل الأطفال بكيل تهمة الإرهاب على فرع لمنظمة عالمية تعنى بحقوق الطفل.
السبب الحقيقي للقرار
ما يقلق إسرائيل في عمل المنظمات الأهلية الست، التي جرى وصمها بالإرهاب، ليس الارتباط المزعوم بالجبهة الشعبية، بل الارتباط المؤكّد بمنظمات حقوق الإنسان في العالم، بما فيها منظمة العفو الدولية، أمنستي إنترناشنال، ومنظمة هيومان رايتس ووتش والفيدرالية الدولية لمنظمات حقوق الإنسان، وكذلك بالهيئات التابعة والمرتبطة بالأمم المتحدة في مجالات حقوق الإنسان والطفل والمرأة والمزارع والأسير. تخشى إسرائيل حقًّا من تأثير هذه المنظمات وغيرها على الساحة الدولية، وتخشى أكثر من أن يسفر هذا التأثير عن ضغط حقيقي وعقوبات عملية على نظام الأبرتهايد الإسرائيلي برمته. وتحلم إسرائيل بترجمة ونسخ ونقل موازين القوى المحلية، التي تميل بشكل فظيع لصالحها، إلى الساحة الدولية. وهي تريد أن تنتصر مرتين، مرّة على الأرض، ومرّة في الوعي الإنساني العالمي. وما أسهل من رمي من ينتقد ويفضح ويفصح ويحكي ويُسمع ويُقرأ بتهمة الإرهاب، فهي بنظر دولة الاحتلال ضربة قاضية كفيلة بنسف شرعية المتكلم وبالتالي شرعية الكلام.
ماذا فعلت المنظمات الست؟
استهدف القرار الإسرائيلي ست منظمات هي: مؤسسة الضمير لرعاية الأسرى والمعتقلين، واتحاد لجان العمل الزراعي واتحاد لجان المرأة الفلسطينية ومركز بيسان للبحوث والإنماء ومؤسسة الحق لحقوق الإنسان، والحركة العالمية للدفاع عن الأطفال ـ فرع فلسطين.
*مؤسسة «الحق»: تأسست عام 1979 وهي عضو في عدد من الهيئات الحقوقية الدولية، ولها حضور عالمي متميّز. ما أزعج إسرائيل هو أنها تعمل على محاكمة ضباط وقيادات إسرائيلية، وشاركت في إعداد ملفين عن جرائم الاحتلال قدما للمحكمة الجنائية الدولية، أحدهما يتعلق بالأسرى والآخر بالاستيطان. وما أزعج إسرائيل أكثر هو أن «الحق» تحظى باحترام وباعتراف دولي بمصداقيتها، وهي ردّت بثقة على القرار بإن إسرائيل تستهدفها لأنها عاجزة عن الرد عليها «بالقانون والأدلة».
*مؤسسة «الضمير»: تأسست « عام 1991 وتختص بحقوق الإنسان ودعم ونصرة الأسرى، ومناهضة التعذيب. وهي عضو في هيئات عالمية للدفاع عن الحريات ومناهضة التعذيب والعزل. وقد أورد موقع منظمة «راصد الجمعيات» اليميني المتطرف قائمة طويلة من الفعاليات والمواقف المشرّفة لـ»الضمير» واعتبرها مساهمة في تشويه سمعة إسرائيل وتأليب الرأي العام العالمي ضدّها.
*الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال/فلسطين: أنشئت عام 1991، وتعد فرعا للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال. وهي المنظمة الحقوقية الفلسطينية الوحيدة المتخصّصة بحقوق الطفل، ولها مكانة خاصة في اليونيسيف واليونسكو والمجلس الاقتصادي الاجتماعي التابع للأمم المتحدة. ما أثار غضب إسرائيل هو، أن هذه الجمعية «تقف على رأس الحملة الدولية التي تتهم إسرائيل بالتنكيل بالأطفال» والذي ضايقها أكثر هو العمل مع عضو الكونغرس بيتي مكهولام لتمرير قانون يمنع استعمال الدعم المالي الأمريكي في اعتقال الأطفال. وإذ تقوم هذه المؤسسة بالدفاع عن 200 طفل فلسطيني رهن الاعتقال، وترصد الانتهاكات اليومية لحقوق الطفل من مداهمات ليلية للبيوت، واعتقالات تعسّفية، والإهانات والتهديدات والتعذيب بعد الاعتقال، كما جمعت سجلات عن قتل 2200 طفل فلسطيني معظمهم في غزّة. ما جعل إسرائيل تستهدف هذه المنظمة، هو بالذات دفاعها عن الأطفال، وربطها بالجبهة الشعبية (مع إنه ليس عيبا) هو لتبرير الملاحقة التعسّفية الإجرامية. إنها جريمة مضاعفة مرّة بحق أطفال فلسطين، ومرّة أخرى بحق من يدافعون عن حقوقهم كأطفال وكبشر. ما تريده «واحة الديمقراطية» هو أن تعتقّل وتنكّل وتعذّب وتقتل الأطفال دون عوائق، ومن يقف في طريقها فهو «إرهابي».
*مركز «بيسان» للبحوث والإنماء: تأسس عام 1989، كمؤسسة أهلية تقدمية ديمقراطية تعمل من أجل تعزيز صمود الشعب الفلسطيني. وزعمت صحيفة «مكور ريشون» نقلا عن مصادر في «الشاباك» أنه عُقدت، قبل سنوات، في مكاتب المركز اجتماعات لخلايا عسكرية للجبهة الشعبية. والسؤال منذ متى ينتظر الشاباك سنوات في مثل هذه المسائل؟ مركز بيسان، أيضا، له مساهمته في فضح جرائم الاحتلال، وفي العمل على تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، وهذا بحد ذاته، بنظر سلطات الاحتلال، جريمة لا تغتفر.
*اتحاد لجان المرأة: منظمة نسوية أهلية تقدمية تأسست عام 1980، وتناضل من أجل بناء مجتمع فلسطيني مدني ديمقراطي تقدمي. وهنا «جريمة» هذا الاتحاد هي حشد النساء في النضال ضد الاحتلال، وهذا هو سبب الاستهداف الوحيد.
*اتحاد لجان العمل الزراعي: واحد من أكبر مؤسسات التنمية الزراعية في فلسطين، وتأسس عام 1986. وجريمته، وفق المنطق الاحتلالي، هي الدفاع عن المزارع الفلسطيني وتعزيز صموده في وجه المصادرة والاستيطان. وما يزيد من حنق إسرائيل عليه هو علاقاته الدولية المتشعّبة وفوزه بجوائز عالمية مهمة، عزّزت من مكانته وشهرته.
خطورة القرار
تقع مكاتب ومقرّات المنظمات الأهلية، التي صنّفتها إسرائيل كمنظمات إرهابية، في مدينة رام الله وهي تعمل في إطار قوانين السلطة الفلسطينية ووفق لوائحها، وهي مسجّلة عندها وحاصلة على ترخيص منها. وينطلق قرار إسرائيل من أنّها صاحبة السيادة والمرجعية القانونية في الضفة الغربية كلّها، بما في ذلك مناطق «أ» الخاضعة إداريا وأمنيا للسلطة الفلسطينية. معنى ذلك أن كل المنظمات والهيئات الفلسطينية مهدّدة بالمصير نفسه، إن هي قطعت الخطوط الحمر الإسرائيلية. الهدف إذن هو أن يضع المجتمع المدني الفلسطيني رقابة ذاتية على نفسه، ولا يقطع الخطوط الحمر، التي تحددها دولة الاحتلال. الغاية بوضوح، وكما يشتم من تصريحات القيادات الإسرائيلية، هي الوصول إلى «أثر تبريد» ذاتي، وامتناع عن تحدّي الاحتلال على الساحة الدولية، فقد وجّهت إسرائيل رسالة مفادها أن هذا التحدي السلمي هو «إرهاب» بكل ما تحمله هذه الكلمة من تبعات قانونية ومالية وسياسية وأمنية.
لقد جاء التمادي الإسرائيلي نتيجة لتسامح المجتمع الدولي مع جرائم الاحتلال، وقد آن الأوان ليستفيق حماة حقوق الإنسان في العالم من سباتهم، وأن يضاعفوا جهودهم لحماية حقوق الإنسان الفلسطيني، التي تداس بوحشية كل يوم، ثم يأتي كم أفواه من ينقل ويرصد هذا الدوس. تدل القرارات الإسرائيلية الأخيرة إلى أن الحكومة الحالية لا تقل تطرّفا عن الحكومات السابقة، وأن مشاركة أحزاب مثل ميرتس والقائمة الموحّدة في الائتلاف، ليس لها أي وزن بكل ما يتعلّق بسياسات الاحتلال الإرهابية، بل إن هذه المشاركة بحدّ ذاتها تمنح هذه القرارات شرعية «يسارية» وشرعية «عربية إسلامية» والمسؤولية هنا مضاعفة وخطيرة. لقد جاء هذا القرار كطلقة أولى في الحرب التي بدأتها إسرائيل على الساحة الدولية، خاصة بكل ما يتعلّق بمحكمة الجنايات الدولية، وحركة المقاطعة وحركات التضامن. هي تعتبر ذلك خطرا استراتيجيا وتتصرف على هذا الأساس. لذا فإن قرار «الإرهاب» ليس طلقة في واد، بل نقطة تحوّل وحرب إرهابية على كل من يتحدّى الإرهاب الإسرائيلي سلميا وقانونيا وسياسيا.