كفرقاسم: من لم يتعلم من “قرش شدمي” لن تنقذه المليارات
تاريخ النشر: 29/10/21 | 7:03جواد بولس
لو كنت مكان الوزير عيساوي فريج ، لاعتذرت، على الملأ، أمام النائبين أيمن عودة وعايدة توما – سليمان، وأمام زملائهما، النواب في القائمة المشتركة، وأمام عشرات آلاف المصوّتين للقائمة وداعميها.
ليس من حق الوزير فريج، ممثل حزب ميرتس الصهيوني، في حكومة بينت- لبيد، أن يزايد على نوّاب القائمة المشتركة لأنّهم أصروا على تقديم اقتراح قانون يطالب دولة اسرائيل بالاعتراف بمجزرة كفر قاسم وبتحمّل المسؤولية على وقوعها؛ فأسلوبه الغاضب لم يزده احترامًا ، ولا تعابيره الفظّة والمستفزة، التي هاجمهم بها، رفعت من مكانته.
في مثل هذا الاسبوع ، قبل 65 عامًا ، وتحديدًا في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1956، قتلت، بدم بارد، كتيبة مما يسمى “حرس الحدود الاسرائيلي” سبعة وأربعين مواطنًا عربيًا من سكان قرية كفر قاسم؛ وكان من بين ضحايا تلك المجزرة أطفال وشيوخ ونساء لم يقترفوا أي ذنب سوى أنهم وصلوا عند تخوم قريتهم وقت حظر التجوّل الذي لم يعرفوا به قبل مغادرة بيوتهم في ساعات الصباح.
أذكر أننا كطلاب في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس ، تعلّمنا، قبل أربعين عامًا، عمّا حصل في ذلك اليوم في كفر قاسم؛ بيد أن المحاضر لم يسمّها مجزرة، ولم يبدِ أي تحفظ أو انتقاد “لجهاز العدالة” الاسرائيلي، الذي برّأ قضاتُه قائدَ المنطقة، المدعو يشكا شدمي، من تهمة القتل العمد وادانوه بتهمة ” تجاوز الصلاحيات”، وحكموا عليه بالتوبيخ وبغرامة مقدارها قرش واحد؛ أصبح يعرف “بقرش شدمي” الذي اتخذه المواطنون العرب رمزًا للتعبير عن سخطهم على جهاز القضاء الاسرائيلي وعن مشاعرهم بفقدان الثقة بعدل الدولة تجاه مواطنيها العرب. لقد علّمونا في حينه أن الضابط الذي نفّذ أوامر قتل الابرياء تجاوز صلاحياته وذلك لان “راية سوداء” كانت ترفرف عليها وكانت، لسوادها، توجب رفضها وعدم الالتزام بها.
لم أصطدم في الماضي مع الوزير عيساوي فريج، الذي اكن له احترامًا، ولا مع حزب ميرتس الذي ينتمي اليه منذ سنوات طويلة؛ وعلى الرغم من وجود اختلافات وخلافات سياسية واضحة بيننا، دأبتُ على التمييز بينهم وبين حزب العمل، وبينهم وبين سائر الاحزاب الصهيونية، لا سيما اليمينية منها والفاشية. أقول ذلك مقتنعًا بأن الحالة الهستيرية التي وقع الوزير فريج تحت تأثيرها وأدت الى هجومه غير المسبوق على نواب القائمة المشتركة، هي نتيجة للوضع غير الطبيعي الذي أفضى الى استوزاره طوعًا في حكومة يقف على رأسها زعيم متدين ويميني وتدعمها أحزاب يمينية عرف زعماؤها بمواقفهم العنصرية تجاه المواطنين العرب والعدائية الاستيطانية تجاه الفلسطينيين وأراضيهم .
ما شاهدناه من على منصة الكنيست يوم الاربعاء الفائت كان في الواقع انعكاسًا لتلك الحالة السياسية الشاذة، التي اتوقع انها ستتكرر في المستقبل؛ وهي نفس الحالة التي دفعت، عمليًا، نواب الحركة الاسلامية، بعد قرارهم بدعم هذه الحكومة، للتصرف بعكس ما كان يتوقع منهم، أو بالتنكر التام لممارسات الحكومة ولخططها التوسعية في القدس وفي الاراضي الفلسطينية وتشجيعها لاقتحامات المستوطنين لباحات المسجد الاقصى، وفي استمرار تنفيذ سياساتها العامة في معظم الميادين وفق المفاهيم السلطوية الصهيونية القديمة، التي يمكن ان نعبر عنها، مجازًا، بالاستعانة “بقرش شدمي “وبرايته السوداء التي خرقتها العواصف والرياح، ولم يبق منها الا غبار الرصاص والأسى.
لقد صرّح الوزير فريج بأن عرض القانون من قبل النائب عايدة توما للتصويت في قاعة الكنيست قد تم بغرض احراجه، وهذا الادعاء هو نفسه الذي لجأ اليه نواب الحركة الاسلامية عندما عارضوا مشاريع قوانين قدّمها نواب القائمة المشتركة واسقطوها بحجة الاستحراج أمام حلفائهم من احزاب اليمين. فهل علينا اذن أن نقبل، باسم ذلك الحرج، تهافت نواب الحركة الاسلامية ودعمهم المطلق لحكومة اسرائيل؟ أو أن نبرر للوزير فريج وغيره مثل تلك الانزلاقات واستعمال نفس اللغة واتهامات اليمينيين بحق القادة العرب، لدرجة انه حاز على تصفيق العنصري ايتمار بن جبير؟
نعيش، نحن المواطنين العرب، في خضم أزمة حقيقية؛ وما نراه يتداعى أمامنا، منذ انتهاء عملية الانتخابات الاخيرة واقامة حكومة بينت -لبيد، بدعم من الحركة الاسلامية وحزب ميرتس، ما هي الا اعراض لتلك الازمة الخطيرة ولنتائجها.
واذا عدنا لقضية المجزرة في كفر قاسم، فسنجد انها قد حظيت عبر السنين بادانات شعبية ومؤسساتية اسرائيلية واسعة، وذلك بخلاف ما يدور من نقاشات داخل المجتمع الاسرائيلي حول مجازر اخرى نفذتها المنظمات الصهيونية، على اختلافها، بحق المواطنين الفلسطينيين في قرى ومدن عديدة خلال عامي 1947و 1948. ويكفينا ان نتذكر هنا خطوة رئيس الدولة السابق رؤوبين ريفلين، الذي قرر ، في العام 2014، مشاركة أهالي كفر قاسم في الذكرى الثامنة والخمسين للمجزرة، رغم تحذيرات مستشاريه، ووقف امام النصب التذكاري وأعلن : “جئت اليكم اليوم، كفرد من ابناء الشعب اليهودي، وكرئيس لدولة اسرائيل، كي اقف امامكم، عائلات الضحايا والجرحى، لأتألم معكم في هذه الذكرى”. لقد كان ريفلين الرئيس الاسرائيلي الاول الذي بادر بنفسه لزيارة كفر قاسم في ذكرى وجعها، محاولًا تضميد بعض من جرحها الذي ما زال مفتوحًا؛ فلماذا تغيب هذه الحقيقة عن نواب الاسلامية وعن وزراء ميرتس ؟ ولماذا لم يحاولوا اقناع حكومتهم بدعم القانون واغلاق واحدة من دوائر الدم الكثيرة في تاريخ السيرة والنسيرة الفلسطينية؟
انني أسأل وأعرف الجواب؛ فنهج نواب الاسلامية الذرائعي وتحييد دور النائب مازن غنايم الوافد من احضان القومية التجمعية، ومهادنة حزب “ميرتس” لسياسة بينت-شاكيد، أو مقايضتهم مصلحة بمصلحة، سيتسببوا بتقويض شروط تعاقدنا التاريخية مع الدولة، والى تغييب احد اركان تلك الشروط، وهو دور هويتنا الجامعة وما ترتب ويترتب عليها من حقوق وواجبات في ترسيم حدود علاقتنا مع النظام السياسي المركزي.
من المؤسف حقًا ان يسقط قانون مجزرة كفر قاسم في زمن حكومة مدعومة من نواب اسلاميين واحزاب “يسارية” وذلك ساعة اختارت فيه جريدة “هآرتس” ان تخصص افتتاحية عددها الصادر يوم الاربعاء الماضي تحت عنوان “اعتراف واعتذار وتعلم” وتختتمها بامنية قالت فيها : “الآن، مع التحالف الحالي في الكنيست، هناك فرصة لتصحيح الظلم التاريخي والاعتراف رسميًا بمسؤولية الدولة عن هذه الجريمة، والاعتذار الكامل والصادق لعائلات الضحايا ودمج قصة المجزرة في المناهج الدراسية “. ولكن .. بينت وأمثاله، من أهل اليمين والعنصريين، يعرفون معنى اعتراف دولة اسرائيل بمجزرة واحدة، ويستشعرون ما قد يترتب على تحمّلهم الرسمي لمسؤوليتها، ولذلك، لأنهم يعرفون، أنهم سوف يستمرون بمحاولاتهم لاجهاض كل مبادرة من شأنها ان تغلق هذه الدائرة، وكيلا تفتح أخرى.
لم يتردد الرئيس ريفلين، في العام 2014 ولم يحرج مثل حرجكم اليوم، حين اعلن أمام العالم وقال: “ما حصل في كفر قاسم هو جريمة نكراء يتوجب علينا أن ننظر اليها مباشرة، ولزامًا علينا ان نعلّم الأجيال القادمة عن هذا الفصل العصيب وعن خلاصاته” .. هكذا قالها بدون تأتأة وبلا مناورات.
أما عندنا فمن لم يتعلم من “قرش شدمي” لن تنقذه الخطط الخماسية ولا المليارات.