رومانسية وثورية رجاء بكرية في رواية (إمرأة الرسالة)

تاريخ النشر: 31/10/21 | 18:16

إن الأحاسيس الأنثوية المركبة التي تضمنتها رواية رجاء بكرية “إمرأة الرسالة” هي بحد ذاتها رسالة إنسانية تُعيد للرسالة المكتوبة قيمتها وهيبتها التي غيبتها التكنولوجيا، وتبث فيها جملة الحب الأولى المفعمة بالأحاسيس بكل سذاجتها ونقائها وإهتزازاتها المرتبكة، فهاجس الحب الذي يؤرقنا ذكوراً وإناثاً، ويقرع تجاويف قلوبنا كطبل إفريقي، أو يشد أوتار أمعائنا على الجوع ووخزات الألم، هو ذاته الذي يحرك فينا روح الحياة التي تٌقبل فيها نشوة –بطلة الرواية- دائماً روح حبيبها مع التوقيت الذي يزامن فيه رنين صوته عبر الهاتف عند كل صباح (12)، بهذه الجملة المختزلة أعادتني رجاء إلى سطر الحب الذي هويت من على حافته قبل سنوات خلت!!

لا أُنكر بأنني تأثرت شخصياً بهذه الرواية، وهذا هو بالضبط أجمل ما في الإبداع الأدبي، فعندما يتمكن الكاتب من إستدراج القارئ وإقناعه بالإنخراط كشريك في عمله الأدبي وكأنه جزء منه من سطره الأول، ويجعله يعيش هواجسه وإنفعالاته، حماقاته وإنكماشاته، لهفته، لحظات شوقه وبغضه، لدرجة لم يعد فيها قادراً على التمييز بين الحقيقة والخيال، هل إنسجم فعلاً مع الرواية، وإنعمس فيها، وأصبح إلى هذا الحد متماهياً معها؟! أم أن شخصية الرواية تحولت إلى جسد حي من لحم ودم، وأصبحت هي التي تحاوره وكأنهما أصدقاء قدامى؟! بالضبط، في هذا اللايقين تكمن قمة الإبداع، وهذا ما شعرت به مع رجاء التي تأخرت “رسالتها” عني حتى وصلتني بعد أكثر من أربعة عشر عاماً على كف العطاء والمحبة لصديق العزيز حسن عبادي “حسن الجسر”!!

عندما تعضك “هموم شعبك وقلبك… في الشوارع الحرة في الدول المحتلة ” (25) يتجلى الإرتباط الطردي بين الثورية وبين الرومانسية، حتى وإن هُزمت المشاعر في بعض معاركها يبقى الإنسان الأكثر قدرة على الحب، هو الأكثر مقدرة على الثورة بالمعنى الواسع للكلمة، لأن شفافية الحب والعشق تخلق شفافية الانتماء والهوية في جدلية الحب –الثورة-، القبول والرضى- الرفض والتغيير، والعكس بالعكس صحيح.

هذه هي رسالة رجاء الكرملية التي لالبس فيها، أو لم تهمس بها من على قمة الجبل أمام متطفل غريب لايمكن للصداقة معه أن تدوم مادامت عنصرية “دولته القومية” هي التي تحركه؟ وبالتالي تحرم الأصلاني المضطهد –بفعل قيامها فوق وجوده- من أبسط أحلامه، وتقيم قيامته لأن كيانها المتطفل لايمكن أن يتغذى إلا على كينونته!! وبكل وقاحة تحول عاديته اليومية إلى عمل إرهابي لتبرير كل جرائمها، وتعمل على تكييف كل القوانين التي تمنح حقوقاً للحيوانات الأليفه أكثر مما هي للأصلاني المنفي من حساباتها كإنسان (94) لكي يبقى مسجوناً في مكانه وضيعة تبقيه محاصر دائماً في قفص الاتهام، رغم أن من يقف على رأس هذه الدولة منذ سيطرتها على المكان هم القتلة ومرتكبي المجازر (78).

ومع ذلك لم تغادرنا الأحلام بغد أفضل، ولن تهرب منا، ولن نسمح لهم بأن يقتلوها، وها أنا أحلم بالشتاء الذي أحبه ونحن واقفين على عتبته، وأنتظر القمر لعله يتمكن من التسلسل عبر شباك زنزانتي، لأنني لوهلة –بقضل رجاء- نشوه- تجسدت في غسان الغائب الذي يفهم لغة الهذيان (27).

إن نثر المشاعر عبر الكلمات المكتوبة له وقع السحر عندما يجيد ناثرها انتقائها من أعماق قلبه، خاصة عندما تعبق بصراحتها الفجة أو بخثرها الخجول، فالحب الذي يسري تحت جلودنا كرعشة دفء بعد لسعة برد، هو ذاك الحب الذي يصيبنا بقشعريره الغيره بعد تساؤلات يكللها الشك، هذا هو الحب في كل تجلياته بين قطبيه المتناقضين المتصارعيين، “ولهذا الحد (لا) يغدر الحُب بالحقيقة”؟! (74).

لا يعترف الحب بالحدود التي تفصل بين قلبين أياً كانت طبيعتها، ويتحول إلى غريزة مجردة إذا أخفينا الإعتراف به، فالشهوة خيانة للحب نفسه أولاً وقبل كل شيء، لأنها تعني إستبدال الجزء بالكل، وكلما تكتمنا على الحب أكثر كلما خناه أكثر، لأن سرية الحب تكمن في خصوصيته ولا سرية في رومانسيته، كما أن الحب لايخضع لسطوة وعنترية التصنيفات الجنسانية، فمن حق المرأة كما الرجل أن تعلن حبها وتشهره بلا خجل أو خوف كما فعلت نشوة في (إمرأة الرسالة) وإلا كيف يصير الحب حباً؟! “مادام يقصف قلوب المحبين ويجفف أرواحهم بالوحدة رجالاً ونساءً” (149)، هذه هي لإجابة المبدأية على سؤال نشوه: “متى ستؤدي صيرورة العشق لشيء خارج فترينات الخيانة؟؟؟؟ (302)

لاشك أنني تجولت مع نشوة في شوارعها المحررة وتلك المحتلة، وزرت معها مدنها الفاتنة وتلك الطائشه، وتنقلنا بين حيفا الراسخة على جبل وبين لندن السابحة في الضباب، وعشنا معاملة الفلسطيني المهينة والمذلة على المعابر والحدود وفي المطار، وإن كان يحمل جنسية الدولة “القومية” وتابعنا تحريض الإعلام المُجند أثناء اعتقال غسان صقر إبن عكا العصية على التهويد والأسرلة، وإن كنت أتفهم دوافع مقولة نشوة بأن “فلسطين لم تعد فلسطين” (308)، إلا أنني في هذه الحيثية أصر على إعادة زمام النص لدرويش بأنها: “كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين” وهذه هي الحقيقة الثابتة بعيداً عن الثورية الخطابية لزعماء القضية أو إجترارات كتب التاريخ، فاقامة دولة مغتصبة فوق أرض الوطن، فلسطين، لاتُلغي فلسطينية المكان، ولا تستطيع تزوير هويته حتى وإن بقيت دولة الإحتلال قائمة على أرض فلسطين ألف سنة مما نعد أو مما يعدون!!

إن كل متر في فلسطين المحتلة، يسكنه فلسطين “ويعيشه” (311) هو متر تم إنقاذه من الضياع، هذه هي ثورية البقاء والهوية التي جسدها فلسطينيوا الداخل المحتل بكل عنفوان وتواضع، بكل الفرح والمرارة، إنها الثورية الأقوى والأصلب في تاريخ قضيتنا الوطنية، وقد صاغتها حوارية غسان ونشوة (309) في جملة مكثفه واحدة تغنينا عن كل الخطابات الرنانة التي لاقيمة لها سوى إستهلاك الأوتار الصوتية لمن يدعي الزعامة، وقصف مسامعنا بكلمات جوفاء، لأن “النكبة الأولى علمت الطوب أيضاً أن يقاوم موته” (274).

هذه الرواية جريئة جداً، وجديرة جدا بالقراءة، وفيها ثروة وثورة عاطفيتين، تُغني الروح بالهوى، وتؤجج القلب بالعشق، فالبرغم من كل مكابرات نشوه وهروبها من مواجهة الحب الحقيقي، فينتصر الحب في النهاية، وتعود لأحضان غسان الذي يرحب بالعودة إلى أحضانها، علماً أن علاقتها بكاظم ستبقى علاقة غير مبررة، وهي نفسها اعترفت بأن ما يربطها به ليس حباً (208)، كما أن لطمات غسان (300) ليست سبباً مقنعاً لإقدامها على هذه الخطوة الطائشة.

ملاحظتي الثانية تتعلق باستخدام مصطلح سجين أمني (109) وهو مع الأسف مصطلح دارج في الثقافة العامة، إلا أن تسلله للأدب أزعجني كثيراً، فهو بدعة اسرائيلية، الهدف منها إسقاط مفهوم الأسير السياسي أو مقاتل الحرية عن الأسير الفلسطيني، بغرض ربط الأسرى بارتكاب مخالفات تمس بأمن السكان المدنيين لتسهيل فكرة ربطهم الدائم بالإرهاب وكأن الإحتلال شيء غير موجود أصلاً.

غير ذلك شكراً لرجاء التي زينت زنزانتي بباقة من الحب، وأنارت فيها شمعة أمل، ونثرت على جدرانها رائحة الحياة، الأشياء التي كنت بأمس الحاجة إليها في مثل هذا المكان!!
بقلم الأسير: حسام زهدي شاهين
27-10-2021
سجن نفحة الصحراوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة